السبت، 18 فبراير 2017

( الشعراء .. والثقافة السياسية )

الشعر السياسي العربي غالبا مصاب بمشكلة (الاغراق في المحليات)
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
جرت عادة شعراء العربية قديما وحديثا ان يفخروا بالإنجازات السياسية وبإنتصارات المعارك الحربية (أيام العرب) لشعوبهم ودولهم ولهذا طربنا مع شعر صناجة العرب الأعشى عندما تفاخر بانتصار العرب في يوم ذي قار أمام الفرس:
وجندُ كسرى غداة َ الحنوِ صبحهمْ
مِنّا كَتائبُ تُزْجي المَوْتَ فانصَرَفُوا
إذا أمَالُوا إلى النُّشّابِ أيْدِيَهُمْ،
مِلنا ببِيضٍ، فظَلّ الهَامُ يُختَطَفُ
لَوْ أنّ كُلّ مَعَدٍّ كانَ شارَكَنَا
في يومِ ذي قارَ ما أخطاهمُ الشّرفُ
 
إن للشاعر الجاهلي الكبير الأعشى كل الاحترام بالتفاخر (بأيام العرب) لأنها من صلب ثقافته التاريخية والسياسية التي يعيشها ولكن التقدير يكون أتم له إذا علمنا أن له نوع معرفة ثقافية (بأيام العجم) التي هي من نتائج بيئة حضارية مختلفة عن بيئة العربية وهنا تتجلى أبعاد (الثقافة السياسية) للشاعر العربي وأنه ليس أسير بيئته المحلية فقط. تذكر كتب الأدب أن الأعشى قال قصيدة عصماء في مدح ملك الحيره إياس الطائي وفي ثنايا هذه القصيدة عرج الأعشى بالإشادة بجهود إياس في نصرة الفرس ومساعدتهم في هزيمة الروم في موقعة (يوم ساتيدما) وهي معركة هامة وقعت جهة الموصل بالقرب من نهر صغير أو جبل يحمل اسم ساتيدما وحصل هذا القتال الشرس بين الفرس وبين الروم بقيادة هرقل عظيم الروم والذي بالرغم من شجاعته وخبرته القتالية إلا أنه انهزم امام الفرس مما تسبب في ضعف الروم لدرجة أنه تم لاحقا احتلال الفرس لمدينة القدس ولهذا استخدم الاعشى (ثقافته السياسية) بهذه المعركة (غير العربية) في بيان فضائل ممدوحة الذي ساهم في تشريد جيش هرقل حيث قال:
وَهِرَقْلاً، يَوْمَ سَاتِيدَمَا
من بني بُرْجانَ في البأسِ رَجَحْ
وَرِثَ السّؤدَدَ عَنْ آبَائِهِ
وغزا فيهمْ غلاماً ما نكحْ
صَبّحُوا فارِسَ في رَأدِ الضّحَى
بطحونٍ فخمة ٍ ذاتِ صبحْ
ثمّ ما كاؤوا، ولكنْ قدّموا
كَبْشَ غارَاتٍ، إذا لاقَى نَطَحْ
فَتَفَانَوْا بِضِرَابٍ صَائِبٍ
مَلأ الأرْضَ نَجِيعاً فَسَفَحْ
مثلَ ما لاقوا منَ الموتِ ضحىً
هَرَبَ الهَارِبُ مِنهُمْ وَامتضَحْ
 
في واقع الأمر يبدو أن الشعراء العرب الذين هم على شاكلة الاعشى في ثقافتهم السياسية خارج الأفق والإطار المحلي محدودي الوجود نسبيا وذلك لأن الأعشى كان في الأصل كثير الاسفار والاختلاط بالشعوب غير العربية حيث كان يفد على ملوك الفرس ويمدحهم كما إنه في المقابل كان يميل للنصرانية ولهذا كثرت الالفاظ والاخبار الاعجمية في شعره. وكنتيجة لانغلاق البيئة العربية القديمة ربما نحتاج لجهد جهيد لاستخراج أمثلة (للثقافة السياسية غير العربية) من شعر جرير أو الفرزدق في حين أننا من خلال شعر المتنبي قد يكون أقصى ما نعرفه أن لقب قائد الجيش البيزنطي هو (الدمستق) وان ملك الروم في زمنه هو (قسطنطين) لأن هؤلاء بكل بساطة كانوا أعداء سيف الدولة وخصومه في المعارك فثقافة المتنبي السياسية هنا تدور حول أمر له صلة وثيقة بالواقع المحلي العربي. وكذلك من قصيدة أبي تمام في فتح عمورية عرفنا اسم الملك البيزنطي توفيل بن ميخائيل (أو توفليس كما ورد في القصيدة البائية الخالدة) الذي أنهزم وهرب من أمام المعتصم ولكن هنا مرة أخرى كانت هذه المعلومة السياسية في سياق محلي بحت وليست كما حصل مع الاعشى عندما ذكر تفاصيل معركة (دولية) خارج النطاق العربي.
 
إن أوضح مثال على قضية (الثقافة السياسية) في الشعر العربي القديم هي القصيدة السينية الفريدة للشاعر العباسي البحتري والتي تسمى (قصيدة وصف إيوان كسرى) وهى على العكس من أبيات الاعشى المحدودة نجدها هنا قصيدة كاملة خصص منها حوالي أربعين بيتا لمناقشة وعرض موضوع سياسي وحضاري (غير عربي) حيث انها تدور حول وصف أطلال وأثار هيبة وعظمة الامبراطورية الفارسية ممثلة في توصيف إيوان وعرش كسرى أنو شروان في عاصمة بلادة مدينة المدائن. في واقع الأمر لا بد أن نعترف أن مقصود الشاعر في الأساس كان أن يسلي ويواسي نفسه بالتفكر بمصير من قبله لعل هذا الامر يخفف عنه شدة الوحشة والجفاء الذي حصل بينه وبين الخليفة المنتصر بالله. وبغض النظر عن سبب المحرك العاطفي لمشاعر الشاعر المثقف ما يهمنا في الواقع أن نذكر وصف البحتري لمعركة أنطاكية التاريخية التي حصلت عام 613 ميلادي بين الروم والفرس وهي المعركة التي ورد ذكرها في القران الكريم في سورة الروم والتي فيها الاشارة لهزيمة جيش الروم (الم * غُلبت الروم * في أدنى الأرض). وفي حين أن أبيات الأعشى السالفة كانت تركز على شخصية هرقل نجد أن أبيات البحتري محورها شخصية كسرى أنو شروان:
 وإذا ما رَأيْتَ صُورَةَ أنْطَاكيَةَ
 ارْتَعْتَ بَينَ رُومٍ وَفُرْسِ
والمَنَايَا مَوَاثِلٌ، وأنُو شَرْوانَ
  يُزْجي الصّفوفَ تحتَ الدِّرَفْسِ
في اخضِرَارٍ منَ اللّباسِ على أصْـفَرَ
  يَختالُ في صَبيغَةِ وَرْسِ
وَعِرَاكُ الرّجَالِ بَينَ يَدَيْهِ
  في خُفوتٍ منهمْ وإغماضِ جَرْسِ
منْ مُشيحٍ يُهوي بعاملِ رُمْحٍ
  وَمُليحٍ من السّنانِ بتُرْسِ
تَصِفُ العَينُ أنّهُمْ جِدُّ أحيَاءَ
  لَهُمْ بَينَهُمْ إشارَةُ خُرْسِ
يَغتَلي فيهمُ ارْتِيابيَ، حَتّى
 تَتقَرّاهُمُ يَدايَ بلَمْسِ
 
وبما أننا ما زلنا في سياق ذكر إيوان كسرى في الشعر العربي وحال وأخبار مملكة ساسان الفارسية وأباطرتها الكبار مثل دارا (داريوس الثالث والذي قتله الإسكندر المقدوني) فلا بأس من التذكير بالأبيات الشعرية الشهيرة في رثاء الاندلس للشاعر العربي الاصيل أبو البقاء الرندي والذي نجده كحال البحتري عندما أراد أن يواسي ويسلي نفسه من مصيبة فقد الاندلس أخذ يتذكر حال الأمم والشعوب من قبلنا التي جار عليها صرف الزمان:
 
أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ
وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ  
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ
وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ  
أتى على الكُل أمر لا مَرد له
حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلك ومن مَلِك
كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ
دارَ الزّمانُ على (دارا) وقاتِلِه
وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
 
زخم الثقافة السياسية في الشعر المعاصر
بالجملة لقد كانت الثقافة السياسية للشعراء العرب الأقدمين شبه مقتصرة على الواقع والاجواء المحلية العربية وإن جاوزته فهي لا تبتعد أبعد من الاقاليم الاسلامية التركية والفارسية والهندية. هذا النقص في عالمية الشعر السياسي العربي ازداد سوءاً في عصور الانحطاط العربية وعصور الجمود الادبية التي امتدت منذ عصر المماليك وحتى مطلع القرن العشرين، ولذا لم يكن للشعراء العرب أي اهتمام لتسجيل الاحداث السياسية والتاريخية الكبرى غير الاسلامية في اشعارهم فلا انعكاس للثورة الفرنسية أو اكتشاف الأمريكيتين أو الحروب الاوروبية بين الكاثوليك والبروتستانت على الانتاج الادبي لتلك الحقبة. لكن كل هذا التجاهل الادبي للعالم السياسي من حولنا سرعان ما سوف يتلاشى بعد أن تصبح بلاد العرب هي قطب رحى ظاهرة الاستعمار الاوروبي وساحة المعركة الخلفية للقوي الغربية المتصارعة.
 
في اعتقادي الشخصي أنه لم يوجد في قديم الشعر العربي ولا حديثة شاعر أكثر ثقافة سياسية من أمير الشعراء ومستشار الامراء أحمد شوقي والذي نجد له عشرات القصائد الطوال في مواضيع سياسية وتاريخية وفكرية غير معتادة الطرق في البيئة العربية التقليدية. المتصفح لديوان أحمد شوقي يستطيع ان يتعثر ويتكعبل في كل صفحه منه باسم شخصية سياسية أو تاريخية كبرى سواء كانت عربية أو جاهلية أو فرعونية أو تركية أو يونانية أو أوروبية. فمثلا في أي قصيدة عن أبو الهول أو مومياء توت عنخ أمون يمكن أن يصادفنا كم غفير من اسماء آلهة وملوك الفراعنة مثل آمون ورع وسيتي وإيزيس وخوفو ورمسيس ومينا. أما الثقافة السياسية لأحمد شوقي وسعة اطلاعه بالحضارات وتاريخ الامم غير العربية فيمكن استجلائه من أنه كتب قصائد طويلة عن شخصيات سياسية أجنبية قديمة وحديثة مثل قصيدة (مصرع كيلوبترا) وقصيدة (على قبر نابليون) كما له قصيدة أخرى مخصصة لمناسبة تتويج الملك الانجليزي إدوارد السابع. الجدير بالذكر أن الرئيس الامريكي ثيودور روزلفت هو محور قصيدة لأحمد شوقي حملت عنوان (أنس الوجود) وهو معبد فرعوني في مدينة أسوان زاره الرئيس الامريكي في  عام 1910 وثارت ضجة دبلوماسية في حينه لأن روزفلت تهجم على الاسلام ودعم في كلمه له الاستعمار البريطاني لمصر ومن غرائب الأمور أن هذه القصيدة بالذات (أيها المنتحي بأسوان دارا) هي نفس القصيدة التي أثارت زوبعة محلية عندما اتهم البعض وزير الاعلام قبل سنه أنه سرقها وحورها لقصيدة (أيها المنتحي بمكة دارا).
ولإعطاء (شواهد شعرية) اكثر دلالة على الثقافة السياسية العالية والفريدة لأحمد شوقي يكفي أن نشير إلى أنه نظم حوالي اربع قصائد متنوعة تدور بشكل ما عن الملك الفرعوني الشاب الشهير (توت عنخ آمون) وما يهمنا هنا أن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون وقعت في بداية شهر نوفمبر من عام 1922م وبعد ذلك بأقل من أسبوعين بدأت مفاوضات مؤتمر لوزان في سويسرا بين الدولة التركية وبين بريطانيا بخصوص شروط استقلال تركيا من الاحتلال الانجليزي مقابل اعلان الغاء الخلافة والسلطنة التركية. وبحكم ثقافة أحمد شوقي التاريخية والسياسية قام بدهاء وحنكة أدبية بتوظيف هاتين الحادثتين (اكتشاف المقبرة ومعاهدة لوزان)
للقدح والاعتراض على موقف الانجليز من قاضينا المصيرية حيث يشتكى شوقي إلى توت عنخ آمون من أن القوم سوف تشغلهم الدهشة بمقبرته وتصرفهم عن اعطاء حقوق العرب والمسلمين التي يقسمها كما يشاء وزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت اللورد كيرزون:
وَأُقسِمُ كُنتَ في (لَوزانَ) شُغلاً    وَكُنتَ عَجيبَةَ المُتَفاوِضينا
أَتَعلَمُ أَنَّهُم صَلِفوا وَتاهوا        وَصَدّوا البابَ عَنّا موصِدينا
وَلَو كُنّا نَجُرُّ هُناكَ سَيفاً         وَجَدنا عِندَهُم عَطفاً وَلينا
سَيَقضي (كِرزُنٌ) بِالأَمرِ عَنّا     وَحاجاتُ الكِنانَةِ ما قُضينا
 
مفاوضات سياسية ومعاهدة استقلال أخرى غير عربية وظفها أحمد شوقي في شعره السياسي وهو ما نجده في قصيدته التي خصصها للسياسي الهندي البارز المهاتما غاندي. وكما توجس شوقي القلق من مفاوضات تركيا مع الاحتلال الانجليزي نجده كذلك يتوجس من تبعات مؤتمر (الدائرة المستديرة) بلندن عام 1931 المتعلق بمفاوضات استقلال الهند عن التاج البريطاني. ولهذا نجد أحمد شوقي يكتب قصيدة لتحية الزعيم غاندي عندم مر بمصر في طريقة إلى بريطانيا وفي ختامها يحذر شوقي الزعيم غاندي من ألاعيب الانجليز حيث شبه مفاوضات (الدائرة المستديرة) بدائرة لعبة القامر (لعبة البريدج) التي تستخدم أوراق الباصرة وأنه لضمان نجاح مستقبل الهند من هذه المقامرة السياسية لابد أن يكون غاندي على مستوى المهارة الازمة (لكشف ورق كوتشينة) الساسة الانجليز من السادة واللوردات:
من المائدة الخضراء       خذ حذرك يا غاندي
ولاحظ ورق السير         وما في ورق اللوردِ
وكن ابرع من يلعب           بالشطرنج والنردِ
ولاق العبقريين               لقـــاء النـــد للنــــدِ
وقل هاتوا افاعيكم        أتى الحاوي من الهندِ
 
كما هو معلوم لا يذكر أحمد شوقي في مناسبه ما إلا ويكون قرينه شاعر النيل حافظ إبراهيم لكن شتان ما بين الشاعرين في سعة الاطلاع السياسي ونفاذ البصيرة في الحكم على مظاهر الاشياء ومخابرها. فبينما نجد أحمد شوقي يدبج قصيدة ساخنة ضد زيارة الرئيس الامريكي روزفلت لمصر نجد أن حافظ إبراهيم في المقابل يكتب قصيدة بعنوان (أي رجال الدنيا الجديدة مُدوا) يخاطب فيها أمريكا (أرض كولمب) ويطلب منها مد اليد لرفعة الشرق (الدنيا القديمة) كما أنه يمدح أمريكا ويرتجي منها أن تكون داعمة للسلام !! :
أَرضُ كولُمبَ أَيُّ نَبتَيكِ أَغلى            قيمَةً في المَلا وَأَبقى مَتاعا
أَرِجالٌ بِهِم مَلَكتِ المَعالي                 أَم نُضارٌ بِهِ مَلَكتِ البِقاعا
لا عَداكِ السَماءُ وَالخِصبُ وَالأَمـ       ـنُ وَلا زِلتِ لِلسَلامِ رِباعا
طالِعي الكَونَ وَاُنظُري ما دَهاهُ          إِنَّ رُكنَ السَلامِ فيهِ تَداعى
 
وختماً إن الكلام عن أبعاد الشعر السياسي والاتجاهات الوطنية في الأدب العربي أمر واسع فقد تم نظم وتدبيج الاف القصائد التي تدور حول مقاومة المحتل أو للتفجع على مصائب الأمه ومن الشعراء من نظم قصائد المعارضة السياسية والبعض ربما غامر بهجاء الخلفاء مثل الأعشى الهمداني وهو غير أعشى قيس السابق الذكر. ولكن ما لاحظناه بصورة عامة أن الاهتمامات السياسية غير العربية أو الإقليمية ضعيفة جدا عند المتخصصين بالشعر السياسي من الشعراء العرب حتى المعاصرين منهم مثل نزار قباني أو الجواهري أو أحمد مطر أو مظفر النواب. والأغرب من ذلك أننا ربما نكاد نجد القصائد المعروفة (لشعراء المهجر) الذي أصلا عاشوا في مجتمعات غربية وغير مسلمة مثل الأمريكيتين الشمالية والجنوبية يندر نسبيا فيها الشعر السياسي غير العربي ولهذا ربما نجد قصائد جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وهم في المهجر تعاني من مشكلة (الإغراق في المحليات) العربية. في زمن العولمة و(القرية الكونية) التي نعيش فيها أعتقد لا بد أن يكون للأدباء والشعراء اهتمام أكبر بأن تعكس قصائدهم واشعارهم مشاكل ومآسي الشعوب الاخرى سواء كانت كوارث طبيعية أو جرائم سياسية أو فقر اقتصادي أو تفكك أسري وأخلاقي.
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق