الأربعاء، 17 أغسطس 2022

( أخلاق الفاتحين من إسبانيا إلى المكسيك )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

ذائعة بشكل كبير تلك الشاهدة التاريخية النبيلة التي ذكرها المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الهام (حضارة العرب) عندما ذكر بأنه (ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب). لقد استحضرت هذه المقولة وأنا أستعد للسفر من مدينة برشلونة الإسبانية إلى العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي والسبب في ذلك توارد المقارنة التي تفرض نفسها في الطريقة التي فتح بها العرب أرض الأندلس بالمقارنة مع الهمجية والبربرية التي احتل بها الإسبان أرض المكسيك. بالطبع كان غوستاف لوبون يقصد بالذات فتح الجيوش الإسلامية للبلدان التي كانت تقع تحت حكم الرومان مثل بلاد الشام وأرض مصر ولهذا كانت المقارنة صارخة بين ظلم وتعسف الرومان وبين حسن تعامل العرب والمسلمين مع شعوب تلك المناطق. يقول غوستاف لوبون (كان يمكن أن يعمي فتح العرب الأول أبصارهم فيقترفون من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة وليسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم .. ورحمة العرب الفاتحين وتسامحهم كانا من أسباب اتساع فتوحهم واعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم).

وفي الحقيقة إن بعض قصص وأخبار الفتوحات الإسلامية لبعض البلدان مما تفخر به هذه الأمة فمن ذلك الرواية التي وردت في كتاب فتوح البلدان للبلاذري وساقها لاحق الشيخ الأديب على الطنطاوي بأسلوب شيق ومبدع في كتابه (قصص من التاريخ). وهي تلك القصة المعروفة عن فتح مدينة سمرقند وأن أهلها اشتكوا إلى قاضي عمر بن عبد العزير أن قتيبة بن مسلم احتل أرضهم دون أن يدعوهم إلى اعتناق الإسلام أو دفع الجزية ولهذا حكم القاضي بأن تخرج الجيوش الإسلامية من تلك المدينة لأنها خالفت السنة الشرعية في أدبيات القتال والجهاد. وقريبٌ من ذلك ما ذكره غوستاف لوبون من معاملة الصحابي الجليل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لأهل حمص (فقد ردَّ عليهم ما جباه منهم باسم الجزية عندما بلغته حشود الروم في اليرموك قائلاً: سكتنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم وغادر مدينتهم منسحباً بجيشه مما دعا أهل حمص للقول: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفع جند هرقل عن مدينة حمص مع عاملكم). ونفس هذه الحادثة المفخرة ذكرها المؤرخ الإنجليزي البارز توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) وفيه نقل نص الرسالة التي كتبها أهل حمص من المسيحيين إلى العرب عندما قالوا: يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا وأنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ولكنهم غلبونا على أمرنا ومنازلنا.

تعاون نصارى الشام مع الجيوش الإسلامية وقبولهم لحكم المسلمين طمعاً في عدلهم وبغضهم لظلم وتعسف الرومان تكرر كذلك مع الأقباط في أرض مصر. وربما هذا يفسر السهولة النسبية التي استطاع بها الجيش المسلم قليل العدد (4000 جندي) من فتح الأراضي المصرية والتي توجد بها العديد من الحاميات الرومانية المدججة بالسلاح. بل يقال إن اقتحام المسلمين لبعض القلاع المحصنة تم بسبب تعاون الأقباط معهم في تسهيل الدخول لها ومن ذلك أنه عندما حاصر عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية وعسكر بالجند حولها كان يصحبه بعض رؤساء الأقباط من المصريين. وينقل ساويرس بن المقفع الأسقف والمؤرخ القبطي الذي عاش في القرن الثالث الهجري في كتابه تاريخ بطاركة الكنيسة الإسكندرية القبطية أن البطريرك القبطي بنيامين الأول الملقب بابا الإسكندرية بعد فراره للصحراء متخفياً من الرومان لمدة 13 سنة وبعد تباشير الفتح الإسلامي لمصر كتب هذا البطريك لأتباعه يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة في مصر ويأمرهم بتلقي عمرو بن العاص والخضوع له. وفي الوقت المعاصر نجد أن المؤرخ المصري والقمص أنطونيوس الأنطوني الذي كتب عن تاريخ أقباط مصر كتب يقول (وبالجملة فإن القبط نالوا في أيام عمرو بن العاص راحةً لم يروها منذ زمان).

وكما استقبل الأقباط في مصر جنود الجيش الإسلامي كمحررين وبموافقة (دينية) مسيحية نجد أن كتائب الفتح الإسلامي عند دخولها لأرض الأندلس تم استقبالهم كمحررين بموافقة (سياسية) مسيحية هذه المرة. قبل الفتح الإسلامي للأندلس بسنة واحدة أي في سنة 91هـ حصل تغير كبير في المشهد السياسي في نظام الحكم الإسباني وذلك عندما قام حاكم قرطبة المدعو لذريق بالانقلاب على ملك القوط غيطشة واغتصب الحكم. وبعد مقتل الملك وفرار أبنائه إلى شمال المغرب حصل تحالف بينهم وبين موسى بن نصير على أن يسهلوا له احتلال الديار الإسبانية بشرط التخلص من الطاغية لذريق. وخلال أشهر قليلة تم فتح معظم مدن جنوب الأندلس والغريب أنه كان للإسبان بعض التعاضد في هذه الفتوحات فتعاونوا مع المسلمين في حصار مدينة إستجة بينما كانت قرمونة مدينة صعبة ليس في الأندلس أحصن منها ولذا اتفق موسى بن نصير مع جماعة من القوط أن يفروا من أمام الجيش الإسلامي ويتوجهون للاحتماء بحصن قرمونة فإذا أدخلهم أهل المدينة يأتي لاحقا موسي بن نصير بخيله ويفتح له هؤلاء المتعاونون أبواب الحصن.

الإسبان وتدمير الحضارات الثلاث

وبالجملة بعد اكتمال الفتح الإسلامي للأندلس ضمن المسلمون لأهل البلاد الأصلية في إسبانيا حرية العبادة والتملك بل وتولي أعلى المناصب في المجتمع وهو ما سبق أن تمتع به نصارى الشام وأقباط مصر ولهذا أطلق الغربيون قبل العرب على الأندلس بأنها (واحة التسامح في أوروبا) وزمن حكم العرب لها بأنه العصر الذهبي لتعايش الأديان. للأسف كل ذاك البريق الأندلسي تبدّل وكان منطلق التغير من مدينة برشلونة التي تبين لي أثناء زيارتي لها أنه لا أثر على الإطلاق للوجود العربي بها. وبعد أن كانت برشلونة القاعدة المؤقتة للجيوش الإسلامية في القرن الثاني الهجري لمحاولة غزو وفتح فرنسا وإذا بها بعد عودتها للهيمنة المسيحية لتصبح عاصمة مملكة أرغون ومن ثمّ باتت هي قاعدة حروب القشتاليين لاسترداد Reconquista المدن والممالك العربية الواحدة بعد الأخرى.

أخلاق الفاتحين العرب سمحت ببقاء نصارى الشام وأقباط مصر ويهود فلسطين واليمن والمغرب منذ فجر الفتوحات الإسلامية وحتى الآن بينما شناعة التعصب الديني والعرقي لنصارى إسبانيا أفرزت المحو التام للوجود العربي والإسلامي في الأندلس من خلال محاكم التفتيش الشنيعة وكذلك بواسطة التنصير الإجباري للموريسكيين وأخيرا طردهم إلى خارج إسبانيا. وفي حين كانت مدينة غرناطة آخر معاقل الإسلام في الأندلس تسقط في الثاني من شهر يناير لعام 1492م تحت حكم فرديناند وإيزابيلا نجد هذا الملك والملكة يوفران الأموال والسفن للمغامر الإيطالي كولومبوس لكي يبحر في الثالث من شهر أغسطس من تلك السنة (1492م) لاكتشاف العالم الجديد في القارة الأمريكية. بالمناسبة صحيح أنه قبل حوالي ثلاث سنوات انتشرت موجه إسقاط تماثيل كولومبس التكريمية من عدد كبير من ساحات وحدائق المدن العالمية وإيقاف الاحتفال بما يسمى (يوم كولومبوس) وذلك نتيجة للمحاكمة التاريخية المتأخرة للجرائم التي قام بها كولومبوس والجنود الإسبان ضد السكان الأصليين في جزر أمريكا الوسطى. لكن شناعة التاريخ الأسود لكولومبوس في إبادة واسترقاق أهل الجزر الكاريبية لا تقارن على الإطلاق بالجرائم والفظائع التي اقترفها جنود الإسبان عند غزوهم للأراضي المكسيكية.

حصل ذلك بحوال ثلاثة عقود من سقوط غرناطة عندما نزل المغامر الإسباني (الكونكيستدور) هرنان كورتيس بيزارو على ساحل يوكاتان المكسيكي عام 1519م وفي واحدة من أغرب الأحداث في التاريخ حيث توجه ذلك المغامر الشاب برفقة 630 جنديا فقط وبعض الخيول لغزو عاصمة إمبراطورية الأزتيك أعظم وأضخم دولة في تاريخ القارة الأمريكية. في بداية الأمر لم يقابل الشعب المكسيكي الجنود الإسبان بالعداء لأنهم ظنوا أن بيزارو ذو الجلد الأبيض المختلف عنهم إنما هو تجسيد لأحد آلهة الأزتيك. وبسبب عدم معرفة أهل المكسيك لحيوان الحصان والعجلات والبنادق والمدافع استطاع ذلك العدد القليل من جنود الإسبان ليس فقط اقتحام عاصمة الأزتيك بل وكذلك أسر الإمبراطور المكسيكي مونتيزوما وقتله لاحقا ونهب وسرق ثروات مملكته. كان أحد الجنود الذين رافقوا بيزارو في غزو المكسيك هو الكونكيستدور برنال كاستيلو الذي زعم أنه شارك في 119 معركة ونشر شهادته في كتابا خاصا أصبح أحد أهم المراجع لوقائع جرائم الإسبان ضد شعب المكسيك. ومن ثنايا كتاب برنال كاستيلو وكذلك من شهادة الراهب الدومينيكي دي لاس كاساس الذي عاصر غزو المكسيك وألّف كتاب عن (تدمير جزر الهند) وأرسله للملك الإسباني فيليب الثاني، نعلم بعض أسرار الجرائم التي ارتكبها جنود الإسبان ضد السكان الأصليين. في الوقت الحالي تعتبر شخصية كورتيس بيزارو من الشخصيات الممقوتة جدا لدى الشعب المكسيك وقبل عقود طويلة تم منع إقامة تمثال له في إحدى المدن المكسيكية كما يحصل الآن من إزالة تماثيل كولومبوس.

وفي الختام نقول إنه كما أزال الإسبان أي أثر للدين الإسلامي واللغة العربية في الأندلس نجد أن القوة الغاشمة للجنود الإسبان تسببت في سنوات قليلة في تدمير عاصمة إمبراطورية الأزتيك والزوال النهائي والكامل من وجهة التاريخ لهذه الأمة العريقة في تاريخ الحضارات البشرية. تشير التقديرات التاريخية إلى أن عدد سكان حضارة الأزتيك عندما وصل لها الإسبان كان حوالي 15 مليون شخص كما أن عاصمتهم المسماة تينوتشتيتلان ربما كانت أكبر من أي مدينة أوروبية في ذلك التوقيت ومع ذلك تلاشت تلك الحضارة بسبب عنف وبربرية الجنود الإسبان المخربين.  لقد زرت أطلال أهرامات حضارة الأزتك في منطقة تيوتيهواكان التي تبعد حوالي 50 كيلومترا شمال شرق العاصمة مكسيكو ستي وبالرغم من أن تلك المنطقة قد تضررت واندثرت بالفعل قبل وصول الإسبان إلا أنني أجزم أنها لم تكن لتصبح أرض خراب بالكامل لولا تأثير الإسبان المدمر. الجدير بالذكر أن جنود الإسبان بعد وصولهم بسنوات قليلة عام 1519م إلى المكسيك ووصلوا كذلك عام 1528م إلى البيرو وتسببوا في الانهيار السريع والتام لحضارة شعب الإنكا المنتشرة في ذلك الزمن في البيرو والإكوادور وبوليفيا. صحيح أن حضارة شعب المايا أصابها الوهن والتدهور قبل وصول الإسبان إلى أراضي أمريكا الوسطى، ولكن في ضوء ما سبق ذكره ليس من المستغرب أن حضارة المايا تلاشت بالكامل بعد وصل الإسبان. والغريب أنه في نفس تلك الفترة تقريبا وبالتحديد في عام 1521م اجتاحت الجيوش الإسبانية جزر الفلبين وحولتها بالبطش والقتل من جزر ينتشر فيها الإسلام (اسم العاصمة مانيلا يقال إنه تحريف لعبارة: في أمان الله) إلى كيان مسيحي متعصب وتحول اسم البلاد إلى (الفلبين) نسبة إلى اسم ملك الإسبان فيليب الثاني.

من هذا وذاك من الأحق بالوصف أنه نشر دينه وحضارته ولغته بالسيف والقتل والتدمير !!

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق