شذى التعطير في كيمياء التقطير
د/ أحمد بن حامد
الغامدي
في تاريخ علم
الكيمياء يعتبر جهاز الإمبيق وعملية التقطير من المعالم البارزة في تقدم مسيرة
صنعة الخيمياء ومعجزة الكيمياء ولهذا لا غرابة أن جميع الشعوب حاولت ربط حضارتها
برابطة كيميائية وآصرة تارخية بجهاز الإمبيق. في محيطنا العربي المحلي نزعم بأن
أبو الكيمياء العربي جابر بن حيان هو من أخترع جهاز الإمبيق بدلالة أن اسم هذا
الجهاز باللغة الانجليزية هو Alembic مما يشي بأصله العربي. هذه معلومة شائعة لكن ما أربك افتخاري
العربي بهذا الانجاز انني قبل فترة قصيرة وعندما كنت اقرأ في كتاب (العلوم
والتكنولوجيا في الصين) صعقت وشرقت عندما عرفت أن أول العمليات الكيميائية المعقدة
باستخدام جهاز التقطير مثل استخراج الزئبق من مسحوق الزنجفر تمت ليس بجهاز إمبيق
فخاري عربي ولكن بجهاز نحاسي صيني. من شبة الثابت الآن من الناحية التاريخية أن معرفة
الصين لجهاز التقطير تعود في أقل تقدير إلى فترة حكم سلالة الامبراطورية الثانية
(أسرة هان) والتي وجدت في القرن الثاني قبل الميلاد أي قبل ظهور الإمبيق الحيّاني
الكوفي بثمانية قرون كاملة.
للأسف الشديد ليست
فقط الصين العتيقة هي من زاحم جابر بن حيان على شرف جهاز التقطير ولكن وصل الأمر
إلى العصر الحديث وبالذات في أرض العم سام ممثلة بالجمعية الكيميائية الأمريكية . لقد
تأسست هذه الجمعية العلمية العريقة قبل حوالي قرنين من الزمان وهي تعد حاليا وبدون
منازع أكبر جمعية علمية في العالم من ناحية عدد الاعضاء المنتسبين لها وميزانيتها
السنوية تزيد عن نصف بليون دولار. ما يهمنا هنا ان شعار هذه الجمعية ACS logo هو شكل مطور ومعقد لجهاز
التقطير يدعى kaliaappart استخدم ليس فقط لفصل
المركبات الكيميائية ولكن ايضا لتفكيكها ومن ثم تخمين تركيبها الكيميائي. وهذا
اتحاد الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية (الأيوباك IUPAC) وهو المظلة الأعم والمرجع الرسمي لعلم الكيمياء نجده هو الآخر
يفتخر بجهاز الإمبيق ويجعله في القلب من شعار الأيوباك.
وبمناسبة
(تقاطر) الذكريات والمعلومات عن جهاز التقطير
الإمبيقي حصل قبل عدة سنوات عندما كنت أتولى مهام الأمين العام لاتحاد
الكيميائيين العرب أن تقدمت إلى الزملاء والزميلات في المجلس الأعلى لاتحاد
الكيميائيين العرب باقتراح تغيير شعار الاتحاد الكيميائي إلى شعار مطور يحتوى في
القلب منه على شكل جهاز الإمبيق الذي أرتبط بتاريخ الكيمياء العربية ولكن تم
التصويت في خاتمة المطاف على الاحتفاظ بالشعار القديم الموروث.
شذى التعطير في
كيمياء التقطير
كشخص ينتمي لعلم
الكيمياء (صنعة جابر) أعترف بفضل وأثر جهاز الإمبيق على أهل الكيمياء ومن لف لفهم
وبحكم أنني كذلك ولدت وترعرعت في مدارج الطائف المأنوس فهي الحب الأول والأوحد ومع
ذلك أود أن أفصح وأبين أن لجهاز الإمبيق دور محوري في ضمان وصف (مدينة الورد City of Roses) لمدينة الطائف. مدينتي
رشيقة كنسمة هواء عاطر وأريج بخور فاخر ولهذا يستخدم فيها جهاز الإمبيق لاستخلاص
العطور ورحيق الزهور. بينما في غيرها يستخدم ذاك الجهاز المُقطِّر في فعل مدمر مثل
إنتاج الأحماض المتلفة أو الكحولات المفسدة أو الكيماويات المشتعلة أو السموم
المهلكة. كما هو معلوم للقاصي والداني اشتهرت مدينة الطائف منذ القدم ببرودة ونقاء
أجوائها وتنوع ولذة فواكهها. لكن الأمر المحير أن شهرة وتاريخ الطائف المأنوس
كمدينة للعطور ليست قديمة ويبدو والعلم عند الله أن حرفة بعض ابناء منطقة الهدا والشفا
في استخلاص زيت الورد الطائفي باستخدام أجهزة التقطير ليست غابرة في الزمن الماضي.
العديد من الرحالة العرب زاروا مدينة الطائف وبالرغم من اسهابهم في وصف أشجار
وفواكهه ومنتجات الطائف إلا انهم اغفلوا بشكل غريب الاشارة الواضحة لورد الجوري
الطائفي. ولن نذهب بعيدا في التاريخ لذكر رواد الرحالة العرب الذين زاروا الطائف
ولم يشيروا لانتشار شجر الورد بها بل يكفي الاحالة إلى الرحالة المعاصرين مثل شكيب
ارسلان وخير الدين الزركلي. تقول الاسطورة الشائعة أن أحد سلاطين الدولة العثمانية
قبل حوالي قرنين من الزمن أهدى شريف مكة عدة شتلات من شجر الورد المجلوبة من الشام. وبحكم أن هذا النوع من الورد لا يعيش
إلا في الاجواء الباردة فقد أمر شريف مكة بأن تغرس في قمة جبال الهدا والباقي
تاريخ كما يقال.
بعيدا عن أجواء
الاسطورة تشير المصادر التاريخية الثابتة أن صناعة تقطير الورد للحصول على زيت
الورد rose oil وإن كان لها تاريخ قديم
نسبيا في منطقة إيران وما حولها إلا أنها لم تنتشر وتعرف بشكل واسع على المستوى العالمي إلا أثناء حكم الخلافة
العثمانية للإقليم بلغاريا في شرق أوروبا. ولهذا عرف ذلك العطر باسم الورد
العثماني rose otto وفي عام 1888م انتقلت زراعة
الورد إلى تركيا نفسها ولهذا تعتبر مدينة إسبرطة التركية من أهم مدن العالم في
انتاج زيت الورد حيث يقال أنها مصدر 65% من الانتاج العالمي لهذا الشذى العطري.
ومن المحتمل أن زراعة شتلات ورد الجوري (أسمه العلمي Rosa
damascena) معروفة من قديم في المنطقة العربية بدلالة
أن الاسم العلمي يربطها بمدينة دمشق ولكن (انتشار) صناعة استخلاص وتقطير زيت الورد
ربما تعززت اثناء الحكم العثماني.
على كل حال ما
يهمنا الآن هو إعطاء فلاشات خاطفة عن دور الكيمياء وجهاز تقطير جابر بن حيان في
المساهمة في إضفاء الرونق والبهاء لمدينة الطائف عروس المصائف. من الناحية العلمية
رائحة الورد العطرية لا تأتي من مركب كيميائي واحد موجود في الزهور ولكن عبير الورود
هو في الواقع ناتج من خليط لعدد كبير من المكونات الكيميائية والتي أثبتت الدراسات
والابحاث العلمية انها في حالة شذى ورد الجوري قد تقارب الثلاثمائة مركب كيميائي
مختلف. من عجائب الخلق أن عدد كبير من الزهور وبالرغم من أنها تحتوي (عند تقطيرها)
على عدد هائل من المركبات العطرية إلا أن الزهرة نفسها لا رائحة لها. من هذا نعلم
تعقيد صناعة العطور وأنها تعتمد على طريقة مزج المركبات الكيميائية وكمية ونوعية
هذه الجزئيات العطرية. وبالعودة لعبير جوري الطائف نجد أن الورد يحتوى على مركبات كيميائية
عديدة من أهمها بيتا داماسينون (الاسم نسبة إلى دمشق Damascus) وبيتا أيونون وعدد من
كحوليات الورد من أشهرها الفينيل إثانول
ونيرول وسيترونيول والتي وجد أنها تشكل نسبة كبيرة من تركيب زيت الورد. ومع
ذلك وبدون منازع وجد أن أهم مادة كيميائية لها الفضل في اعطاء الاحساس بأريج الورد
هو مركب عطري اسمه أكسيد الورد rose oxide
والذي يتنمى لطائفة المركبات العضوية التي تعرف بالتربينات. على
مر السنين حاول علماء الكيمياء تحليل وتحديد سبب رائحة عبير الورد وبحكم أن كيمياء
رائحة الورد معقدة للغاية تم في عام 1968م تخصيص المؤتمر الدولي الرابع للزيوت
العطرية الذي عقد في روسيا لدراسة كيمياء روائح الورد وارتباطها الكبير بمركب
أكسيد الورد. وبسبب أهمية هذا الاكتشاف العلمي تم في تلك السنة انتاج طابع بريد
روسي يوثق ذلك الحدث العلمي البارز وقد اشتمل هذا الطابع على صورة لزهرة الورد مع
شكل التركيب الكيميائي لمركب أكسيد الورد
ولم يتم اغفال وضع شكل مبسط لجهاز
الإمبيق المستخدم في تقطير وفصل الاريج العطري.
وفي وقت لاحق
وبعد التطور الكبير في أجهزة التحليل الكيميائي الكروماتوجرافية تبين أن قصة تعقيد
كيمياء عبير الورد لم تكتمل فصولا بعد فقد اكتشف العلماء أن مركب أكسيد الورد
الموجود بالزهور يحتوي على أربع مواد كيميائية متشابهه تدعى متماكبات isomers وهي جزيئات لها نفس
الصيغة الكيميائية ولكن تختلف في ترتيب وموضع المجموعات الوظيفية الكيميائية. وهذا
يعني أن لذلك المركب (الواحد) أربع أنواع مختلفة من الروائح يتم وصفها بأن لها
رائحة حلوة ورائحة الفاكهة ورائحة النعناع ورائحة الليمون. الأمر لا يتوقف هنا
فبعد وصول هذه المتماكبات الاربع المختلطة مع حوالي 300 مركب كيميائي آخر نجد أن
هذه (الخلطة العطرية الفريدة) يتم التفاعل بينها وبين المستقبلات العصبية العديدة
داخل أنوفنا بطرق مختلفة ومن مجمل هذه المتاهة نستشعر أخيرا أريج وعبير الزهور
المختلفة.
الورد من
الكيمياء إلى الأدب
هذا التعقيد المحير
في كيمياء الورود ربما أكثر شخص كان سوف يصاب بالإحباط لو علمه به هو الاديب
الانجليزي البارز وليم شكسبير لأنه ذكر في مسرحيته على لسان جولييت (ماذا في اسم
الوردة.. الوردة بأي اسم كانت فهي حلوة الرائحة). هذا المقطع الاديب من مسرحية
شكسبير ذائع الاستخدام في اللغة الانجليزية (a
rose by any other name would smell as sweet). ويستخدم هذا الاستشهاد
الادبي في سياق تقرير أن الاسماء تدل على مسمياتها فمهما كان اسم الوردة (أو اسم
عائلة روميو) فهي بالقطع ذات عبير جميل ومتماثل. هذا من الناحية الأدبية الجمالية
أما من الناحية العلمية البحتة فكل وردة أو زهره لها أريجها المختلف من حيث (بصمة
الرائحة الكيميائية). الورود رمز للرقة والمحبة ولا أعلم لماذا يحشرها دائما شكسبير في مسرحياته الدرامية بالذات فنجدها
حاضره في الصراع بين العائلات الأرستوقراطية (مونتيجو عائلة روميو وكابوليت عائلة
جولييت) أو القتال بين العائلات الملكية
كما في حرب الوردتين بين عائلة لانكستر وعائلة يورك. تدور أحداث مسرحية شكسبير
الشهيرة (هنري السادس) عن الحرب الاهلية الانجليزية التي دامت ثلاثة عقود والصراع
الدامي على العرش بين أسرة لانكستر (شعارها الوردة الحمراء) وأسرة يورك (شعارها
الوردة البيضاء) ولهذا يقال ان أول من اطلق اسم (حرب الوردتين Wars of the Roses ) على هذه الحرب الطاحنة
كان شكسبير في مسرحيته هذه. وفي ذات السياق نجد أن أشهر رواية على الاطلاق في
الأدب الايطالي المعاصر هي رواية (اسم الوردة) للكاتب أومبيرتو إكو وبالرغم أنها رواية بوليسية غامضة
تدور عن أحداث قتل ورعب تقع في دير كنسي في العصور الوسطى إلا إن الأديب إكو Eco برر اختيار هذا الاسم
الغريب للرواية لأن (الورد له دلالة رمزية ثرية جدا بالمعاني ومع ذلك يصعب أن يبقى
له أي معنى الان). ومن هنا قد نفهم لماذا كان آخر سطر في تلك الرواية: ورود الأمس
لها الاسم فقط بينما نحتفظ فقط بالأسماء الفارغة.
في المقابل وفي
رياض الأدب العربي نجد الاحتفاء والانتشاء بالورد والجوري أكثر بهجة مما سبق
الاشارة إلية لدى أدباء القارة الاوروبية فنجد مثلا أن ابن دمشق نزار قباني يفتخر
بالورد الجوري (ذي المسمى العلمي: الورد الدمشقي) حيث يقول:
جئتكم .. من
تاريخ الوردة الدمشقية التي تختصر تاريخ العطر
ومن ذاكرة
المتنبي التي تختصر تاريخ الشعر
أنا وردتكم
الدمشقية .. يا أهل الشام
فمن وجدني
فليضعني في أول مزهرية
وهذا ابن الطائف
الشاعر الرقيق محمد الثبيتي يتغزل بجمال النزهة في أكناف المصيف:
طف بالشفا راكبا
صمت الجمال مَر النسيم على الازهار
كالخجلِ
وداعب الروض
واستسق الغمام له ذرات ماءٍ كدمع
الأعين النجلِ
طف بالطبيعة
وأحضن طلعها جذلا ودغدع الورد
والأزهار بالقبلِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق