د/ أحمد بن حامد الغامدي
وبحكم قيامي هذه الأيام بزيارة الديار
المكسيكية استحسنت فكرة إعادة تجربة كتابة ذلك المقال مع تعديل العنوان والمحتوى
لصبح عن (المكسيك بعيون عربية) وكذلك عن نبش أحافير الذاكرة العربية عن ذلك البلد
الشاهق البعد والغارق في العزلة. عندما حصل الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث على
جائزة نوبل في الأدب عام 1990م كان من أهم أعماله الأدبية التي ذكرتها الأكاديمية
السويدية في منحه الجائزة، مجموعته الشعرية (متاهة العزلة) والتي تعرض فيها باث لمعاناة
الشعب المكسيكي للعزلة وفقدان الهوية. بالجملة حتى عقود مضت كانت القارة الأمريكية
الجنوبية (أمريكا اللاتينية) في عزلة عن بقية العالم ومن هنا استخدم الأديب الكبير
غابرييل ماركيز (الحاصل على جائزة نوبل والذي عاش أغلب عمره في المكسيك ودفن
فيها)، استخدم رمزية العزلة في عنوان روايته الأشهر: مائة عام من العزلة. وعليه لا
غرابة ولا عجب أن نجد الذاكرة العربية (معزولة) عن هذا البلد الفريد ويضاف لذلك
أنه نظرا للبعد الجغرافي الهائل للمكسيك عنا فلذا كما يقال: بعيد عن القلب بعيد عن
العين ومن هنا شهادات (المكسيك بعيون عربية) كانت نادرة جدا.
الجميع يعلم الحركة الأدبية الفريدة التي
أطلق عليها اسم (شعراء المهجر) وهم كوكبة من أبرز شعراء العربية في القرن العشرين
الذين هاجروا للإقامة والحياة في العالم الجديد أي إلى (الأمريكيتين). وفي حين
حظيت الولايات المتحدة بأهم شعراء المهجر وعلى رأسهم جبران خليل جبران وإيلياء أبو
ماضي وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني نجد أن (المهجر الجنوبي) أي القارة الأمريكية
اللاتينية استوطنها الشعراء الأقل شهرة نسبيا من مثل رشيد سليم الخوري (الشاعر
القروي) وإلياس فرحات وزكي قنصل. وفي حين تجمّع أدباء المهجر الشمالي في (الرابطة
القلمية) التي كان مقرها مدينة نيويورك نجد أن أدباء المهجر الجنوبي تحلقوا حول
(العصبة الأندلسية) التي كان مقرها مدينة ساو باولو البرازيلية وكذلك (الرابطة
الأدبية) ومقرها العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. وهذا الشاعر السوري الكبير عمر
أبو ريشة كان يعمل في السلك الدبلوماسي وتولى منصب السفير في عدد من دول أمريكا
الجنوبية مثل البرازيل والأرجنتين والتشيلي لكنه لم يزر المكسيك. والمقصود أنه
بالرغم من تعدد بلدان المهجر التي استقر بها أولئك الشعراء العرب المهاجرين إلى
أمريكا وكندا والبرازيل والأرجنتين وفنزويلا وتشيلي وكولومبيا إلا أنه لا يوجد أي
شاعر أو أديب معروف هاجر واستوطن البقاع المكسيكية وهذا يعزز أنها بالنسبة للأدب
العربي هي (متاهة العزلة).
الاستثناء شبه الوحيد حصل فقط في السنوات
القليلة الماضية وذلك عندما ظهر في المكسيك مهرجان أدبي يسمى (ملتقى المكسيك
الدولي للشعر) تم من خلاله استضافة بعض الشعراء العرب كان من أشهرهم الشاعر السوري
أدونيس بالإضافة للفيف من الشعراء العرب الأقل شهرة مثل الشاعر المصري أحمد
الشهاوي والمغربي عبد اللطيف اللعبي الذي تم تتويجه في عام 2017 في ذلك المهرجان
الشعري بالمكسيك بالجائزة الدولية للشعر. ومن جانب آخر حصل استثناء إضافي فيما
يتعلق بأدب الرجل العربي المقيم في المسيك والمقصود أن بعض المقيمين في تلك الديار
من ذوي الأصول العربية أصبح لهم حضور في المشهد الثقافي المكسيك نتيجة تأليفهم
أعمال أدبية باللغة الإسبانية. ومن أهم من يستحق الإشارة هنا الشاعر ذي الأصول
اللبنانية خيمي صغبيني التي تعتبر دوواينه واسعة الانتشار في أوساط الشباب
المكسيكي وقبل عدة سنوات قام الشاعر اللبناني قيصر عفيف الذي أقام فترة في المكسيك
بترجمة بعض القصائد المختارة من أشعار خيمي صغبيني.
وفيما يتعلق بالرواية الأدبية فلا وجود
للأدباء العرب في المكسيك وإن كانت الشخصية العربية لها بعض الحضور في بعض
الروايات المكتوبة باللغة المكسيكية ومن ذلك مثلا رواية (دون سيمون اللبناني)
للكاتب المكسيك جييرمو دي أندا. بالمناسبة للعرب حضور لافت في أدب القارة
الأمريكية الجنوبية لدرجة أنه ظهر كتاب كامل حمل عنوان (الشخصية العربية في روايات
أمريكا اللاتينية) للباحث داود سلوم. وبحكم أن مشاهير كتاب أمريكا اللاتينية مثل
الكولومبي غابرييل ماركيز والروائية التشيلية إيزابيل الليندي أقاموا أغلب سنواتهم
الأدبية في المنفى المكسيك فهل الشخصيات العربية في رواية ماركيز (وقائع موت معلن)
أو رواية الليندي (إيفالونا) كانت مستوحاة من عرب المكسيك أو من عرب بلدانهم
الأصلية، هذا تساؤل يحتاج للبحث والتدقيق. من المشتهر أن أبرز رواية لغابرييل
ماركيز وهي (مائة عام من العزلة) كتبها في الواقع أثناء إقامته في مدينة أكابولكو
المكسيكية ولقد كان لزوجته مرسيدس بارشا قصة مشهورة في دعمه المادي والمعنوي أثناء
كتابته لهذه الرواية الخالدة وبقي أن نقول إن السيدة بارشا هي في الواقعي عربية
ومن أصول مصرية وهذا قد يفسر قدرة تلك الزوجة على حسن التدبير المالي.
في الواقع كما كان الحضور الأدبي في المكسيك
يعاني من متاهة العزلة فكذلك كانت الديار المكسيكية حتى زمن قريب شبه معزولة عن
الرحالة العرب فلم يصلها مشاهير الرحالة المعاصرين الذي جابوا الآفاق من مثل أمين
الريحاني أو محمد كرد على أو أنيس منصور. صحيح أن لبعض العرب تواصلا قديما مع دول
وشعوب القارة الأمريكية الجنوبية لكن في الأعم الغالب كان أولئك الرحالة من نصارى
العرب. ومع ذلك من يطلع على مذكرات القسيس العراقي إلياس بن حنا الموصلي الذي طاف
بدول أمريكا الجنوبية في نهاية القرن السابع عشر أو التاجر الأردني المسيحي خليل سماوي
الذي زار أمريكا الجنوبية في بداية القرن العشرين، لا يكاد يجد إلا شذرات محدودة
من ذكرياتهم عن المكسيك.
وهنا نصل للمرحلة المفصلية في تفعيل وتنشيط
الذاكرة العربية حيال المكسيك ففي مطلع القرن الخامس عشر الهجري وبالتحديد في يوم
السبت الواحد والعشرين من شهر ذي القعدة لعام 1401 هـ وصل عميد الرحالة العرب
معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمة الله إلى العاصمة المكسيكية. وبالرغم من
أنه أقام بها لمدة خمسة أيام فقط إلا أنه وفي كتابه الماتع كالعادة (رحلات في
أمريكا الوسطى) استعرض تفاصيل التفاصيل عن مشاهداته المطولة في هذه المدينة. وخلال
45 صفحة من ذلك الكتاب شحن الشيخ العبودي الذاكرة العربية بمعلومات ومشاهدات هامة
عن المكسيك يمكن استخدامها كمرجع لتغير حالة الجالية الإسلامية في المكسيك خلال
العقود الماضية. ففي حين لم يشر العبودي لوجود أي مسجد أو مركز إسلامي في تلك
المدينة وقت زيارته لها نجد أنه تم افتتاح أول مركز إسلامي بها عام 1995م واليوم
يوجد بها عدد من المساجد من أشهر مسجد محمد بن الوهاب لأهل السنة ومسجد أهل البيت
للطائفة الشيعية.
وكما تزايد عدد المساجد والمراكز الإسلامية
في المكسيك في السنوات العشر الأخير تزايد وبشكل واضح عدد الرحالة والسياح العرب والعديد
منهم حرص على توثيق مشاهداتهم وذاكرتهم الجمعية في وسائل متعددة سواء في قنوات
خاصة على اليوتيوب أو حسابات أخرى على وسائل التواصل الاجتماعي مثل السناب شات والإنستقرام.
وما يهمنا هنا هو ذكر الوسائل الأكثر استمرارية في حفظ (الذاكرة العربية عن
المكسيك) وهي تأليف الكتب الخاصة بما يسمى أدب الرحلات. وأهم تجربة نذكرها هنا ما أنتجه الأديب
والرحالة السوري المميز خليل النعيمي في كتابه (الصقر على الصبار: رحلات في أمريكا
اللاتينية) وعنوان هذا الكتاب يعكس الأسطورة المكسيكية المأخوذة من حضارة الأزتيك
ونجدها الآن مرسومة على علم دولة المكسيك: صقر يقف على نبتة صبار وهو يمسك بمنقاره
ثعباناً. في عام 2017م أصدر الرحالة الكويتي الشاب عبدالكريم الشطي كتابا ثريا
بالمعلومات التاريخية والجغرافية والمحشو بالعديد من الأبيات والاقتباسات الشعرية
والأدبية وعنوان ذلك الكتاب (تسكع في أمريكيا اللاتينية). وبالرغم من أن ذكرياته
ومشاهداته في المكسيك لم تكن ثرية بشكل واسع إلا أنه أطلق على المكسيك لقبل طريف
(بلد من ذرة !!) وهو بهذا يشير إلى أكلات التاكو والتورتيلا الفريدة. ونختم ذكر
كتب أدب الرحلات بالإشارة إلى كاتب (الرحلة البهية إلى بلدان أمريكا اللاتينية)
للأديب والناقد والرحالة المغربي أحمد المديني وبالمناسبة هو قد حصل قريبا على
جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة.
بقي أن أقول إنه لا يخفى على القارئ الكريم
أن ما تم تسطيره هو عن الذاكرة العربية (الوافدة) على المكسيك وهي تلك التي
الذاكرة المؤقتة التي كانت حصيلة تجربة بعض الأدباء والرحالة في الديار المكسيكية.
ومع ذلك توجد تجربة ثرية جدا ومتواصلة عن الذاكرة العربية (المستوطنة) في المكسيك
ونعني بها ذاكرة الجالية العربية المقيمة بشكل دائم في المكسيك. حسب توقعات
المنظمة الدولية للهجرة فإن مجموع ما يسمى عرب المهجر Arab diaspora
يزيد عن 13 مليون من المحتمل أن المكسيك لوحدها قد تحتوي حوالي مليون مهاجر عربي
الغالبية العظمى منهم من المسيحيين من ذوي الأصول اللبنانية والسورية. ولبعض هؤلاء
العرب المكسيكيين تأثير وحضور كبير في المجتمع المكسيكي مثل رجل الأعمال المكسيكي/اللبناني
كارلوس سليم الذي صنفته مجلة فوربس الأمريكية عام 2013 كأغنى رجل في العالم بثروة
بلغت حينها 73 مليار دولار.
وفيما يخص الوجود الإسلامي في المكسيك فهو
حتى الآن ما زال ضعيفا وغير محسوس وإن كانت أعداد المسلمين في تزايد مستمر فمثلا
قبل ثلاثين سنة كان أعداهم بالمئات فقط ويصلون في غرفة وفرتها لهم السفارة
الباكستانية بينما هم اليوم بالآلاف وعدد كبير منهم هم من الذين اعتنقوا الإسلام
ولله الحمد. على كل حال مدينة مكسيكو هي حاليا أكثر مدينة في العالم ازدحاما
بالسكان حيث يتخطى عدد سكان العاصمة وضواحيها 22 مليون شخص ولهذا في هذا الموج
المتلاطم من البشر يصعب جدا رصد أو التعرف على المسلمين من الملامح لدرجة أنني لم
أشاهد أي امرأة محجبة وذلك لندرة أهل الإسلام في هذه البيئة المسيحية الكاثوليكية الجارفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق