رواد الرحالة العرب .. خطوات كتبت التاريخ
د/ أحمد بن حامد الغامدي
إدمان السفر ظاهرة نفسية واجتماعية هي في
واقع الأمر ليست جديدة تماما في واقعنا المحلي ويبدو أن لها جذور وراثية فكل الصيد
في جوف فرا الجينات (all in the
genes) كما يقال ومنذ أزل الواقع العربي كم تشكى المتشكون من كثرة سفر
الحبيب الذي لا يضع عصا الترحال عن عاتقه:
ما آب من سفرٍ إلا وأزعجه رأيُ إلى سفرٍ بالعزم يزمعهُ
كأنما هو في حِلِّ ومرتحلٍ موكلٍ بفضاء الله يذرعهُ
يقال أن عدد السياح السعوديين المغادرين
للخارج يقارب العشرين مليون مسافر سنويا (حيث ان البعض قد يسافر أكثر من مره في
السنة) فهل من أسباب ومسوغات هذه الاحصائية الغريبة أن الشعب العربي تجري في دمائه
مورثات وجينات الترحال وكأننا بكل بساطة نسير على خطى وخط سير أجيال واجيال العرب
الرحل منذ زمن فينيقي لبنان وتجار قريش وحضارمة اليمن
ورشايدة السودان وبني هلال المغرب وعقيلات
القصيم. ربما غالبية العرب اليوم هم من نسل العرب العاربة حيث أن أصل العرب من
اليمن وبعد انهيار سد مأرب رحل أهل اليمن و(سافروا) قاصدين الشمال إلى القرى
المباركة ومن عجيب أمرهم أنهم ذاقوا حلاوة السفر ومشاقه ورغبوا في أن يطول زمن
سفرهم ولهذا دعوا المولى عز وجل (ربنا باعد بين أسفارنا) فكأنهم طلبوا النصب
والتعب ربما بسبب عشقهم لنوع المغامرة المصاحبة لقطع المسافات الطويلة. وبالعودة
لوراثة إدمان السفر من الرعيل الأول فهل جيناتنا الوراثية ما زالت تحمل في
كروموسوماتها بقايا مثل هذه الطفرات الغريبة والعاشقة للسفر.
وكما أن للسفر والهجرة جذورها الوراثية
فلها كذلك أبعادها الدينية والتشريعية فبصورة ما حث الاسلام على السفر فحين تنص
القاعدة الفقهية الصريحة بأن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فوسيلة الحج
والجهاد وطلب العلم هي ولا شك السفر وبهذا يتغير التكييف الشرعي للسفر. وفي السيرة
النبوية الشريفة كانت ابرز المحطات في حياة الرسول الأعظم وثيقة العلاقة بالسفر
متمثلة في معجزة الاسراء والمعراج والهجرة النبوية للمدينة المنورة والسياحة
الشرعية (أي الجهاد كما يفسر العلماء هذا اللفظ إذا ورد في القرآن) لقتال الاعداء
فيما عرف بالغزوات النبوية. كما إن المولى يُذّكر كفار قريش بنعمه وآلائه عليهم
والتي منها أ يسر لهم السفر والانتقال في أمن وأمان في رحلتي الشتاء والصيف ولا
يتصور عاقل أن المولى عز وجل يمتن على عباده إلا بما هو حلال ومباح. بقي أن نقول
أن السفر كغيره من الاشياء حسنه حسن وقبيحة قبيح أو بالصيني الفصيح يقول المثل
(السفر يجعل الانسان العاقل أفضل والأحمق أسوأ).
مع الرعيل الأول للسياح العرب
اللغة العربية الفصيحة للعرب الاقحاح تسمي
السرج الموضوع على الدابة كالجمل والحصان (الرَحَلَ) ولا شك أن المبنى اللغوي يدل
على المعنى المعرفي بمعنى أنه لكثرة سفر وتنقل ورحيل رجل الصحراء والبادية سمي
مجلسه ومتكئه رَحَلَ. ويمكن أن نستشف من ذلك (شغف وولع) الشعوب العربية منذ الأزل
بالسفر والانتقال و (السياحة). من هذا وذاك نفهم لماذا منذ العقود الاولى للحضارة
الاسلامية انتشر العرب والمسلمون في شتى بقاع الارض وإن كان تسوقهم دوافع مختلفة
ومتنوعة جهادية أو تجارية أو دعوية أو معرفية. ولهذا لا عجب أن بعض المصادر
التاريخية والجغرافية العربية تشير إلى أن الرحالة العرب منذ القرن الأول الهجري
ليس فقط قد وصلوا إلى الصين في أقصى الارض الشرقي بل أنهم استوطنوها وأقاموا فيها
جالية اسلامية كبيرة في مدينة خانفو (كنتون الصينية) وكان لهم بها وبغيرها مساجد
ومشايخ وقضاة. أما في أقصى الارض الغربي فيقال بأن أول عربي يعرف عنه في المراجع
التاريخية أنه أول من وطئ الاراضي الأوروبية كان طريف المعافري الذي قام في نهاية
القرن الهجري الأول بمهمة استطلاعية على سواحل اسبانيا الجنوبية.
ما سبق ذكره كان (البعد الزماني) لعراقة
رحلات الرعيل الأول للسياح العرب أما (البعد المكاني) العجيب والفريد الذي وصله
الرحالة والتجار العرب فليس فقط وصلوا إلى الصين وشبة الجزيرة الكورية (كما ذكر
ذلك خرداذبة صاحب كتاب المسالك والممالك) وروسيا والدول الأوروبية والجزر
الإندونيسية والادغال الافريقية بل من المحتمل أنهم وصلوا حتى اراضي القارة
الامريكية !!. وهذا ما ذكره المؤرخ العربي المشهور المسعودي في كتابه مروج الذهب
حيث اشار بأن الرحالة العربي خُشاش بن سعيد قام في حدود نهاية القرن الثالث الهجري
بجمع عدد من فتيان مدينة قرطبة الاندلسية وركب بهم بحر أوقيانوس (المحيط الاطلسي)
وغاب في المحيط مده من الزمن ثم انثنى وعاد بغنائم واسعه (كما حصل لاحقا مع
كولومبوس بعد حوالي خمسة قرون من هذه الحادثة). وبالرغم من أنه هذه القصة مشهورة
في كتب التاريخ برحلة (الفتية المُغَررين) حيث قد ذكرها كذلك الشريف الادريسي في
كتابه نزهة المشتاق إلا إن بعض المؤرخين يرجح أنهم لم يصلوا إلى القارة الامريكية
نفسها وإنما وصلوا فقط لجزر الانتيل في الطرف الشرقي لأمريكا الوسطى.
وبما أننا في سياق الحديث عن الريادة
الجغرافية للرحالة العرب منذ قرون الاسلام الأولى فلعل من الملائم التذكير الخاطف
برعيل الجيل الأول من المسافرين العرب الذين اخترقوا الافاق واجتازوا المفاوز
فالرحالة الشهير أحمد بن فضلان في مطلع القرن الرابع الهجري وصل إلى بلاد الخزر
والصقالبة وحتى الدول الاسكندنافية (أرض الفايكنج) وكان في الاصل بدأ رحلته كمبعوث
رسمي من قبل الخليفة العباسي المقتدر إلى ملك البلغار (دولة تترستان حاليا في
روسيا) بعد أن اسلم وطلب من الخليفة أن يرسل له وفد يعلمهم شرائع دين الاسلام.
وأما اسطورة المسافرين العرب ابن بطوطة فقد جاب الافاق وكان على وشك أن تصل به
اسفاره المتواصلة إلى سيبيريا فبعد أن وصل إلى شبه جزيرة القرم ونهر الفولجا أراد
أن يسافر إلى سيبيريا وهي التي يسميها أرض الظلمة لكنه غير رأيه في الاخير وقال
(.. أضربت عن ذلك لعظم المؤونة وقلة الجدوى والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات
صغار تجرها كلاب كبار فإن تلك المفازة فيها الجليد ولا تثبت قدما الادمي ولا حافر
الدابة فيها). وكذلك الجغرافي والمؤرخ المسعودي جاب الافاق والاقاليم المختلفة ومن
أبرزها وصوله إلى أرمينيا في حين يقال أن الجغرافي الكبير الشريف الادريسي وصل إلى
سواحل فرنسا وبريطانيا أما الرحالة والتاجر العربي أبن حوقل فقد استغرقت رحلاته
ثلاثين سنة في منتصف القرن الرابع الهجري انتقل خلالها من أقصى نقطة معروفة في
جنوب الارض في زمنه (20 درجة جنوب خط الاستواء) على الساحل الشرقي لإفريقيا إلى
إحدى اقصى المناطق المأهولة شمالا وهي مدينة كييف عاصمة أوكرانيا.
والجدير بالذكر أن كتب التاريخ خلدت كذلك
ذكر بعض الرحالة العرب من غير المسلمين مثل الرحالة اليهودي ابراهيم الطرطوشي
الاندلسي الذي وصل إلى بولندا والتشيك أما الرحالة والقسيس الكاثوليكي إلياس
الموصلي الذي نجده في القرن السابع عشر الميلادي يهاجر من العراق إلى ايطاليا
واسبانيا ثم يعبر المحيط الاطلسي ليصل إلى أمريكا الجنوبية فيزور فنزويلا
والارجنتين وتشيلي والبيرو قبل أن يمم شطره نحو المكسيك. أما امريكا الشمالية
فوصلها في بداية القرن السادس عشر الميلادي المغربي مصطفى الأزموري الذي وصل كعبد
رقيق إلى ولاية فلوريدا الامريكية ومات هنالك بعد أن اعتنق المسيحية وتحول اسمه
إلى استيفانيكو.
الطيور العربية المهاجرة واستيطان الغربة
صحيح أن شاعر العربية الأوحد المتنبي عبر
عن غربة و فرادة العربي في أرض المهجر بقوله الخالد و الفخيم:
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه و اليد و اللسانِ
ويغلب على الظن والله أعلم أن المتنبي
غلبته روح التقمص الشعرية المعروفة لدى الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون فهو في
واقع الأمر لم يمكث كثيرا في أرض الغربة الحقيقية ليذوق مرارتها حتى وإن قال (بما
التعلل لا أهلٌ ولا وطنُ) فهو لم يغادر ديار العرب إلا لشهور قصيرة عندما زار
مدينة شيراز في بلاد فارس لكي يمدح عضد الدولة. ومع ذلك تشهد كتب التاريخ أن عدد
من العلماء والادباء والمفكرين العرب عاشوا بالفعل حياة الهجرة واستوطنوا بلاد
الغربة وبعضهم توفي فيها.
تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن وجود العرب كجالية مقيمة في الغرب
يعود لفترة طويلة نسبيا حيث هاجر عدد من العرب في منذ القرن التاسع عشر إلى أوروبا
والأمريكيتين الشمالية و الجنوبية. كلنا نعلم أنه في علم الأنساب للقبائل العربية
نجد التقسيمات الشهيرة بأن العرب تنقسم إلى عرب بائدة (قبائل عاد و ثمود) و عرب
عاربة (القبائل القحطانية) و عرب مستعربة (القبائل العدنانية)، و لكن بحكم أن حياة
الشعوب في تطور مستمر و تجدد، لهذا لا غرابة و لا مشاحّة أن نطلق على فئام من
عشائر العرب المعاصرين بأنهم (عرب مستغربة) أي بمعنى أنهم عرب يعيشون في الغرب. و
تجدر الإشارة إلى أن أعداد بني يعرب المستوطنين للديار الغربية كبيرة جداً لدرجة
أن بعض الإحصائيات تتوقع أن عدد العرب المقيمين في أمريكا وحدها يبلغ حوالي مليون
و نصف عربي بينما نجد أن عدد العرب التقديري في أوروبا قد يصل إلى سبعة مليون فرد
عربي.
وبحكم اننا نتحدث هنا رواد الرحالة العرب فربما نحتاج لتسليط ومضات كاشفة ولمحات
سريعة إلى (رواد المغتربين العرب).
من ذلك مثلا أن عالم الجغرافيا العربي
الكبير الشريف الإدريسي يوصف أحيانا باسم (أبن إدريس الصقلي) لأنه عاش أغلب عمره
وتوفي في منتصف القرن السادس الهجري في جزيرة صقلية (المسيحية) وهو يعيش بكنف ورعاية الملك الصقلي روجر الثاني
وكتابه المشهور (نزهة المشتاق في اختراق الافاق) تم تأليفه خصيصا لهذا الملك ولهذا
يعرف أحيانا (بكتاب روجر). ومرة اخرى لا أعلم هل كان الشريف الإدريسي صادق العاطفة
عندما قال بيته الشهير التالي أم أنه هو الآخر اجتالته روح التقمص الشعرية كما حصل
مع المتنبي:
ليتَ شعري أين قبري ضاع في الغُربة عُمري
أما الطبيب العربي الحسن الوزان المعروف
باسم قسطنطين الإفريقي يقال بل أنه تم أسره عندما كان مسافرا في رحلة بحرية من
تونس و من ثم اقتيد في بداية القرن العاشر الهجري إلى روما كهدية للبابا ليون
العاشر الذي أجبره على اعتناق المسيحية و البقاء لسنوات طويلة في ايطاليا لتدريس
اللغة العربية و ترجمة و تأليف النصوص الطبية و اللغوية و الجغرافية من العربية
إلى اللاتينية. و أحداث هذه القصة الفريدة للحسن الوزان تم روايتها و صياغتها
بأسلوب أدبي رفيع في رواية (ليون الإفريقي) للروائي اللبناني الشهير أمين معلوف.
في القديم كما في واقعنا المعاصر وجد من
مشاهير العرب من أقام في ديار الغربة لأطماع دنيوية بحته (مثل الادريسي) أو بسبب
الاقامة الجبرية والاعتقال ( الحسن الوزارن والازموري نموذجا) أو بهدف الدراسة
وتحصيل المعرفة (كحال عالم النبات العربي ابن البيطار الذي عاش لعدة سنوات في
اليونان وطاف إلى أقصى بلاد الروم) فكذلك بعضهم قد يقيم في أرض الغربة كلاجئ
سياسي. وهذا ما حصل مع الأمير فخر الدين المُعنى أحد أمراء لبنان عندما حاول في
مطلع القرن السادس عشر الميلادي أن يمد إمارته لتشمل سوريا الكبرى وبالتالي يستقل
عن سيطرة الحكم العثماني في اسطنبول. وبعد أن تعرض فخر الدين المُعني لحملة عسكرية
ساحقة أرسلها السلطان العثماني مراد الرابع فر إلى حلفائه وداعميه الاوروبيين فوصل
في عام 1613 إلى مدينة فلورنسا عاصمة اقليم توسكانا الايطالي حيث عاش لعدة سنوات
كلاجئ سياسي في حماية عائلة مديتشي ذات الاثر الكبير في عصر النهضة الأوروبي.
بقي ان نقول أنه في القرون الثلاثة
الأخيرة ظهر نوع جديد من أسباب الاقامة الدائمة للمهاجرين العرب في أرض المهجر
واستيطان الغربة ولكن لأهداف دبلوماسية وأبعاد سياسية، حيث اقام المئات من أبرز
الكفاءات العربية في بلدان أجنبية على هيئة سفراء أو قناصل لدولهم وحكوماتهم. لا
شك ان تاريخ الدبلوماسية الاسلامية والعربية عريقاُ جدا منذ زمن المبعوثين الذين
ارسلهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كسفراء له إلى الملوك والاباطرة والحكام.
وكتب التاريخ زاخرة بقصص وأخبار سفراء خلفاء الاسلام مثل الامام الشعبي سفير
الخليفة عبدالملك بن مروان إلى امبراطور الروم أو نصير بن الأزهر سفير الخليفة
العباسي المتوكل إلى القسطنطينية أو تبادل السفراء والهدايا بين الخليفة هارون
الرشيد وملك الفرنجة شارلمان. لكن هذا النوع من التواصل الدبلوماسي كان مؤقت حيث
أن السفير أو مندوب الملك يسافر لفترة قصيرة ولهدف محدد للتفاوض باسم الخليفة أو
عقد معاهدة أو فك وتخليص أسرى أو حتى لتقديم واجب التهنئة بتولي عرش أو مناسبه
زفاف. أما أغرب المهام التي أوكلت لسفراء
ومبعوثي خلفاء الاسلام فهي من مثل حادثة أرسال الخليفة العباسي الواثق بالله
لمبعوثه سلام الترجمان إلى شرق اسيا لمحاولة تحديد موقع سد ذو القرنين وكذلك ارسل
نفس هذا الخليفة وفد من المبعوثين إلي اسيا الصغرى (غرب تركيا اليوم) لتزور وتصف
كهف أصحاب الكهف.
وختاما من الصعب جدا أن نحدد متى بدأت
ظاهرة الاقامة الدائمة للسفير أو اعضاء السلك الدبلوماسي العربي في أرض الغربة
لفترة طويلة من الزمن لكن توجد اشارات إلى أن أحد اقدم السفراء العرب الدائمين في
القارة الاوروبية كان السفير المغربي محمد بن علي أبجالي سفير ملك المغرب في لندن
منذ عام 1725 أما عميد السفراء العرب في القارة الامريكية فمن المحتمل أنه كان
سفير السلطاني العماني أحمد النعمان الكعبي الذي وصل إلى أمريكا عام 1840 في زمن
الرئيس أندرو جاكسون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق