الجمعة، 9 ديسمبر 2016

( رُبَ كلمةٍ قالت لشاعرها دعني !! )

الشعراء ومزالق اللسان .. رب كلمة قالت لصاحبها دعني
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
قد تكون قدراتك الشعرية مميزة ومع ذلك (فلا تحزن) إذا قال لك أحد نقاد الادب أن أبياتك الشعرية ركيكة فهذا عباس العقاد كان ينكر أن يكون أمير الشعراء أحمد شوقي شاعرا وكان يقول عنه أنه فقط مجرد ( نظّام )، وتوصيفه بأنه ( ينظم الشعر) دلالة على أنه شاعر مبتدئ. وإذا كان لك ملكه إبداعية في قول الشعر ووجدت من القراء من يستفزك بقوله إن أشعارك غامضة فلا تبتأس فقديما قيل لشاعر العربية الفحل أبي تمام (لما لا تقول ما يُفهم) كما أن الفرزدق جاء من يصفه بأنه (ينحت من صخر) دلالة على وحشي عباراته وصعوبتها. أما إذا تم تفضيل أحد أقرانك من الشعراء عليك وهو اقل منك شهرة شعرية فلك في المتنبي أسوةٌ حسنة فقد حكم عليه أبو العلاء المعري أنه (أقل شاعرية) من البحتري بينما الاديب المعاصر الدكتور راشد المبارك رحمة الله كتب مقال مثير للجدل كان عنوانه بكل جرئه: (المتنبي ليس شاعرا). من هذا وذلك فيا أيها الشاعر المرخي عمامته وطن نفسك لتلقي سهام النقد ومقصات التشريح والتجرح.
إن طريق الشعراء أحيانا يكون كدرب الزلق ولذا أهون ما يمر به المرء الوحول كما قال طيب الذكر أبو الطيب ولكن ليحذر الشاعر من (زلة اللسان) فقد تكون أخطر من زلة القدم وهي قد تزلزل مكانتك الادبية بشكل مؤلم. زلة اللسان الشعرية قد تكون أحيانا بمجرد ورود كلمة شاذه غير مألوفة أو كلمة نابية مستقبحة ولهذا تصبح هذه الكلمة مصدر تشنيع وسبب سخرية واستنقاص من الشاعر حتى ولو ارتفعت مرتبته.  يقال انه كان للأديب الكبير عباس العقاد كلب يعزه كثيرا وعندما مات رثاه بأبيات شعرية جاء فيها (مرحاضه أعز أثوابنا) إشارة إلى أنه كان كلب مدلل كثيرا ما يحمل ولذا كان يتبول على ثياب العقاد وقيل أنه هذه الابيات قيلت في طفل صغير كان العقاد خاله. على كل حال لا شك ان هذه التشبيه الشعري مستهجن جدا كما أن ورود كلمة (مرحاض) في قصيدة أدبية حماقة شعرية لا تغتفر ولهذا أخذ الاديب الكبير مصطفى صادق الرفاعي (العدو اللدود للعقاد) يسخر ويشنع على العقاد لدرجة أنه كان يسميه (الشاعر المراحيضي). والجدير بالذكر أن الهمز واللمز من الشاعر عن طريق تسميه وتلقيبه بكلمة غريبة أو شاذه في شعره أمر مشهور وواسع الانتشار بشكل ملحوظ في الادب العربي القديم ومن الشعراء الذين قالوا بيتا من الشعر فتم تسميتهم وتلقيبهم بكلمة منه نجد بعض فحول ومشاهير الشعراء مثل: المرقش الأكبر والمتلمس والمثقب البعدي والبعيث والشريد وذو الرمة  والحطيم والقطامي وصريع الغواني وغيرهم كثير سموا بهذه الاسماء والالقاب الغريبة بسبب ورود عبارة أو كلمة في أشعارهم وكما قيل (رُبَ كلمةٍ قالت لصاحبها دعني). بعض الشعراء قد تورثه قصيدته لقب وأسم سخيف ومستهجن لكن في المقابل البعض الاخر قد تورده بعض كلمات قصائده موارد الهلاك حيث تتسبب في مقتله وكم وكم من شعراء العربية كانت ابياتهم الشعرية سبب أساسي في قتلهم وسفك دمائهم من أشهرهم المتنبي وطرفة بن العبد وبشار بن برد وعبيد بن الابرص و الاعشى الهمداني ولسان الدين ابن الخطيب والقائمة تطول وتطول.
آداب السلوك في مخاطبة الملوك
لطالما كان الأعم الغالب من شعراء العربية من المرتزقة والمتزلفين ولا يمكن تصور استمرار الشعر العربي لولا الطمع والفزع من ذهب المعز وسيفه وقد أعلنها الحطيئة صريحة ومدوية عنما أجاب عن سؤال وجه له: (أشعر العرب النابغة إذا رَهب وزُهير إذا رَغب). ولهذا نتفهم حالة الاستنفار والترقب التي دفعت فحول شعراء العربية الكبار للتجمع عند باب الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز بعد توليه الخلافة مباشرة لكي يستشفوا حالهم عنده ولكي يمدحوه وينافقوه. وكما هو معلوم من القصة الشهيرة ان الخليفة عمر بن عبدالعزيز تجاهل كبار الشعراء هؤلاء الذين منهم جرير والفرزدق والاخطل وعمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر وكثير عزه والاحوص الانصاري وبعد أن تجاهلهم الخليفة لزمن طويل واصابهم الاجهاد والانقطاع عن أهاليهم واشغالهم توسطوا ببعض الاعيان أن يدخلهم على الخلفية فلم يسمح إلا بدخول جرير وعندما أسمعه قصيدته في مدحة منحه الخليفة العادل بعد تمنع  وتردد عشرة دنانير فقط. الموقف الرمزي من القصة أنه عندما خرج جرير من عند الخليفة عمر بن عبدالعزيز سأله بقية الشعراء المهمشين (ما وراءك يا جرير) أي ماذا حصل لك مع الخليفة فقال: ورائي ما يسوءكم خرجت من عند امير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء. إن الناس على دين ملوكهم كما يقال ولذا إذا أتبع بقية الوزراء والامراء والوجهاء سيرة الخليفة المجافية للشعراء والادباء بارت تجارتهم الصوتية وخسروا مكانتهم الاجتماعية.
في القديم والحديث كان الملوك والحكام والامراء هم رأس المال الحقيقي للشعراء والادباء ولذا حرصوا بشتى الوسائل والسبل ليس فقط أن يتقربوا إليهم بالمديح والثناء ولكن ايضا ببذل الجهد والحرص على اتباع قواعد الاتيكيت واللباقة في (فن التعامل) مع أصحاب المقام العالي. لهذا لا عجب أن الادباء والشعراء تبع لهم أهتموا بشكل بالغ بما يسمى (أدب السلاطين أو أدب الملوك) وتم تأليف العديد من الكتب في مجال (المنادمة والنديم) لعل أشهرها وأهمها كتاب الجاحظ (التاج في أخلاق الملوك) والذي يقصد به أخلاق (التعامل) مع الملوك كما إن في ثنايا كتاب العقد الفريد لأبن ربه العديد من الفصول حول هذا الامر أهمها فصل (المرجانة في مخاطبة الملوك). ومع كل هذا الاعتناء (التنظيري) لفنون الالقاء والمخاطبة للملوك والحاكم إلا إن بعض كبار الشعراء وقعوا في أخطاء فادحة وقادحة. من ذلك مثلا يقال أن أول قصيدة ألقها الشاعر جرير بين يدي الخليفة عبدالملك بن مروان كان قد سبقها حالة فتور لأن جرير كان يميل مع عبدالله بن الزبير الذي ثار على الحكم الاموي. ولهذا ربما ساد جو من الترقب والتحفز لأول قصيدة لجرير امام الخليفة وقد كانت قصيدته الخالدة التي مطلعها (أتصحوا أم فؤادك غير صاحِ) وهو من أقبح الاستهلال أن تخاطب حاكم كان يعتبرك من أعدائه بأن توجه له خطاب يفهم منه أنك تقوله (هل انت صاحي أم ما زلت سادر في غفلتك) ولهذا لا عجب أن تكون ردة فعل الخليفة أنه غضب وسب جرير وقال له محتدا (بل فؤادك .. يا كذا وكذا). بقي أن نقول أن خطأ جرير كان اقل شناعة من سطحية وسذاجة الشاعر العباسي على بن الجهم في التعامل مع الملوك والحكام فكيف يعقل أن يوجد شخص يقول لخليفة المسلمين (أنت كالكلب). وهذه القصة الشعرية المشهورة تعتبر من نوادر وعجائب الادب العربي وكما هو معلوم أن الشاعر البدوي الطباع والتطبع على بن الجهم ضاقت به الحال فقصد الخليفة العباسي المتوكل لكي بمدحه بقصيدته التي مطلعها:
أنت كالكلب في حِفاظِكَ للود        وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ
أنت كالدلوِ لا عدمناك دولا          من كبار الدلا كثير الذنوبِ


ومن جانب آخر نجد أن من الأخطاء الشنيعة المستنكرة أمام الملوك التي وقع فيها أحد رموز الرعيل الاول من الشعراء أن يتبسط ويتساهل الشاعر في التغزل والوصف الصريح لمحارم وحليلة الحاكم. وهذا ما حصل مع الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني فبالرغم من لقبه الذي قد نترجمه في عصرنا على أنه يعني (عبقري) إلا أنه كان في قمة السذاجة أن وافق على طلب الملك النعمان بن المنذر أن يصف له زوجته الملقبة بالمتجردة في قصيدة شعرية تخلد ذكرها. العبقرينو الاحمق الملقب (بالنابغة) ليس فقط (أخذ راحته) في قصيدة (سقط النصيف ولم ترد اسقاطه) في وصف أخص خصوصيات المرأة بل انتقل لوصف (مشاعر الالتحام العاطفي) في ابيات تؤكد صدق الكاتب العراقي على الوردي في كتابه الذائع الصيت (اسطورة الأدب الرفيع). لقد كان للملك النعمان شاعر من ندمائهم أسمه المنخّل اليشكري وقد كان يتهم بأن على علاقة غير اخلاقية مع المتجردة ولهذا عندما سمع قصيدة النابغة المتجردة من الاخلاق تلك وجدها فرصة أن يلفت الانظار بعيدا عنه فقال للنعمان: ما يستطيع أن يقول مثل هذا الشعر إلا من قد جرّب، فوقر ذلك في نفس النعمان وعندما بلغ ذلك النابغة هرب من الحيرة للنجاة بحياته ولهذا اشتهر لاحقا بقصائده واعتذارياته للنعمان.
(جانب السلطان وأحذر بطشه) كان حكمة تمثلها وطبقها العديد من الفقهاء والادباء عبر التاريخ فالجمع الغفير منهم كان يستنكف أن يكون من ندماء الحاكم وحاشية السلطان ولهذا عندما استفسر الخليفة هشام بن عبدالملك من أحد الفضلاء: ما يمنعك يا أبا حزام أن تأتينا؟ فقال: وما أصنع بإيتيانكم يا أمير المؤمنين إن أدنيتني فتنتني وإن أقصيتني أخزيتني. وكما لاحظنا أن النابغة الذبياني كاد ان يفقد حياته جراء تحقيق مطلب غريب من الحاكم أن يصف زوجته نجد أن الشاعر الكبير ابن  الرومي قد خسر حياته بالفعل من جراء طلب ونزوة أكثر غرابة من الخليفة المعتصم أن يهجوه. في حدثة يطول  سمع الخليفة أن ابن الرومي قد هجا وزيره القاسم بن عبيدالله لمداعبة حصلت بينهما ولذا دعا الخليفة ابن الرومي وقال له أهجني، فقال: الله الله من ذلك يا أمير المؤمنين كيف أهجو من مدحة الله ورسوله؟ فقال له المعتصم  هذا على سبيل المداعبة لأجل خاطر الوزير لا يغتاظ فامتنع من ذلك فألح عليه المعتصم. الحماقة التي وقع فيها ابن الرومي كما وقع فيها النابغة من قبله أنه (أخذ راحته) في الهجاء كما أخذ صاحبه من قبله راحته في الوصف ولهذا ذهل الخليفة وندمائه عندما سمعوا ابن الرومي يهجو الخليفة هجاء مقذع بقولة:
ملوك بني العباس في الأرض سبعة            ولم تأتينا عن ثامن لهم كتبُ
كذلك أهل الكهف سبعة                          كرام إذا عدوا وثامنهم كلبُ
فضحك المعتصم وأسرها في نفسه أن ينتقم منه لأنه شبهه بكلب أهل الكهف ولهذا يقال أن ابن الروم لم يغادر مجلس الخليفة تلك الليلة إلا وقد تم تصفيته بالسم الذي دس له في الطعام.
وفي الختام يصعب أن نغادر قبل أن نشير إلى الحماقات المتكررة من قبل شاعر العربية الأوحد أبي الطيب المتنبي في كسر قواعد وآداب السلوك في مخاطبة الملوك حيث تسول له طبيعة (الكبرياء والهوى) في شخصيته المغرورة إلا أن يمدح نفسه في كل قصيدة يلقيها أمام الملوك والامراء. ربما تعتبر قصيدة (واحر قلباه ممن قلبه شَبِمُ) إحدى أشهر قصائد المتنبي الرنانة وهي التي يذكر فيها أن الخيل والليل والبيداء تعرفه وأنه هو من نظر الأعمى إلى أدبه ولم تكفيه هذه المبالغة في مدح نفسه أكثر من مديح سيف الدولة حتى ألقى بيت القنبلة الصاعقة إذ يخاطب سيف الدولة وعلية القوم من رواد بلاطه بقوله الأخرق:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا       بأنني خير من تسعى به قدمُ
ولهذا لا عجب ولا غرابة أنه أثناء ما كان المتنبي يلقي قصيدته تلك كان منافسه الشاعر ابو فراس الحمداني يشوش عليه وهنا ضجر الأمير سيف الدولة من كثرة المناقشات بين المتنبي وأبن عمه أبي فراس الحمداني فما كان منه إلا أن قذف المتنبي بقارورة الحبر التي كانت امامه وشج راسه ليجعله عبره لمن يتعدى حدوده ويخرج عن الدور المفصل له بأن يكون نديم الملك وفرد حاشية السلطان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق