فتاة الموصل وكأنها المقصودة بتوصيف المتنبي (دمع الحزن في دمع الدلالِ)
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في أوقات الحرب والقتال وفي أجواء الكوارث
الطبيعية المهلكة كالزلازل والفيضانات والقحط تكون المشاعر الإنسانية في أقصى
درجات الشفافية وقوة التأثير في الآخرين المتعاطفين مع المعذبين في الارض. وبحكم
أن الصورة أقوي من ألف كلمة كما يقال أصبحت مهنة (المصور الصحفي) واحدة من أكثر
المهن الإعلامية تأثيرا في الجماهير وذلك عند التقاط صورة لروح إنسانية منكوبة في
ساحات القتال أو مطحونة تحت رحى الكوارث. وكنتيجة وتقدير لأثر الصور الفوتوغرافية
التي تعكس المشاعر الإنسانية الصارخة يتم حاليا طرح العديد من الجوائز الدولية في
مجال التصوير أشهرها بلا شك جائزة بوليتزر Pulitzer Prize للتصوير والتي تمنح للصور
الفوتوغرافية الأكثر تميزا في مجال الاخبار الاعلامية أو صور والتحقيقات الصحفية وهذه الجائزة تمنح
من خلال جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك. ومن الجوائز العالمية المرموقة في هذا
المجال كذلك جائزة الصحافة العالمية للتصوير والتي تمنح من خلال منظمة مختصة في هولندا.
في واقع الحال كل شعوب الارض تألم لوقع
المأساة وتتوجع من شعور المعاناة التي تصيب الارواح المنكوبة وخصوصا إذا كانت هذه
الارواح البشرية المعذبة هي روح الطفولة البريئة. وهذا يفسر لنا بكاء ونشيج
الملايين عبر العالم لصور أطفال سوريا (خصوصا الطفل الغريق إيلان) والطفل
الفلسطيني رمز الشهادة محمد الدرة أما الاعلام الغربي ونظرا لأن المأساة تقع أحيانا
على أراضيه فقد صدمت الشعوب الغربية في العمق عندما نشرت صورة الطفل الامريكي الصريع من تفجير مدينة
أوكلاهوما عام 1995 وهو بين يدي رجل الشرطة بعد أن أنتشله من بين الركام. وقبل ذلك
بعقود اثارت صورة الأبن الاصغر للرئيس الامريكي جون كندي أحزان الامريكيين عام
1963 عندما وقف وهو في سن الثالثة أمام تابوت والده المقتول وقام بتوديعه بتحية
عسكرية طفولية اصبحت من أشهر صور فترة الستينات في القرن العشرين.
وفي هذا السياق نفهم ما تم خلال هذا
الأسبوع وبشكل واسع عبر وسائل الإعلام العربية ووسائل التواصل الاجتماعي من تداول
صورة الطفلة العراقية النازحة هي وأهلها من مدينة الموصل فرارا من أجواء القتال
الضاري فيها. لقد تم التقاط هذه الصورة لها
بواسطة مراسل وكالة رويترز للأنباء واشتهرت عالميا بسبب المشاعر الإنسانية
المتزاحمة والمتضادة على محيا الطفلة الجميلة. فبعد أن فجعت وأخرجت هي وأسرتها تملكتها
مشاعر الخوف والحزن والقهر ويبدو أنه عندما طلب منها المراسل الصحفي أن يأخذ لها
صورة فوتوغرافية تفاجأت وغشى ثغرها البريء ظلال من ابتسامة مكبوتة. ولهذا أصبحت
هذه الطفلة من ذوات الخدور التي فاجأها المصاب وأبرزها وأخرجها من بيتها وكأنها
تجسيد للأبيات المتنبي المشهورة:
وأبْرَزَتِ الخُدورُ مُخَبّآتٍ يَضَعْنَ النِّقْسَ أمكِنَةَ الغَوالي
أتَتْهُنّ المُصيبَةُ غافِلاتٍ فدَمْعُ الحُزْنِ في دَمعِ الدّلالِ
مأساة مريعة لطفلة عربية أخرى رصدتها
عدسات الاعلام وتجاوب معها أحرار العالم حصلت للطفلة الفلسطينية هدى غالية ذات
العشر سنوات حيث ظهرت عام 2006 وهي تبكي بفجيعة محزنة بالقرب من جثامين سبعة من
أفراد عائلتها على شاطئ بحر غزة في بيت لاهيا. هذه المجزرة الرهيبة حصلت بعد قيام
البوارج الاسرائيلية وبدون مبرر واضح بقصف المدنيين المصطافين على شاطئ البحر مما
اثار موجة غضب عالمية تجاه الوحشية الصهيونية. قد لا تكون فتاة غزة وعائلتها على
وعي كامل بالخطر المحدق بهم لكن الوضع كان مختلف تماما أثناء الحرب الفيتنامية حيث
حصل عام 1972م هجوم بقنابل النابالم المحرقة على قرية ريفية صغيرة. وهنا حصلت
مأساة (فتاة النابالم) الفيتنامية الشهيرة للطفلة كيم فوك ذات التسعة أعوام والتي
تعرضت وافراد اسرتها للهيب قنابل النابالم المريعة والتي ألقتها الطائرات
الفيتنامية الجنوبية الحليفة للجيش الامريكي. وعندما فرّ افراد القرية من الحرائق
المشتعلة تم التقاط صورة غاية في الشهرة لهذه الفتاة المنكوبة التي كانت تجري في منتصف الطريق وهي تصرخ من ألم الحريق
كما أنها قامت وبعفوية طفولية تامه بخلع كامل ملابسها وتحريك ذراعيها في الهواء
كمحاولة لتخفيف الالم الفظيع. والجدير بالذكر أن صورة (فتاة النابالم) الفيتنامية
قد حصلت على جائزة بوليتزر للتصوير
عام 1973 كما إن هذه الفتاة تم انقاذها وعلاجها في ولاية ميامي وهي حاليا تعيش في
كندا.
كما هو واضح فإن الصور الحزينة للفتيات
السابقات تم التقاطها وهن في عز المأساة وفي لحظة الانكسار النفسي المؤلمة ولكن
بعض الصور ذات الشهرة العالمية الطاغية تم التقاطها في ظروف أقل درامية وإن كانت
أجواء الحرب ما زالت تخيم على ظروف التقاط تلك الصور. ومن أطرف الصور التي يمكن
ذكرها في هذا السياق (وإن كانت أجواء الحرب ليست مجالا للمرح) صورة تلك الطفلة
السورية ذات البراءة الملائكية والتي التقطت لها في أحد مخيمات اللاجئين السوريين
في جنوب تركيا. ففي أواخر عام 2014 قام أحد الصحفيين بالتقاط صورة فوتوغرافية لتلك
الطفلة الجميلة ذات الاربعة سنوات والتي عندما شاهدت كاميرا التصوير بيده حسبتها
نوع من الاسلحة ولهذا وبكل عفوية وبراءة قامت الطفلة برفع يديها الصغيرتين ومدهما
فوق راسها وشدت على شفتيها ونظرت بخوف للعدسة وكأنها تستسلم للمصور الذي توهمت أنه
يريد ان يقتلها. وكأننا بهذه الكوميديا السوداء نقوم بتجسيد حال الامة العربية
المزري التي يتعرض فيها حتى الاطفال للتخويف والترويع. أما الفتاة الافغانية
المذهلة شربات جولا والملقبة (بفتاة الموناليزا الافغانية) فربما تعتبر صورتها من
اشهر صور التقارير الصحفية في جميع العصور. وقد التقطت لها تلك الصورة التي نشرتها
مجلة الناشونال جيوغرافيك على غلاف مجلتها في عام 1984 عندما كانت تقيم في مخيم
اللاجئين الافغان في باكستان وقد كان لها من العمر في ذلك الوقت 12 سنة. وبالرغم
من الهدوء الظاهر على ملامح هذه الفتاة إلا أن عينيها الواسعتين والمحدقة بتركيز
آسر لعدسة الكاميرا أوحت بالشيء الكثير عن معاناة النازحين والمشردين من الحرب في
أفغانستان وقت الاعتداء الروسي الغاشم. والجدير بالذكر أن هذه الصورة اصبحت لاحقا
(أيقونة عالمية) بالغة الشهرة لدرجة أن منظمة العفو الدولية كانت تستخدم هذه
الصورة على نطاق واسع في كتيباتها وملصقاتها. ومن الملائم الاشارة ايضا أنه تم في
عام 2002 تمكن المصور ستيف ماكوري الذي ألتقط تلك الصورة وفريق ناشونال جيوغرافيك
من العثور مرة أخرى على (فتاة أفغانستان) وهي في سن الثلاثين بعد أن تزوجت وتم
تصوير فلم وثائقي خاص عنها.
كوارث الطبيعة وضحايا الطفولة
الكوارث الطبيعية (زلازل، فيضانات،
أعاصير، جفاف ..الخ) قد تتسبب في زوال وهلاك أمم ودول وحضارات قائمة فما بالك
بقدرتها على تمزيق إيهاب الطفولة الرقيق. ومرة أخرى نجد الصور الفوتوغرافية
والتغطية الاعلامية المتعلقة بتأثير الكوارث الطبيعية على الاطفال تدمي القلب
وتبكي العين وتجرح الروح. ومن أكثر الصور الصحفية التي خلدتها ذاكرة الملايين من
البشر تلك المتعلقة بصور الاطفال الافارقة في المجاعات وكوارث الجفاف التي تكررت
على عدد من الدول الافريقية المختلفة عبر العقود الماضية. ولهذا لا عجب أن نعلم أن
جائزة الصحافة العالمية للتصوير في عدة أعوام ذهبت لصور فوتوغرافية وثقت حال
الطفولة المنكوبة أثناء الجفاف والمجاعة. فمثلا جائزة الصحافة العالمية للتصوير
لعام 1975 كانت لطفل جائع اثناء القحط الذي أصاب النيجر في تلك السنة بينما جائزة
الصحافة العالمية للتصوير لعام 1981 كانت صادمة للملايين من البشر لأنها كانت تظهر
المفارقة الحادة بين يد طفل أوغندي ضامرة جدا وهي في راحة رجل أبيض سمين وذلك
أثناء موجة الجفاف الكارثية التي أصابت القرن الافريقي في مطلع الثمانينات من
القرن العشرين.
أما اكثر القصص مأساوية وفجيعة فيما يتعلق
بصور ضحايا الجفاف والمجاعة من الاطفال فهو ما حصل عام 1993 مع طفلة صغيرة من جنوب
السودان والتي اصابها الجوع الشديد والاعياء لدرجة أنها سقطت على الارض وهي في
طرقها لمخيم الاغاثة حيث لم تعد تقوى على المشي أو الزحف. وصادف أن كان في نفس
المكان المصور الصحفي كيفن كارتر وفيما كان يتحضر لالتقاط صورة لها حط بقرب الطفلة
المنكوبة نسر ضخم وكأنه ينتظر أن تموت ليلتهمها وهنا قام المصور الصحفي بالتقاط
الصورة البالغة الشهرة والمؤلمة جدا لمصير هذه الفتاة وبعد أن طرد المصور النسر عن
الفتاة المنكوبة تركها لمصيرها المحتوم. وبعد اشتهار هذه الصورة على مستوى العالم
حصل كيفن كارتر على جائزة البوليتزر للتصور عام 1994 وهنا بدأت المأساة الحقيقية
في حياته فبعد ان أشتهر أصبح الجميع يسأله عن مصير الفتاة والبعض منهم ربما قام
بتأنيبه لعدم حمله للفتاة وتوصيها لمخيم الاغاثة. ولذلك اصيب هذا المصور الصحفي
بانهيار نفسي حاد قادة للانتحار بعد ثلاثة اشهر فقط من حصوله على تلك الجائزة
الدولية.
ومن الصور الاخبارية المؤلمة لمصائب ومآسي
كوارث الاطفال والفتيات مع الجفاف إلى الطرف المقابل من (الصورة المأساوية) وأعني
بذلك الصور المشتهرة دوليا والتي تم فيها توثيق مصير الفتيات المنكوبات والاتي
تعرضن للغرق جراء الفيضانات وطوفان المياه. ربما أكثر الصور الاخبارية التي تثير
الألم النفسي في هذا الشأن هي صورة تلك المرأة اليابانية التي كانت تبحث في الركام
الطيني عن أبنتها المفقودة اثناء فيضان التسونامي الشهير الذي اصاب السواحل
الشرقية لليابان عام 2011م. وبعد ان وجدت الام المفجوعة طفلتها الفقيدة صريعة في
الطين حملتها علي يديها وأخذت بالنحيب والبكاء المرير. ونختم هذا الموضوع المؤلم
والمحزن بالتذكير بالصورة الاخبارية التي تناقلتها وسائل الاعلام بشكل مكثف عام
2015 بعد الزلزال العنيف جدا الذي أصاب دولة نيبال وراح ضحيته أكثر من ثمانية الاف
قتيل. وكما يحصل دائما بعد كل زلازل عنيف يتعرض عشرات الالاف للتشرد بعد التدمير
الكامل لمنازلهم ويصاب البعض بحالة هلع حادة وحصل أن شاهد مصور صحفي طلفه صغيرة
عمرها سنتين فقط وهي في حالة خوف ورعب نفسي محزن لدرجة أنها كانت تحتمي وتلجأ
بأخيها الصغير الذي لم يكن يزيد عمره هو الآخر عن أربع سنوات فقط. وبالفعل كانت
هذه الصورة محركة للقلوب الرحيمة بسبب حالة الخوف والتشرد التي أصابت هذه الطفلة
المنكوبة وأخيها وبغض النظر عن دقة نسبة هذه الصورة سواء أنها ملتقطه بعد زلازل
النيبال أو أنها كانت لأطفال الشوارع في فيتنام كما يقول المشككون بمصداقية هذه
الصورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق