الجمعة، 24 فبراير 2017

( مطر مطر مطر )

المطر في الشعر القديم كرم وفروسية .. وفي الشعر الحديث رومانسية وشهوة
 
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
الانسان ابن بيئته كما يقال في حين أن الشاعر (أسير) موروثه الشعري ولهذا تشكى قديما بعض شعراء العصر العباسي من سطوة الشعر الجاهلي وجمود مطالع القصيدة العربية القديمة من حيث ضرورة الاستهلال بالوقوف على الاطل. نفس هذه المشكلة وقع فيها شعراء العصر الأندلسي فبالرغم من أنهم كانوا يعيشون في (بيئة أوروبية) ماطرة وجنة غناء إلا أن الجينات الفطرية في شخصيتهم العربية كانت تحن إلى (هطول المطر) ولهذا لا عجب أن أشهر قصيدة في الأدب العربي هي موشح لسان الدين ابن الخطيب:
جادك الغيث إذا الغيث همى        يا زمان الوصل بالأندلسي
ما أريد أن أصل إليه بمناسبة هطول الامطار هذا الاسبوع أن غالبية الشعر العربي القديم المتعلق بالمطر والغيث حصر هذه الظاهرة الطبيعية الهامة في حياة البادية والصحراء في مفاهيم (جادة) وجامدة مثل الدلالة على الكرم والبعض الآخر ربما قام بتوظيف المطر والغيث أو السيل في توصيف الحرب والفروسية. من المحتمل أنه بسبب البيئة الصحراوية القاحلة (جفت) ونضبت القريحة الشعرية للرعيل الأول من شعراء العربية عن توظيف واستخدام (الاجواء المطيرة) في التعبير عن مشاعر الحب ورومانسية العاطفة.
هذا الأمر أختلف بشكل كامل وجذري في قصائد (شاعر الحب والمرأة) نزار قباني والذي ليس فقط نجد أن الامطار والقطرات تغرق قصائده العاشقة ولكن أيضا عدد لا بأس من قصائده يحمل عنوانها لفظة المطر مثل قصيدة (حزب المطر) وقصيدة (بيروت والحب والمطر) وقصيدة (عقدة المطر) وقصيدة (حبيبتي والمطر) وغيرها كثير.
بلا نزاع نزار قباني شاعر الشهوة المنحلة والمكشوفة ولهذا لا غرابة أن نجد أن نظرته (لأجواء المطر) الغائمة والباردة التي تثير (الرغبة في الجنس) تختلف عن نظرة الشعراء القدامى الذي نظروا للحالة نزول (الغيث) أنه لحظة حياة ونماء وبركة ولهذا ارتبط المطر في مخيلتهم الفطرية السليمة بالكرم والشجاعة. أما نزار قباني ففي عدد كبير من قصائده لا يذكره برد الشتاء ورطوبة الامطار إلا في الرغبة  الاثيمة كما في قصيدة (بيروت والحب والمطر) أو الاسوء من ذلك انقداح الشهوة الخاطئة في الشذوذ الجنسي كما في قصيدة (القصيدة الشريرة) والتي طرحت قضية اسرار العلاقة الجنسية بين النساء وشهوة التلصص عليهن.
على كل حال لعلنا أن نشير في الختام لبعض أشهر مقاطع القصائد الشعرية لنزار قباني التي كانت من (وحي المطر):
مطلع قصيدة (سبتمبر)
الشعر يأتي دائما
مع المط.
و وجهك الجميل يأتي دائماً
مع المطر.
و الحب لا يبدأ إلا عندما
تبدأ موسيقى المطر..
***
إذا أتى أيلول يا حبيبتي
أسأل عن عينيك كل غيمة
كأن حبي لك
مربوط بتوقيت المطر
 
قصيدة (عقدة المطر)
أخاف أن تمطر الدنيا ولست معي
فمنذ رحتِ وعندي عقدة المطر
كان الشتاء يغطيني بمعطفه
فلا أفكر في برد ولا ضجر
كانت الريح تعوي خلف نافذتي
فتهمسين تمسك هاهنا شعري
وألان اجلس والأمطار تجلدني
على ذراعي على وجهي على ظهري
فمن يدافع عني يا مسافرة
مثل اليمامة بين العين والبصر
كيف أمحوك من أوراق ذاكرتي
وأنت في القلب مثل النقش في الحجر
أنا أحبك يامن تسكنين دمي
إن كنتِ في الصين
أو إن كنتِ في القمر..
 
الجزء الأخير من قصيدة (رسالة حب):
عاد المطرُ ، يا حبيبةَ المطرْ..
كالمجنون أخرج إلى الشرفة لأستقبلَهْ
وكالمجنون ، أتركه يبلّل وجهي..
وثيابي..
ويحوّلني إلى إسفنجة بحريّة..
*
المطر..
يعني عودةَ الضباب ، والقراميد المبلّلة
والمواعيد المبلّلة..
يعني عودتَكِ .. وعودةَ الشعر.
أيلول .. يعني عودة يديْنا إلى الالتصاقْ
فطوال أشهر الصيف..
كانت يدُكِ مسافرة..
أيلول..
يعني عودةَ فمك، وشَعْرك
ومعاطفك، وقفّازاتك
وعطركِ الهنديّ الذي يخترقني كالسيفْ.
*
المطر.. يتساقط كأغنية متوحّشة
ومَطَركِ..
يتساقط في داخلي
كقرع الطبول الإفريقية
يتساقط ..
كسهام الهنود الحُمْرْ..
حبّي لكِ على صوت المطرْ..
يأخذ شكلاً آخر..
 
قبل أن نغادر صحيح أن البعض قد قال أن (المرأة في شعر نزار قباني مطر يفيض في فيافي الروح) لكن لكل من لديه معرفة عامة بالشعر العربي الحديث يعلم علم اليقين أن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب هو الأحق والأجدر بأن يوصف بأنه خير من مزج الحب والغرام بالمطر والماء في أغلب قصائده الشعرية ولشهرة هذا الموضوع اكتفينا هنا باستعارة مطلع قصيدة (أنشودة المطر) البالغة الشهرة لبدر شاكر السياب لنجعله عنوان لمقالنا هذا (مطر مطر مطر).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق