د/ أحمد بن حامد الغامدي
مع الأيام الأولى من مطلع كل عام هجري جديد أقوم بإكمال عملية حصر الكتب التي قرأتها في العام المنصرم فمثلا السنة الماضية قرأت ولله الحمد 37 كتابا باللغة العربية و12 كتابا باللغة الإنجليزية و26 رواية أدبية. وفي العادة أواجه صعوبة في اختيار (كتاب العام) لكل فئة من هذه الفئات، ولكن هذه المرة وفيما يخص اختيار (كتاب العام الإنجليزي) لم أتردد كثيرا في انتقاء كتاب (Uncle John`s Bathroom Reader). في الواقع ذلك الكتاب الذي قرأته كان أحد أجزاء سلسلة كتب (قارئ الحمام للعم جون) والكتاب الذي أطلعت عليه كان مخصصا عن التاريخ في حين أن بقية الأجزاء الـ 46 الأخرى من هذه السلسلة هي كتب منوعات أو كتب متخصصة في مجالات تاريخية أو جغرافية محددة. بقي أن أقول أو أن أعترف بمعنى أصح أن ذلك الكتاب الإنجليزي الضخم ذو الـ 484 صفحة قرأته بالكامل وأنا في الحمام وبشكل متدرج كل يوم تقريبا لمدة 11 شهرا.
منذ مطلع القرن التاسع عشر وبالتزامن مع موجة انتشار شراء وقراءة الصحف الورقية في المجتمع الأمريكي انتشرت عادة قبيحة وهي أن يقوم البعض من القراء بالاطلاع على جريدة الصباح وهو جالس على كرسي المرحاض ثم بعد أن يقضي حاجته المغلظة يستخدم ورق الجريدة لمسح مؤخرته. في تلك الفترة كان الأغنياء وميسوري الحال هم من يستطيع شراء لفافات المناديل الورقية لاستخدمها في الحمام ولهذا كان بعض العالمة من الشعب الأمريكي يستخدمون ورق الجرائد للنظافة الشخصية، بل توجد إشارات أن البعض ربما كان كل يوم يطالع في بعض صفحات الكتاب الضخم للقاموس اللغوي ثم ينزع تلك الصفحات ويتنظف بها !!. وهذا اللورد البريطاني فليب ستانهوب وهو أحد رجال الدولة والأدب والفكر في زمانه يكتب رسالة في عام 1747م إلى ولده ينصحه أن يقلد أحد الأدباء الذي قال عنه إنه كان يقتطع بعض الصفحات من كتاب فن الشعر للناقد والشاعر الروماني القديم هوراس، ثم بعد أن يقرئها في المرحاض وهو يقضي حاجته يستخدم تلك الأوراق في الشعر اللاتيني في نظافة جسمه ويلقى بها كتضحية وقربان لكلوسينا ربة المجاري عند الرومان.
على كل حال تلك العادة القبيحة كان لها جانب إيجابي وهي ربط شريحة من المجتمع بالكتاب والقراءة ولهذا منذ عقود وسنوات طويلة تم إنتاج وطباعة كتب متنوعة صممت لكي تقرأ والشخص جالس على كرسي المرحاض. ومن هذا الإرث القديم للترابط بين الحمام وقراءة الكتب قام العم جون جافنا السالف الذكر في عنوان الكتاب الإنجليزي (بالمناسبة الأمريكان في لغتهم الدارجة يكنون عن المرحاض بعبارة: السيد جون Mr. John) مع شقيقة جوردن في عام 1987م بتأسيس ما يسمى (معهد قراء الحمام) وهو معهد يهدف لنشر ظاهرة وثقافة قراءة الكتب في الحمام. وهذا ما أثمر في نهاية المطاف تعاون العشرات من الكتاب والمؤلفين الذين يساهم كل واحد منهم بكتابة موضوع أو مقالة مختصرة في مجالات منوعة في التاريخ والأدب والعلوم والسياسة والرياضة وغيرها يتم تجميعها في سلسلة من الكتب ينشر منها كتاب واحد كل عام. وكما ذكرنا عدد هذه الكتب من هذه السلسلة الآن حوالي 47 كتاب وبلغ عدد الكتب المباعة منها أكثر من عشرة ملايين كتاب وحسب صفحة الانترنت لمعهد قراء الحمام فإن عدد المسجلين لديهم يبلغ 40 ألف عضو موالي ومخلص لهذه الحركة الثقافية الفريدة.
الغريب في الأمر أن (ظاهرة) القراءة في الحمام منتشرة بشكل واسع في المجتمع الأمريكي حيث تشير بعض الإحصائيات أن حوالي 40% من الأمريكان يقرؤون في الحمام الجرائد أو الكتب أو المجلات لكي يزاوجوا بين تلبية نداء الطبيعة ونداء حب الفضول والثقافة وتزجيه الوقت. وبمناسبة ذكر الإحصائيات يقال أن الشخص العادي في المتوسط يقضي خلال حياته أكثر من ألفي ساعة وهو في الحمام وهذا زمن طويل جدا ولهذا ظهرت حملات في الغرب لمحاولة تشجيع ونشر ثقافة القراءة والاطلاع في دورات المياه. ومن ذلك مثلا أن شهر يونيو (أي الشهر الماضي وبداية الصيف) تختاره بعض الدول لكي يكون (شهر القراءة في الحمام) في حين نجد في الولايات المتحدة تم اختيار يوم 29 من شهر فبراير لكي يصبح (اليوم الوطني للقراءة في مغطس الحمام). وحتى يتم مساعدة القراء على اختيار الكتب المناسبة للاطلاع في الحمام ظهر تيار ثقافي يحمل اسم (أدب دورة المياه Lavatory literature) يشارك في انتاج الكتب المناسبة لهذا الغرض كما تقوم أندية القراء (مثل موقع Goodreads) وموقع أمازون للكتب وبعض الملاحق الثقافية للصحف الكبرى باقتراح قوائم مطولة لأفضل الكتب التي ينصح بقراءتها من فوق كرسي المرحاض.
والطريف في الأمر أن هذه الظاهرة أو العادة السلوكية انتقلت للشعوب الشرقية لدرجة أنه يوجد حاليا في الأسواق اليابانية (أوراق تواليت) المستخدمة في دوارة المياه له حجم صفحة الكتاب متوسط الحجم وكذلك هي كثيفة الطبقات ويبلغ الطول الإجمالي للفة الورق حوالي 30 متر، وبقي أن نقول إن ورق التواليت هذه مكتوب عليه ملخص لبعض الروايات الأدبية اليابانية والتي تقرأ بالتدريج كل يوم ورقة أو ورقتين.
القراءة في الحمام .. شروط ومحاذير
ما سبق استعراضه في الفقرات الآنفة يشي بأن ظاهرة قراءة الكتب من فوق كرسي المرحاض ليست فقط شائعة في المجتمعات الغربية بل هي قديمة وشبه متزامنة مع ظهور الصحافة الورقية، أما في واقعنا العربي فلا أعتقد أن هذه الظاهرة أي إدخال الكتب إلى الحمام (وليس عادة القراءة في الحمام وهنا يوجد فرق سنوضحه لاحقا بمشيئة الله) هي في الغالب ظاهرة نادرة جدا. السبب في ندرة هذه العادة السلوكية هو ما تربينا عليه وتعلمناه من حرمة إدخال الأوراق أو الكتب التي يذكر فيها اسم الله عز وجل إلى دورات المياه والأماكن النجسة. ومع ذلك توجد إشارات في التراث الإسلامي العريق أنه قد تم استحداث مخرج شرعي لهذه القضية ومن ذلك ما ورد في بعض المصادر أن جد أبن تيمية الفقيه الحنبلي أبا البركات أبن تيمية كان يأمر أحد أحفاده إذا دخل الخلاء بأن يأخذ أحد الكتب ويقرأ بصوت عال حتى يسمعه وبهذا يستفيد من الاستزادة من العلم مع محاولة تنزيه الكتب الشرعية من أماكن القذر. وبالرغم من أنه قد مرّ على شذرات أخبار عن أشخاص ربما لديهم عادة قراءة الكتب في الحمام مثل الكاتب الشاب عبدالمجيد تمراز صاحب كتاب (جنوني مذهبي في القراءة) إلا أنه لم يتضح لي تماما هل هم يقرؤون مطبوعات مكتوبة باللغة العربية أو بلغة أجنبية. قناعتي الشخصية أن إدخال وقراءة كتاب عربي داخل الحمام ومن فوق كرسي المرحاض فعل قبيح لا يقبل بأي وجه من الوجيه ومع ذلك أنا أعترف كما سبق الإشارة إليه أنني قرأت أكثر من عشرة كتب باللغة الإنجليزية (أحدها وهو كتاب التاريخ السري للعالم يحتوي على 577 صفحة) وأنا في دورة المياه.
في الواقع قصتي مع هذه العادة الجديدة على أجواء قراءة الكتب بدأت قبل عدة سنوات عندما مرت علي مقولة الكاتب الأمريكي المشاغب هنري ميلر (كل قراءاتي الجيدة – يمكن أن تقول – حصلت في دورة المياه) وهي مقولة وردت في رواية (ربيع أسود) والتي هي أشبه بالسيرة الذاتية له وخبايا تشرده في مدينة باريس ومنها أنه كان ينام في دورات المياه وليس فقط كان يقرأ فيها. ويضاف لذلك أن من يطلع على كتاب هنري ميلر الواسع الانتشار (الكتب في حياتي) وبالتحديد الفصل الثالث عشر والذي تم ترجمه عنوانه باللغة العربية ليصبح (القراءة في المرحاض) يجد هنري ميلر يناقش بأسلوب ساخر خلال صفحات طويلة هذه الظاهرة المتعلقة بأدب الحمامات. ومن طرائف ما ذكره هنري ميلر أنه سمع من أحاديث أصدقائه المقربين أن البعض يضع في دورة المياه أرففا للكتب (حيث تنتظرهم مادة القراءة .. كما يحدث في غرفة طبيب الأسنان). كما أنه أشار أنه شاهد في فرنسا نوع لمرحاض مشابه لفكرة كرسي الحمام العربي حيث إن هذا المرحاض ( فقط حفرة في الأرض .. فالمرء لا يجلس بل يقرفص) وهنا علّق هنري ميلر أن هذا النوع من المراحيض لا يلائم عملية القراءة لأنه (لا تخطر القراءة على البال أبداً، فالمرء يرغب في الانتهاء من العمل بأسرع ما يمكن).
في حين يشير هنري ميلر بوضوح أن المكان المفضل له للقراءة عندما تقدم به العمر هو في الغابة ولكنه مع ذلك يعترف بصراحة أكبر أنه في مرحلة أوائل الشباب قد قرأ الكتب الكلاسيكية في دورة المياه وهذا ما عناه بأن كل قراءاته الجيدة حصلت من فوق كرسي المرحاض. والغريب أن حتى عملية (الكتابة) العميقة والإبداعية و(الثورية) يمكن أن تتزامن مع لحظة الجلوس على كرسي المرحاض فمنذ عدة سنوات والألمان يفخرون ويسعدون أنهم وجدوا كرسي المرحاض الذي كتب وهو جالس عليه رجل الدين البارز مارتن لوثر احتجاجاته ورسائله الـ 95 التي أطلقت عصر الإصلاح الأوروبي وأثمرت ظهور البروتستانتية. والأغرب من ذلك أن الوقت الشخصي المستقطع في الحمام أثناء قضاء الحاجة يمكن أن يرد في سياق الإبداع الأدبي إذا صحت التسمية والوصف وهذا ما حصل لي عندما صدمت وأنا أقرأ صفحات مطولة من الرواية المفصلية في تاريخ الأدب الغربي الحديث. وأقصد هنا رواية (عوليس Ulysess) للكاتب الإيرلندي البارز والمشاكس أيضا جيمس جويس وفي هذه الرواية التي توصف بأنها الأكثر تأثيرا في أدب القرن العشرين نتابع خلال يوم واحد فقط الأحداث التي تمر ببطل الرواية ليوبولد بلووم. وما يهمنا هنا هو المقطع المطول عن استجابة بلووم لنداء الطبيعة ودخوله الحمام لقضاء الحاجة وكيف أنه اصطحب معه مجلة Titbits المنوعة والتي تحتوي على قصة أدبية قصيرة قرأها ثم قطّع تلك الأوراق من المجلة لكي يمسح بها مؤخرته !!.
وفي الحقيقة توجد تحقيقات مطولة بل كتب كاملة عن تاريخ الحمام وتأثير المرحاض في المسيرة البشرية (مثل كتاب: كيف غير المرحاض التاريخ للباحثة الأمريكية لورا بيردو)، ومن هذا وذلك مما سبق ذكره تسربت لي في السنوات الأخيرة فكرة القراءة في الحمام وفق شروط صارمة. أولا يحرم إدخال الكتب العربية للحمام ويقتصر فقط على الكتب المطبوعة باللغة الإنجليزية. ثانيا لا يسمح إلا بقراءة الكتب الإنجليزية المتعلقة بالمواضيع العلمية البحتة أو المجالات التاريخية والسياسية الصرفة لأن الكتاب الغربيين لا يربطون الله سبحانه وتعالى بهذه المجالات ولا يرد ذكر الله فيها. وبحكم أن القراءة شيقة في الغالب ولهذا الشرط الثالث ألا تزيد مدة القراءة في الحمام عن قراءة صفحة أو صفحة ونصف على الأكثر.
وفي الختام أستطيع أن استشعر حالة الاشمئزاز وربما السخط عند البعض من القراء الكرام على طرح هذا الموضوع (المسكوت عنه) ومع ذلك أرجو أن يتلطف القارئ الكريم أن أذكره مرة أخرى بعنوان هذا المقال (ثقافة دورات المياه .. والقراءة في الحمام). وربما لم ينتبه القارئ الكريم أنني تعمدت إسقاط كلمة (الكتب) من العنوان بمعنى أن العنوان لم يكن بالشكل التالي (ثقافة دورات المياه .. وقراءة الكتب في الحمام). وربما سوف أصدم القارئ الفاضل (المشمئز) أن ظاهرة (القراءة) في الحمام منتشرة جدا جدا وهنا بالطبع أنا أقصد أن الغالبية العظمى منا اكتسبت خلال السنوات الماضية العادة السلوكية الجديدة المتمثلة في إدخال (الجوالات والهواتف الذكية) إلى دورة المياه عند الجلوس على المرحاض. في استطلاع للرأي نشر قبل عدة سنوات وشمل 1200 شخص في الولايات المتحدة أعترف حوالي 73% منهم أنهم يستخدمون الهواتف النقالة داخل الحمام في حين أن الكارثة أن هذه النسبة ترتفع في فئة الشباب لتصل إلى حدود 93% ممن يتصفحون شاشة الجوال وهم على كرسي المرحاض. والجدير بالذكر أن دراسات واستطلاعات مشابهة حول ظاهرة استخدام الجوال في الحمام أجريت في العديد من الدول الأوروبية وأعطت نسب مئوية مقاربة لما تم رصده في أمريكا وعليه نتوقع أن نسبة مئوية مشابه من أفراد المجتمع العربي في حدود 70% لديها نفس هذا السلوك (إدخال الجوال إلى دورة المياه).
وفي استقراء إحصائي منشور في صيف عام 2023م على موقع Statista يشير إلى أن نسبة من يستخدمون الجوالات في إرسال رسائل إلكترونية تبلغ 71% بينما النسبة المئوية لاستخدام الجوال لقراءة الأخبار تبلغ 52 بالمائة. وعليه لو افترضنا أن نشاط استخدام الجوال من فوق كرسي المرحاض له نفس أنماط السلوك السابق في التعامل الاعتيادي مع الجوال فهذا يعني أن الغالبية العظمى ممن يأخذ الجوال معه إلى الحمام سوف يستخدمه لنشاط (قراءة) النصوص من على شاشة الجوال سواء كانت تلك النصوص تغريدات تويتر أو رسائل قروبات الواتساب أو حتى تفقد حساب الإيميل الالكتروني.
مما سبق لعله يتضح الآن أن الظاهرة الأعم فيما يتعلق بالقراءة في الحمام، هي في الواقع قراءة (النصوص) من على شاشة الجوال وليس فقط قراءة الكتب في الحمام، ومن المحتمل أن هذه الظاهرة والعادلة السلوكية واسعة الانتشار لدرجة أنني لا أستبعد أن أحد القراء الكرام هو حاليا في الحمام أثناء قراءته لسطور هذا المقال من جواله !!. وبحكم أن أغلب هذه المقاطع النصية التي تقرأ عبر الجوال داخل الحمام هي باللغة العربية وربما تتضمن محتوي دينيا لذا نحن جميعا بحاجة إلى تحديث الفقه الشرعي فيما يتعلق (بآداب قضاء الحاجة). في الفقه الحنبلي وفي كتاب المغني لابن قدامة وعند الحديث عما يخص آداب دخول الخلاء توجد إشارة لطيفة أن الشخص إذا كان يضع في أصبعه خاتم منقوش عليه اسم الله عز وجل فإن من الأدب عند دخول الخلاء أن يدير فص الخاتم إلى باطن كفه. ومع تفشي ظاهرة استخدام أجهزة الجوال الحديثة التي كثيرا ما نقرأ من خلالها الرسائل والنصوص العربية ونحن على كرسي المرحاض يجب علينا أن نعيد تعريف وتدريس (آداب قضاء الحاجة) بنسخة مزيدة ومنقحة لزمننا المعاصر.
موضوع القراءة في دورات المياة وإن كان غير منتشر في ثقافتنا العربية للأسباب التي ذكرتها إلا أني اظن اني قد وقفت على علماء كانوا يجدون طريقة لاستغلال هذا الوقت وعدم هدره وقد أورد عبدالفتاح ابو غدة في كتابة قيمة الزمن عند العلماء بعض مم هذه الاخبار ومنها جاء في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الإمام أبي حاتم:
ردحذفقال ابنه عنه:
أنه كان يأكل واقرأ عليه،
ويمشي واقرأ عليه،
ويدخل الخلاء واقرأ عليه!