الأربعاء، 28 أغسطس 2019

( الحج .. سيرة ذاتية )

لماذا تأخر أدب رحلات الحج لأكثر من أربعة قرون ؟

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الأمة العربية في مجملها أمه بادية كثيرة التنقل والترحال والأمة الاسلامية ركنها الخامس فريضة الحج ومع الزخم الوافر لرحلات الحج إلا أن عدد قليل جدا من الحجيج من حرص على توثيق مشاهدات وذكريات (رحلتهم الحجازية). هل يكفي عذرا أن العرب أمه أمية لا تقرأ ولا تكتب لكي نفهم الفارق الحضاري بيننا وبين الامم السابقة ففي حين كان المؤرخ الاغريقي هيرودوت يوثق في القرن الخامس قبل الميلاد مشاهدات رحلاته في كتابه (تاريخ هيرودوتس) نجد أن أول توثيق للرحلات العربية (رسالة ابن فضلان) لم يقع إلا في القرن الثلاث الهجري - القرن العاشر الميلادي - بمعنى أننا تخلفنا 1500 سنة عن تقليد الاغريق في جانب أدب الرحلات. ليس هذا فحسب فحين نجد أن أول سرد موثق في كتاب مخصوص عن رحلة الحج في الحضارة الاسلامية هو ما قام به الرحالة الفارسي ناصر خسرو شاه في منتصف القرن الخامس الهجري (منتصف القرن الحادي عشر الميلادي) نجد أن الشعوب الأخرى قد قامت قبل ذلك بقرون عديدة في توثيق رحلاتها الدينية. كما هو معلوم ظهرت المسيحية كدين رسمي معترف به عام 325م زمن الإمبراطور الروماني قسطنطين وبعد ذلك بسنتين أرسل ذلك الإمبراطور والدته العجوز هيلينا لحج الأراضي المقدسة المسيحية في القدس. ونظراَ لأهمية هذه الرحلة الدينية أهتم المؤرخ الروماني يوسيبيوس من القرن الرابع الميلادي على توثيق جميع مراحلها وهي بهذا أول حجة دينية مسيحية إلى القدس لها سجل تاريخي غني وشامل. قد تكون الهند هي مهد نشوء الديانة البوذية لكن انتشارها الوسع تم في الاراضي الصينية ولهذا عبر التاريخ قام عشرات الاف من الرهبان البوذيين برحلات دينية غرباَ نحو الأماكن المقدسة البوذية في الهند. ومن أقدم الوثائق التاريخية المسجلة لهذه الرحلات البوذية رحلة الراهب الصيني شوانتسانغ التي استمرت لمدة ستة عشرة سنة والمثير في قصته أنه يتوفر مصدران كبيران لرحلات شوانتسانغ أحدهما من تأليفه نزولا عند رغبة الامبراطور الصيني والآخر من تأليف أحد مريدية ومرافقية.
وعَودُ على بدء نُذّكر بأن العرب شعب من سجيته الارتحال والسفر كما إن من عاداته المستأصلة الحديث عما حصل معه في سفره ولهذا شعر العرب في الجاهلية وصدر الاسلام مشحون بالقصائد والابيات الشعرية الطوال التي تصف الناقة أو الخيل التي يمتطيها الفارس العربي والأهوال التي طرأت عليه في اجتيازه للمفاوز والفيافي والقفار. ولكن اللغز التاريخي المحير هو لماذا أنصرف الأعراب الاقحاح لقرون طويلة عن تدوين وتوصيف رحلاتهم للحج إلى البيت الحرام حيث كما ذكرنا كان الرحالة والشاعر الفارسي ناصر خسرو هو أول شخص في التاريخ الاسلامي يصف معالم وأحداث رحلته إلى الأرض الحرام عام 439 هـ وذلك في كتابه المشهور والبالغ الاهمية (السفرنامه) والذي كتب باللغة الفارسية. لماذا لم يدّون أي من حجاج البيت العتيق من العلماء والادباء في القرون الاربعة الاسلامية تفاصيل رحلاتهم الدينية هل ذاك بسبب الورع وعدم الرغبة في الرياء والسمعة أم هو الخوف من الوقوع فيما حذر منه المؤرخ والرحالة اليوناني القديم سترابو عندما قال (كل متحدث بقصة رحلاته متبجّح).
وكالعادة في واقعنا العرب سرعان ما ننتقل من طرف إلى طرف ومن نقيض إلى نقيض، فطلب تفسير شح وقلة تسطير ذكريات ويوميات ومشاهدات الحاج في العصور الاسلامية القديمة لا يزاحمه إلا طلب تبرير طوفان سيل الحبر المسكوب والورق المكتوب لتوصيف تفاصيل رحلات الحج الحجازية التي نشرها كم غفير جدا من الرحالة والحجاج منذ مطلع القرن السادس الهجري. علما بأن اشهر الرحلات العربية مثل رحلة ابن جبير أو رحلة ابن بطوطة كان مبدأها في الاصل رحلة لأداء فريضة الحج . بكل ثقة نستطيع القول انه لا يوجد الان في تاريخ البشرية كتب مؤلفة لسرد تفاصيل الزيارة الدينية والرحلة الايمانية لأي بقعة دينية او سياحية على سطح الأرض كما هو موجود في كتب مشاهدات الاعلام إلى البلد الحرام. ولتدليل على الكثرة الوافرة من كتب أدب السفر والتحليق إلى البلد العتيق يكفي ان نشير إلى أن المؤرخ المغربي المعاصر عبدالهادي التازي عندما أهتم فقط بتوثيق الرحلات الحجازية المنطلقة من الديار المغربية استطاع سرد أخبار أكثر من مائة مستند وكتاب ووثيقة لرحالة وحجاج من بلاد المغرب سطروا ذكرياتهم المكية وتفاصيل رحلاتهم الحجازية. وهذا ما نجده في الكتاب الموسوعي الضخم الذي ألفه العلامة الدكتور التازي وحمل عنوان (رحلة الرحلات .. مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة).
بقي أن اقول أنه من وجهة نظري الشخصية أن عنوان موسوعة الرحلات المكية للعلامة التازي (رحلة الرحلات) جانبه بعض الصواب فالشطر الثاني منه (مائة رحلة .. ورحلة) هو استدعاء ولا يشك للموروث القصصي القديم (ألف ليله وليله) وما فيه من غرائب الاخبار ومخاطر الارتحال وربما كان الاولى تنزيه ربط رحلة الحج الايمانية بتهويمات الخيال الخرافية. الجدير بالذكر أنه قبل سنوات معدودة من نشر كتاب رحلة الرحلات المغربي نُشر كتاب هام عن رحلات الحج باللغة الانجليزية للكاتب والشاعر الامريكي المسلم مايكل وولف وبحكم أن الكتاب موجهة للقارئ الغربي في الاساس ولهذا يبدو أن عنوان الكتاب أُريد به (توظيف) جاذبية العنوان السحري لألف ليله وليله مع تحوير طفيف ليصبح: ألف طريق إلى مكة (One thousand roads to Mecca). في هذا الكتاب الأجنبي دلالة إضافية على وفرة الكتب المؤلفة في القرون الاخيرة عن رحلة الحج ففي حين ركز عبدالهادي التازي على الرحالة المغاربة نجد أن مايكل وولف يخصص كتابه تقريبا بالكامل لسرد أخبار سفر الرحالة غير العرب (بل وربما غير المسلمين) من الأصول الاوربية. في هذا الكتاب الضخم (656 صفحة) يوثق مايكل وولف الرحلات المكية لحوالي عشرين شخصية منحدرة من دول غربية مختلفة مثل بريطانيا وايطاليا وامريكا واسبانيا وسويسرا والنمسا واستراليا عبر فترة زمنية متطاولة تمتد لخمسة قرون تبدأ من مطلع القرن السادس عشر (عام 1503م عندما قام الرحالة الايطالي فارتيما المعروف بالحاج يونس بزيارة مكة) وحتى نهايات القرن العشرين (سنة 1990م عندما أدى المؤلف مايكل وولف مناسك الحج).
من الاخبار إلى الخواطر
بالرغم من أن مناسك و شعائر الحج ثابتة أبد الدهر إلا إن أحاسيس ومشاعر الحجاج التي تم توثيقها في الكتب يبدو أنها قد تغيرت عبر الزمن. كما لاحظنا في بداية الأمر ولمدة تزيد عن أربع قرون متواصلة لم يسطر أحد من الحجاج المسلمين أي شيء ذي بال عن رحلة الحج ثم وبظهور أدب الرحلات في ديار الاسلام كان اهتمام رواد (( الجغرافيين العرب)) ممن وثق وسجل رحلته الحجازية ينصب على (الدراسة الوصفية) لأبرز أحوال وطباع المسالك والممالك التي يمرون بها أثناء رحلة الحج. بمعنى أن الرحالة الحاج كان يركز على زيادة المعلومات الجغرافية والتاريخية عن الديار الاسلامية والبقاع المكية والاثار الحجازية.  بالمناسبة يشير علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر في مقدمة كتابه الماتع (رحلات حمد الجاسر) أنه استفاد بشكل كبير من كتب رحلات الحج في الحصول على المعلومات المتنوعة عن تاريخ بلادنا وجغرافيتها وأحوالها وربما هذا ما شجعه لاحقا لبذل جهد خاص في تقصي وتجميع كل المخطوطات التراثية عن الرحلات الحجازية ونشر كتابه الفريد (أشهر رحلات الحج).
ما سبق كان هو مساق الاخبار والمعلومات والرصد في أجواء الحج أما ما نحتاج إليه في إثبات أن الحج هو (سيرة ذاتية) وليس فقط (دراسة وثائقية) فنحتاج أن نفتش وننبش عن مشاعر الحاج وليس عن مشاهدات الحاج. الحج كما هو معلوم رحلة مشحونة بالعواطف والاحاسيس والتأملات والنقاشات وتبادل الافكار ورحلة الحج بحق كما وصفها الشيخ محمد الغزالي (رحلة روحية وسياحة عاطفية). من هذا وذاك نجد أنه ومنذ مطلع القرن العشرين اختلفت وبشكل حاد سمات ومعالم كتب رحلات الحج المكية فلم تصبح تركز علي (السرد المُجَرَد) للأخبار والمعلومات ولكن على (السبر المُجرِد)  عن أعمق مشاعر الروح عندما توجد في المشعر الحرام الذي  تسكب عند العبرات وترتفع في محيطه أنين الشهقات.
في زمن الشاشات الفضائية وطوفان معلومات الشبكة العنكبوتية في الغالب نحن لسنا بحاجة إلى كتب الرحلات القديمة لأنها تعطي وصف لمعالم جغرافية غير موجودة الان ولهذا نادر جدا من يقرأ (من غير المتخصصين) رحلة الحج للصفدي أو العبدري أو القيسي أو الجزيري أو البكري أو العياشي أو الهشتوكي فهؤلاء رحمة الله عليهم لا يعرفهم (وفي الغالب لن يعرفهم) جيل اليوم حتى وأن ذكرهم العلامة حمد الجاسر ووصف رحلاتهم الحجازية بأنها من (أشهر) رحلات الحج. في المقابل نجد أن لرحلات الحج ذات طابع الوصفي الروحاني أو الرونق الادبي أو العمق الفلسفي لها سوق رائجة وشهرة ذائعة. وبعد أن كانت عناوين الرحلات القديمة للبيت المعمور لها اسماء متكلفة ومسجوعة فمثلا كتاب رحلة الحج للعالم للفقيه المغربي ابن رشيد السبتي وهو من أعلام القرن الثامن الهجري حمل عنوانا صعب الفهم (ملأ العيبة بما جُمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة) نجد أن عناوين كتب الزمن المعاصر قصيرة وحكيمة. فهذه رحلة علامة الهند الكبير وحيد الدين خان إلى الديار المقدسة نتج عنها أحد اهم كتب الفكرية المعاصرة وهو كتاب حمل عنوان بسيط ولكن عميق (حقيقة الحج) ركز فيه على (روح) الحج ورسالته الكبرى.
الشيخ الجليل علي الطنطاوي وضع قاعدة جميلة في أدب الرحلات عندما قال (.. وأنا حين أهم بالكتابة عن بلد لا أصف أرضه ولا تحديد مساحته وحاصلاته، ولكن أحاول أن اصف مدى شعوري به ومبلغ ما له في نفسي). ولهذا نجد شيخنا الطنطاوي يختار أن يكتب خواطره الحجازية بأسلوب أدبي رفيع والأهم من ذلك أنها جاءت في سياق استخراج معاني الحج  الايمانية ودروسه التربوية ولهذا كان عنوان كتاب الشيخ الطنطاوي عن الحج (من نفحات الحرم). ومن الكتب التي نسجت على منوال الخواطر الفكرية والتأملات الروحية أثناء الزيارة لمهوى الافئدة المكي كتاب (أرض المعجزات) للكاتبة الكبيرة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) وكتاب (في منزل الوحي) للدكتور الاديب محمد حسين هيكل. وبمناسبة ذكر الروائي المصري الكبير محمد حسين هيكل فكما أنه خلّد أسمه في تاريخ الأدب العربي بكونه أول من ألّف قصة عربية حديثة (رواية زينب) فهو كذلك أول أديب معاصر يوثق رحلة حجه في كتاب ثقافي بأسلوب أدبي رفيع. صحيح أن الأديب العملاق عباس العقاد عندما سأل عن وصفه لمشاعره في الحج فكان رده (هي تُحس أكثر ما توصف) وكذلك عبر طه حسين عن أحاسيسه في أرض الحجاز بأنها (لا يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث) وربما لهذا لم يتسنى للعقاد أو طه حسين تأليف كتاب خاص عن رحلتهم للبلد الحرام. ومع ذلك نجد كوكبة أخرى من كبار الادباء يثرون المكتبة العربية بعدة كتب غاية في الروعة والثراء الأدبي تتعلق بأدب الرحلات إلى المشاعر المقدسة. ويمكن في هذا السياق ذكر كتاب (رحلة الحجاز) للأديب الظريف إبراهيم عبدالقادر المازني وكتاب (حَمَام الحمى .. يوميات حاج) للروائي المصري المعاصر جمال الغيطاني وكتاب (إسلام بلا ضفاف) لرائد القصة القصيرة العالمي يوسف إدريس. من أغرب الأمور في مجال أدب رحلات الحج أنه على خلاف الشعراء نجد أن الروائيين وكتاب القصة وإن كانوا تواجد في الحج إلا أن الحج لم يتواجد في رواياتهم الأدبية. دفق الاحاسيس وسمو العاطفة الوجدانية اثناء تأدية شرائع الحج والتواجد في أرض النسك أنتجت كم هائل من القصائد الشعرية في القرون المتأخرة وإن كانت البدايات شحيحه (كما ذكرنا ذلك العام  الماضي في مقال: الصور الشعرية للحج .. وشح البدايات). وفي المقابل هذه البيئة العاطفية الخصبة أثناء الحج لم تنتج أي عمل روائي مهم في مجال القصة أو المسرح لها ارتباط بالحج والحجيج. للأسف الشديد التاريخ يعيد نفسه فكما لم يطلع (العرب) على أدب الرحلات الحجازية إلى من خلال اللغة الفارسية في كتاب سفرنامه السابق الذكر فكذلك  لم نعرف حتى الان  أي رواية أدبية عن أجواء الحج إلا تلك التي كتبت باللغة الفرنسية وحملت عنوان (لبيك حج الفقراء) والتي هي الرواية الأدبية الوحيدة للمفكر الجزائري البارز ماك بن نبي. سبق وأن اشرنا ان الصور الشعرية عن الحج كانت شحيحة ونادرة ثم جادت القرائح بالقصائد والمطولات الشعرية فهل الأمر كذلك فيما يتعلق بالروايات والاعمال القصصية المرتبطة بالحج فهي مفقودة اليوم موجودة في الغد القادم. علم ذلك عند ربي لكننا في قمة التخلف في هذا الشأن مقارنة بالأدب العالمي فمنذ بواكير ظهور الرواية والقصة الادبية على المستوى العالمي كان للحج  ورحلة الحجيج وجود ملموس وحضور محسوس. بعض النقاد يشير إلى إن المجموعة القصصية (حكايات كانتربري) للأديب الانجليزي جيفري تشوسر والمنشورة قبل حوالي ستة قرون ربما هي أقدم الاعمال الأدبية في صورتها الحديثة وما يهمنا هنا أنها تدور عن رحلة عدد من الحجاج إلى ضريح القديس توماس في كاتدرائية كانتربري. في وقتنا الحالي يعتبر الروائي البرازيلي باولو كويلو (صاحب رواية الخيميائي ذائعة الصيت) أشهر وأهم كاتب قصة على قيد الحياة ومع ذلك كانت أول رواية ناجحة له والتي جلبت له شهرة دولية طاغية هي رواية (حاج كومبوستلا). وهي رحلة روحية وفلسفية عميقة تتقمص طريق الحج الموجود في اسبانيا المسمى مارا يعقوب وهي الطريق التي يسلكها الحجاج المسيحيون منذ القرون الوسطى إلى كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستلا في شمال اسبانيا. بقي أن نقول في الختام أنه في الفترة الأخيرة يعاني (الأدب السلامي) من تعثر في جودة الانتاج وغموض في المفهوم والابعاد وربما مساهمة كتاب القصة من رواد الرواية الاسلامية المعاصرة في سد النقص في فضاء (الحج في الادب الروائي) يكون لها صدى إيجابي لتفعيل روح ورسالة هذا الفرع الثقافي والفني الواعد.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق