السبت، 27 يوليو 2024

( البحر الأحمر وتاريخ الحروب الاقتصادية )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

المطلع على التاريخ القديم يلحظ بسهولة بالغة دور البحر الأبيض المتوسط في تشكيل معالم السياسة والحضارة البشرية منذ ثلاثة آلاف سنة وحتى الآن وإلى حد ما للخليج العربي دور ملموس في تطور الحضارة في بلاد الرافدين لدرجة أن جزر البحرين وبحكم توسطها على طريق التجارة البحرية القديمة نجد أن العمق التاريخي لحضارة دلمون (الاسم القديم للبحرين) ربما يرجع لأكثر من خمسة آلاف سنة.

في المقابل لطالما تعجبت أن البحر الأحمر (بحر القلزم) مقزّم وغائب تماما عن سجلات الحضارة العربية القديمة لدرجة أن أشهر الأبيات الشعرية التي ذكرت في الأدب العربي القديم ووردت فيها الإشارة للسفن مثل السفن العدولية المذكورة في شعر طرفة بن العبد أو سفن عمرو بن كلثوم التي تملأ ظهر البحر هي كلها مرتبطة بالساحل العماني أو ساحل هجر على الخليج العربي. ويبدو أن البحّار العربي الكبير ابن ماجد ولأنه من ساحل عمان ومعتاد على سهولة الإبحار والرسو في موانئ طريق التجارة للهند والقرن الإفريقي واجه مشاكل في إبحاره عبر البحر الأحمر ولهذا تنقل المصادر التاريخية قوله الصادم (بحر القلزم أوسخ بحور الدنيا). وربما السبب في هذا الحكم القاسي هو كثرة الشعب المرجانية والصخور الحادة في شواطئ البحر الأحمر، ويعزز ذلك وصف الجغرافي الإدريسي لبحر القلزم بقولة (وهو بحر مظلم كرية الروائح وحش الجزائر، لا خير في ظاهرة ولا في باطنه). أمر آخر هو أن البحر الأحمر عبارة عن ممر مائي طويل وضيق وعميق جدا واجتماع هذه الأوصاف تجعل أمواج البحر عاتية ومرتفعة عند هبوب الرياح ولذا أمواج البحر الأحمر في المتوسط ارتفاعها ضعف أمواج الخليج العربي. ومن هنا ربما قد نفهم لماذا تجنب العرب قديما ركوب أمواج بحر القلزم ولماذا نهى الخليفة الفارق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ركوب البحر بعد أن سمع من عمرو بن العاص وصف حال السفينة في البحر ( .. وهم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق).

والغريب أن تاريخ مدينة جدة باهت في التاريخ الإسلامي القديم ولم ينتعش ذكرها إلا بعد أن تم تفعيل ميناء عيذاب في منطقة حلايب السودانية في القرن الخامس الهجري ومن بعد ذلك التوقيت بدأ الرحالة العرب من مثل ابن جبير وابن بطوطة يذكرون تفاصيل رحلة سفرهم للحج عبر البحر الأحمر باستخدام السفن بين ميناء عيذاب وثغر جدة. وهكذا وبتدرج بطيء تزايدت أهمية دور بحر القلزم في نقل الحجاج وتنشيط التجارة بين طرفي السواحل الشرقية والغربية لبحر (الحجاز) الذي أصبح بحيرة إسلامية يمنع دخول سفن غير المسلمين لها. وعلى كل حال من عام 579 هجري (1183م) سوف يتغير مستقبل البحر الأحمر ليصبح أحد أدوات الحرب الشاملة وحرب الاستنزاف التي يحاول العدو الصليبي والأوروبي غزو قلب العالم الإسلامي من خلالها. قبل استعادة صلاح الدين لمدينة القدس في عام 583هـ تطور الصراع مع الأمارات الصليبية في فلسطين لدرجة أن قام أمير الكرك الصليبي أرناط (رينالد دي شاتيون) باحتلال مدينة العقبة وبعد أن أصبح له موضع قدم على ساحل بحر القلزم سرعان ما أمر ببناء أسطول بحري حاول من خلاله إثارة القلاقل في الموانئ الإسلامية عن طريق حرق سفن الحجاج في ميناء عذيب سالف الذكر. وكمحاولة لإنهاك ومشاغبة صلاح الدين اقتصاديا توجهت السفن الصليبية لأسطول أرناط إلى باب المندب وكذلك إلى عدن في محاولة للسيطرة على حركة التجارة البحرية واستطاعت بالفعل القرصنة على عدد من السفن التجارية العربية. ولكن بحمد الله ومن ثم بحنكة صلاح الدين واستجابته السريعة لهذا الخطر والمسارعة بإنشاء أسطول حربي عربي تم إفشال محاولة الصليبيين السيطرة على البحر الأحمر من خلال مدينة العقبة شمالا ومحاولة احتلال مدينة عدن جنوبا.

بعد سقوط آخر المعاقل الإسلامية في الأندلس ممثلة في مدينة غرناطة عام 1492م وظهور الإمبراطورية الإسبانية التي سيطرت على النصف الغربي من الكرة الأرضية (بالخصوص أمريكا الوسطى واللاتينية) تزامن ذلك مع بزوغ الإمبراطورية البرتغالية والتي سيطرت حسب مرسوم بابا الفاتيكان ألكسندر السادس ومعاهدة توردسيلاس على نصف الشرقي للكرة الأرضية وهذا ما فتح لها المجال لمحاولة احتلال الهند. وما يهمنا هنا أن الأساطيل البرتغالية حاولت إضعاف العالم الإسلامي من خلال إغلاق طريق الحرير البحري وخنق التجارة بين دولة المماليك في مصر وبين الهند. ولضمان تحويل التجارة العالمية بين الهند أوروبا عبر مسار رأس الرجاء الصالح الملاحي، ليس فقط حاول البرتغاليون احتلال عدن والسيطرة على مضيق باب المندق بل بلغت بهم الجرأة الأثيمة لمحاولة احتلال ميناء جدة وتهديد البلد الحرام في مكة المكرمة.  في عام 1517م قام الأسطول البرتغالي بفرض حصار حول ميناء جدة لكن من لطف الله أن هبت عاصفة بحرية شتت شمل الأسطول الغازي، وقد تكررت محاولة البرتغاليين احتلال ميناء جدة عام 1541م عندما دحرت الحامية التركية وجنود الأشراف الأسطول البرتغالي الغازي. وكما تجدر الإشارة إلى أنه في نهاية القرن السادس عشر حاولت السفن الحربية البرتغالية مرة أخرى السيطرة على كامل البحر الحمر مع التركيز على احتلال عدن وجزيرة سُقطرة في الجنوب وصولا إلى ميناء السويس في الشمال.

 القنوات والمضائق البحرية .. نعمة أم نقمة

كمحاولة لتفسير أو استقراء مائلات صراع القوى العالمية، قام عشرات المفكرين بطرح نظريات متعددة في السياسية الخارجية والعلاقات الدولية من أغربها تلك النظريات المتعاكسة تماما. خذ على سبيل المثال نظرية الجغرافي البريطاني ماكندر (نظرية قلب العالم) أو العلاقة بين اليابسة والمياه وأن من يملك البر يملك البحار، بينما في المقابل نجد أن نظرية المؤرخ الأمريكي ماهان تقلب المعادلة بحيث تصبح القاعدة أن من يملك البحر يملك اليابسة. في الواقع الإمبراطورية الرومانية تمثل نظرية ماكندر فعندما سيطرت روما على جميع الأراضي حول البحر الأبيض المتوسط عرف ذلك المسطح المائي في كتب التاريخ بالبحيرة الرومانية، بينما الإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والبريطانية وحديثا الأمريكية وبحكم أنها تعتمد في هيمنتها على العالم من خلال أساطيلها البحرية لذا هي مثال واقعي على نظرية ماهان. لكن الخطورة في الأمر فيما يتعلق بموضوع مقالنا وهو الملاحة في البحر الأحمر أن من القواعد التفصيلية لنظرية ماهان قولهم (إذا أرادت القوى السياسية العظمى السيطرة على العالم فيجب عليها أولا السيطرة على الطرق البحرية التجارية الرئيسية في العالم).

في الواقع البحر الأحمر في أغلب التاريخ البشري لم يكن له دور كبير في التجارية العالمي لأنه بحر مغلق ولهذا منذ زمن الفراعنة تم التفكير في حفر قناة مائية تربط بين هذا البحر (البحر الفرعوني كما كان يعرف) وبين البحر الأبيض المتوسط. في عام 1832م عرضت بعثة هندسية فرنسية على والي مصر محمد علي باشا فكرة حفرة قناة السويس ولكنه عارض ذلك بشدة وقال (لا أريد بوسفوراً آخر في مصر) لأنه بفطرته السياسية السليمة رصد تدخل الدول الأوروبية في الشأن التركي. في الواقع كان محمد علي باشا يخشى أن حفر قناة السويس ربما يتسبب في طمع الدول الغربية في مصر ومن ثم احتلالها وهذا تقريبا ما حصل، فبعد أن عزلت بريطانيا وفرنسا الخديوي إسماعيل وهو من حفر قناة السويس احتلت بريطانيا أراضي مصر عام 1882م أي بعد 13 سنة فقط من افتتاح قناة السويس. وهذا ما حصل أيضا مع قناة بنما فهي في الأصل جزء من أراضي دولة كولومبيا ولكن نظرا لأطماع الولايات المتحدة فيها ساعدت على استقطاع أراضي القناة وتحويلها لدولة مستقلة تسمى بنما تقع تحت الهيمنة الأمريكية.

كما هو معلوم في أغلب التاريخ البشري كانت التجارة تتم من خلال طريق قوافل التوابل وطريق الحرير البري ولكن منذ عصر الكشوفات الجغرافية في القرن الخامس عشر أصبحت خطوط التجارية العالمية هي الممرات البحرية التي تتحكم فيها الأساطيل البرتغالية حول قارة إفريقيا ولهذا كما ذكرنا كانت محاولة الإمبراطورية البرتغالية حصار وتحييد دور البحر الأحمر في التجارة العالمية. لكن هذا الأمر تغير بشكل جذري بعد افتتاح قناة السويس عام 1869م حيث أصبح البحر الأحمر في قلب التجارة العالمية وشرينها الرئيسي وهذا سلاح ذو حدين.

نشهد هذه الأيام نزاع بحري خطير بين جماعة الحوثي في اليمن وبين البحرية وسلاح الطيران الأمريكي والبريطاني على خلفية محاولة هجمات الحوثيين ضد السفن التجارية المتجه نحو الكيان الصهيوني أو المرتبطة بالولايات المتحدة وبريطانيا. هذا الصراع العسكري المتشح بالعباءة الاقتصادية والهادف لاستخدام ممر التجارة العالمية ومسار الملاحة الدولية في البحر الأحمر كأداة نفوذ سياسي وسلاح عسكري له شواهد متعددة في التاريخ المعاصر. في الحقيقة وفي هذا الشأن بالفعل التاريخ يعيد نفسه حرفيا فتاريخ نشر هذا المقال في يوم السبت السادس من شهر يونيو يتوافق بالضبط مع ما حصل في هذا التاريخ (6 من يونيو) من عام 1904م عندما أرسلت روسيا القيصرية سفينتين بحريتين إلى مدخل البحر الأحمر لكي تمنع السفن التجارية البريطانية والألمانية من العبور إلى أوروبا من خلال قناة السويس. في بداية عام 1904م اندلعت الحرب الروسية اليابانية ونظرا لوجود تحالف عسكري سابق بين اليابان وإنجلترا لهذا أسهمت الاستخبارات الإنجليزية في دعم اليابان، وعلية كان رد الدب الروسي أن يعكر مسار التجارة العالمية الذي يمر عبر قناة السويس وتتحكم فيها بريطانيا المحتلة للسيادة المصرية.

الجدير بالذكر أن التنغيص على الهيمنة البريطانية على خط الملاحة التجارية في البحر الأحمر تكرر مرة أخرى في بدايات الحرب العالمية الثانية وذلك عندما شكل الأسطول البحري الإيطالي المتواجد في ميناء مصوع (في هذه الفترة كانت إرتيريا مستعمرة إيطالية) تهديدا خطيرا على السفن التجارية الأمريكية والبريطانية. ولهذا كما يحصل هذه الأيام كانت تلك السفن تتجنب المرور عبر قناة السويس وتأخذ الطريق الأطول والأكثر كلفة مالية عبر طريق رأس الرجاء الصالح وكان من نتائج ذلك قيام الأسطول البريطاني طرد الأسطول الإيطالي من ميناء مصوع.

وبمناسبة ذكر الاسطول الإيطالي المتواجد على مدخل البحر الأحمر في القواعد البحرية الإريترية لعل من الملائم التنويه إلى أن من مظاهر الصراع للسيطرة على البحر الأحمر نشوب معركة بحرية بين السفن الحربية الإيطالية وبين القطع الحربية البحرية التابعة للحامية التركية المتركزة في موانئ مدينة القنفذة ومدينة الحديدة. حصل ذلك في مطلع عام 1912 م وذلك أثناء نشوب الحرب العثمانية والإيطالية وكان من دواعيها قيام البحرية الإيطالية بتدمير وإغراق ست سفن حربية تركية أمام ساحل القنفذة وكذلك قصف ميناء ومدينة القنفذة وهذا يعيد للأذهان حادثة قصف مدينة جدة من قبل إحدى السفن الحربية البريطانية في صيف عام 1858 ميلادي. بالمناسبة يوجد العديد من حطام السفن العالقة على ساحل البحر الأحمر مثل سفينة جورجيوس جي الموجودة قرب مدينة حقل وسفينة الفهد في بحر الشعيبة جنوب جدة وكلا منها وغيرها تتنافس على لقب سفينة (تيتانيك السعودية). ولكن من وجهة نظري أن الأحق بهذه التسمية هي السفينة العثمانية الغارقة أمام القنفذة والتي تم انتشالها مؤخرا وتجهيز متحف خاص لها وسبب جدارتها بلقب (تيتانيك السعودية) أن تلك السفينة وسفينة التيتانيك الأصلية كلا منها غرقت في نفس السنة أي عام 1912 ميلادي.

بقي أن نقول قبل أن نغادر إن إغراق السفن الحربية في البحر الأحمر قد يكون بفعل العدو أثناء المعارك البحرية للسيطرة على البحر الأحمر كما حصل مثلا أثناء الغارات الجوية النازية على السفن البحرية البريطانية في بور سعيد أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد يكون إغراق السفن الحربية وحتى التجارية وسفن الصيد بشكل متعمد وكوسيلة للدفاع وليس الهجوم وهذا ما حصل أثناء حرب العدواني الثلاثي على مصر عام 1956م عندما وافق جمال عبد الناصر على قيام البحرية المصرية بإغراق حوالي 48 سفينة في المجرى الملاحي لقناة السويس كوسيلة لإعاقة وصول الغواصات والفرقاطات البحرية البريطانية والفرنسية إلى البحر الأحمر. قصة الصراع العسكري على ممرات التجارية الملاحية لم تنته فصولا بعد حيث إنه وبعد هزيمة حرب الأيام الستة عام 1967م وفي أجواء الاحتقان الحربي بدأت فترة حرب الاستنزاف بين مصر والكيان الصهيوني مما نتج عن ذلك إغلاق قناة السويس لمدة ثماني سنوات متواصلة وهو ما تسبب في أضرار اقتصادية هائلة على مصر وبقية بلدان العالم.

 كلمة أخيرة لا بد منها هي أن تاريخ منطقتنا العربية في العصور القديمة توجد فيه نقاط ومناطق مجهولة تماما ومن ذلك علاقة البحر الأحمر بالصراع بين القوى والممالك والإمبراطوريات القديمة حول من يهيمن على ممرات التجارة البحرية. نشهد هذه الأيام صدام بين الاسطول البحري الأمريكي وبين مسيرات وصواريخ جماعة الحوثي حول من له السيطرة على حركة السفن العابرة لمضيق باب المندب. الغريب في الأمر أنه قبل حوالي ألفي سنة وقع صراع مشابه بين الإمبراطورية الرومانية وبين مملكة سبأ اليمنية على ذات نفس الهدف وتبدأ القصة عام 30 قبل الميلاد عندما تمكن الإمبراطور الروماني أغسطس من ضم مصر كمقاطعة رومانية ثم سرعان ما فتح خط تجارة بحري بينها وبين الهند. وبحكم أن السفن التجارية الرومانية كان يجب عليها أن تتوقف في موانئ المخا وعدن لكي تدفع الضرائب والأتاوات أمر أغسطس بتجهيز جيش من 10 آلاف مقاتل وأسطول بحري من 120 سفينة لكي تتوجه إلى أرض (اليمن السعيد أرابيا فيليكس) إما لعقد صداقة تجارية معها أو احتلالها واخضاعها بقوة السلاح. وبحكم أن هذه الحملة العسكرية رافقها المؤرخ الرومانية البارز سترابو والذي نقل للرومان ولمن بعدهم تفاصيل حصار الرومان لمدينة مأرب واحتلالهم لمدينة عدن ودخولهم دون قتال لمدينة نجران. ومع هذه النتائج المبدئية إلا أن السيطرة على اليمن لم تستمر لأكثر من شهرين ومع مصرع أغلب الجيش الروماني بالأمراض أو بالقتال كانت خاتمة المطاف فشل الحملة العسكرية وهو ما تسبب في إقالة قائد الحملة أيليوس غالوس والذي هو في الأصل الحاكم الروماني لمصر.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق