الجمعة، 23 ديسمبر 2016

( تسمية عناصر الجدول الدوري .. تشريف أم تكليف )

نحن بالانتظار للحصول على صورة العالم الروسي أوغانيسيان وهو يشير للعنصر الجديد الذي يحمل أسمه
 
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
أُسدل الستار أخيراً في الاسبوع الماضي على (سباق التنافس اللغوي) والمتعلق بحدث رمزي بالغ الأهمية في تاريخ علم الكيمياء في العصر الحديث إلا وهو اكتمال تسمية جميع العناصر 118 للجدول الدوري الكيميائي حيث أعلن بشكل رسمي من قبل الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية IUPAC تسمية آخر أربعة عناصر كيميائية. أشتهر عن عالم الفلك الامريكي البارز كارل ساجان قولة أنه لو حصل دمار شامل لكوكب الارض وطلب منه قبل أن يغادر الارض لكوكب جديد أن يأخذ معه معلومة أو نظرية علمية واحدة فقط لينشأ بها حضارة جديدة لكانت تلك معلومة هي (الجدول الدوري للعناصر الكيميائية). وبحكم مركزية مفهوم ترتيب العناصر الكيميائية على شكل جدول دوري وأثرها البارز في تطور العلم والتقنية الحديثة لذا تناقلت جميع وسائل الاعلام والصحافة الدولية هذا الخبر بمزيد من الاهتمام والحماسة. وفيما يخصنا نحن المتطفلين على ميادين أبحاث التطور العلمي يكفي أننا تخلصنا أخيرا من إحراج النطق بالأسماء السخيفة والشنيعة المؤقتة لعناصر الجدول الدوري المكتشفة (أو المصنعة في الحقيقة) في الازمنة الاخيرة من مثل الاسم البشع للعنصر رقم 113 (أن أن ترايوم ununtrium) أو اسم العنصر رقم 117 (أن أن سبتيوم ununseptium). وقبل عدة سنوات قمت بنشر مقال حمل عنوان (تسمية عناصر الجدول الدوري .. بين اللغة والتاريخ) استعرضت فيه المراحل الزمنية المختلفة (المجهولة والتقليدية والادبية الجمالية والتكريمية) لطرق واسباب تسمية العناصر الكيميائية وناقشت في نهاية المقال مشكلة الاسماء المؤقتة المستنكرة  للعناصر المتبقية ولعل غالبية العلماء  تنفست الصعداء بعد هذا العناء في نطق تلك الاسماء الثقيلة.
الجدير بالذكر أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر بدأ العلماء يستخدمون أسلوب جديد تماما في طريقة  تسمية العناصر الكيميائية المكتشفة حديثا (وهي ما سميتها المرحلة التكريمية) حيث اخذ العلماء والمكتشفون يكرمون بلدانهم أو عواصمهم أو جامعاتهم بإطلاق اسمائها على تلك العناصر الجديدة. ولكن في واقع الأمر تقريبا لم تتم بداية (تشريف وتكريم) بعض العلماء بإطلاق اسمائهم على العناصر الكيميائية الجديدة إلا في عام 1945م وكان ذلك من نصيب العالمة الشهيرة مدام كوري صاحبة عنصر الكوريوم رقم 96 ولم ينال هذا (التشريف العلمي البالغ) غيرها إلا ثلاثة عشر شخص فقط. بالرغم من أن الجدول الدوري للعناصر (الكيميائية) هو في الأصل بيت الكيميائيين وميدان أبحاثهم إلا أنهم أصابهم الغبن والحيف نتيجة أن غالبية العلماء الذين تم تشريفهم بالإطلاق أسمائهم على بعض العناصر الكيميائية كانوا من الفيزيائيين في حين كان عدد الكيميائيين المكرمين أربعة فقط وربما هذا بسبب سطوة ومكانة علم الفيزياء بعد الحرب العالمية الثانية أو كما قال عالم الفيزياء البريطاني الشهير رذرفورد (العلم هو الفيزياء والباقي جمع طوابع).  ومن حسن الطالع أنه كان من الملائم أن يكون أول كيميائي يتم تشريفه وتكريمه بإطلاق اسمه على عنصر كيميائي هو عالم الكيمياء الروسي البارز ديمتري مندلييف الذي يلقب بأنه (أبو الجدول الدوري للعناصر) حيث أنه كان من أوائل من طرح فكرة التوزيع (الدوري) للعناصر الكيميائية.
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
صحيح أن مندلييف تم تشريفه بعد وفاته بحوالي نصف قرن بإطلاق اسمه على العنصر رقم 101 مندلييفيوم Md وذلك في عام 1955 إلا أن كل منصف يشعر أن هذا التكريم المستحق لمندلييف جاء متأخر بشكل غير مقبول على الاطلاق. لا شك أن تشريف أي عالم بإطلاق أسمه على عنصر من عناصر الجدول الدوري يعني بالضرورة تميزه الفائق والبيّن في مجال الابحاث العلمية وهذا بدوره يتطلب (تكليف) المجتمع والدوائر العلمية بتكريمه بمنحة الجوائز العلمية المرموقة. كما هو معلوم فإن أعرق وأهم جائزة علمية على الاطلاق هي (جائزة نوبل) والتي فاز بها ونالها حتى الان عدد 379 باحث من علماء الفيزياء والكيمياء (و 211 في الطب) وبحكم أن عدد العلماء الذين استحقوا وضع اسمائهم في الجدول الدوري محدود جدا (14 عالم فقط) فهذا يشير بدلالة قاطعة أن جودة وأهمية أبحاث هؤلاء العلماء الاربعة عشر تؤهلهم للفوز بجائزة نوبل ولكن للأسف لم يكن هذا هو الحال.  بعد مرور أكثر من قرن على بداية طرح جائزة نوبل وعبر العقود الماضية بدأت تتجمع شواهد وأخبار متوالية أن اللجان المشرفة على منح هذه الجائزة تقع أحيانا في أخطاء كارثية في اختيار (أو تجاهل اختيار) العلماء الجديرين بالفوز بهذه الجائزة في المجالات العلمية حيث أن مشاكل وفضائح هذه الجائزة في شق الفائزين بها في مجال السلام أو الادب معروفة للقاصي والداني.
أوضح مثال صارخ لإخفاق جائزة نوبل في اختيار العلماء المؤثرين في مسيرة تاريخ العلم أن هذه الجائزة لم تمنح للكيميائي الروسي ديمتري مندلييف السابق الذكر والذي كما اشرنا ربما تعتبر فكرته العلمية أهم فكرة علمية يمكن المحافظة عليها ونقلها لكوكب آخر. لقد كانت أول سنة يتم فيها طرح جائزة نوبل هي عام 1901م وبعد ذلك بسنة أوسنتين ظلت أكاديمية العلوم الروسية تقوم سنويا بترشيح مندلييف للفوز بجائزة نوبل في الكيمياء بدون أن يلقى هذا (الطلب المنطقي) آذان صاغية من القائمين على جائزة نوبل. في واقع الحال وقع ناقش حاد في عام 1906 حول الاشخاص المرشحين لجائزة نوبل في الكيمياء وبالرغم من حماس بعض العلماء لمنحها هذه المرة لمندلييف  إلا أنه استقر قرار لجنة جائزة نوبل بمنحها لكيميائي اقل بكثير في أهمية اثره العلمي من مندلييف حيث منحت الجائزة للكيميائي الفرنسي هنري مواسان نظيرا نجاحه في استخلص عنصر الفلور من مركباته بينما الكيميائي الاسطورة الذي نجح قبل ذلك بعقود من الزمن في التوصل لاكتشاف هام لجميع عناصر الجدول الدوري لم ينل اعجاب هيئة الجائزة. الجدير بالذكر أن مندلييف توفي عام 1907 بعد عدة اشهر فقط من فرصته الاخيرة لنيل جائزة نوبل وهو في سن الثالثة والسبعين ولا يعلم أن كان لهذه الحادثة المؤسفة أي أثر في اضعاف روحة المعنوية حيث أن سبب وفاة المعلن هو فقط أصابته بالأنفلونزا.
كيميائي آخر (أو كيميائية بالأحرى) لاقى الاهمال والصدود من جائزة نوبل ثم احتضنته العناصر الكيميائية في بيتها الدوري تلك هي عالمة الكيمياء النمساوية ليز مايتنر مكتشفة ظاهرة الانشطار النووي (لذا تلقب بأم القنبلة النووية !!) فغالبا بسبب التمييز الجنسي ضد النساء استبعدتها لجنة جائزة نوبل من الفوز بالجائزة في الكيمياء لعام 1944 بينما منحت الجائزة فقط لزملائها من الرجال مثل عالم الكيمياء الالماني أوتو هان. وفي عام 1997 وبعد حوالي عشرين سنة من وفاة ليز ماينتر وربما كوسيلة من المجتمع العلمي للتكفير عن الظلم والضيم البالغ والتحيز ضد تلك العلمة تم تشريفها وتكريمها بأن أطلق اسمها على العنصر الكيميائي رقم 109 والذي اصبح يعرف باسم مايتنريوم Mt وهي بهذا ثاني وآخر امرأة بعد السيدة كوري تكرم بإطلاق اسمها على أحد عناصر الجدول الدوري.  للأسف الشديد ولأمور وتعقيدات سياسية وعلمية بل وحتى دينية تجاهلت لجان جائزة نوبل منح هذه الجائزة لعدد من أهم وابرز مشاهير العلوم من مثل عالم الفيزياء البريطاني اللورد كالفن وعالم الفيزياء الامريكي جيبس وكلاهما من رواد وأعمدة علم الثيرموديناميك وكذلك تم تجاهل عالم الكيمياء الامريكي لويس (صاحب أشكال لويس التي يستخدمها جميع طلاب الثانوية) وذلك بالضافة لإهمال عالم الفلك الامريكي البارز إدوارد هابل وكذلك اسطورة العلم المعاصر الفيزيائي البريطاني ستيف هاوكنغ. وكل هذه الامثلة وغيرها كثير تشي بأنه توجد أحيانا بعض صور ومناحي الخلل في آلية عمل لجان جوائز جائزة نوبل حتى في المجالات العلمية والطبية وفي المقابل تم منح هذه الجائزة المرموقة لشخصيات علمية دون المستوى ولولا خشية الاطالة لم استعراض بعض هذه الفضائح العلمية وردود الافعال حيال الاختيار الغريب والضعيف لبعض الفائزين بهذه الجائزة.
من التكريم الاكبر إلى التكريم الاصغر
للعنصر الكيميائي رقم 118 مكانة مميزة وفريدة في دنيا العلم فهو حاليا آخر عنصر مكتشف/ مُصنَع من عناصر الجدول الدوري كما  أن له حادثة نادرة حصلت الاسبوع الماضي فبعد تسمية هذا العنصر باسم أوغانيسون Oganesson (Og 118) وذلك على أسم عالم الفيزياء النووية الروسي يوري أوغانيسيان وبذلك يكون هو العنصر الوحيد الذي اجتمع فيه ميزتين: سمي على شخص ما زال على قيد الحياة وهذا الشخص ويا للعجب لم يحصل على جائزة نوبل. ينبغي ان نقول بهذه المناسبة أن الشخصية العلمية التي نالت شرف أنها كانت أول انسان في التاريخ يحمل أسم عنصر كيميائي وهو على قيد الحياة كانت في واقع الأمر عالم الكيمياء الامريكي غلين سيبورج والذي تم تكريمه عام 1997 بإطلاق اسمه على العنصر الكيميائي رقم 106 والذي أصبح يعرف باسم سيبورجيوم  Sg 106 وبهذا خُلد في تاريخ العلم تلك الصورة الشهيرة لسيبورج وهو يشير بإصبعه للعنصر المسمى باسمه في الجدول الدوري. صحيح أن سيبورج حصل على هذا التشريف الاسطوري وهو في أواخر خريف العمر حيث توفي بعد سنتين فقط من هذا التكريم إلا أن غلين سيبورج قد تم تكريمه بالطريقة التقليدية منذ وقت مبكر جدا بحصوله على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1951 نظيرا اسهامه في تصنيع عشرة من عناصر الجدول الدوري كان أخطرها عنصر البولتونيوم المستخدم في تصنيع القنبلة الذرية. لا شك أن قيام غلين سيبورج وفريقة العلمي بإنتاج عشرة من العناصر الكيميائية هو إنجاز علمي يستحق عليه جائزة نوبل ولكن السؤال المهم هل سوف تجد لجنة جائزة نوبل نفسها وهي مضطرة (تكليفاً وليس اختياراً) أن لا تستمر في تجاهل العلماء الرووس المميزين بعدم منحهم جائزة نوبل التي يستحقونها. كمثل نظيره الامريكي أستطاع العالم الروسي يوري أوغانيسيان من تصنيع ثلاثة من عناصر الجدول الدوري (114 و 115 و 118)  تعرف بالعناصر الفائقة الثقل super heavy elements  كما إن لأبحاثه النظرية أهمية كبيرة في إثبات مفهوم العناصر الكيميائية الضخمة المستقرة (فيما يعرف بنظرية جزر الثابتية). من هذا وذلك أعتقد أنه بعد التشريف للعالم يوري أوغانيسيان  بإطلاق اسمه على  آخر عنصر كيميائي (التكريم الأكبر) ربما يتوجب تكليف لجنة جائزة نوبل أن تمنحه الجائزة (التكريم الأصغر) فليس من المقبول أو المستساغ أن يحصل عالم على أهم تشريف وتكريم علمي ممكن يحلم به أي عالم بوضع اسمه على الجدول الدوري ثم يزعم بعد ذلك أن اكتشافه العلمي تقليدي لا يؤهله أن ينال جائزة نوبل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق