اسلحة الحرب التجارية بين امريكا والصين
د/ أحمد بن حامد
الغامدي
في عالم السياسة
اليوم دوي المدافع يصم الآذان ومن لم يسمع طبول الحرب فهو أصم كما حذر سابقاً ثعلب
السياسة الأمريكية هنري كيسنجر. ولكن لكل زمان دولة ورجال وقتال فبعد تقليعة
التحذير من (حروب الجيل الرابع والخامس والسادس ... الخ) سوف نختزل متاهة الاسماء
تلك إلى مفهوم مركّز هو مبدأ (الحرب الشاملة) وربيبتها الطفلة الشقية (الحرب
الاقتصادية).
منذ عقود طويلة والحرب
الطاحنة بين الدول الكبرى والتكتلات السياسية العظمى لا تتم في ساحات المعارك ولا
جبهات القتال ولكن تتم في شوارع الاسواق التجارية وباحات البورصات المالية وأرقام التعريفات
الجمركية.
وفي هذا السياق
يمكن فهم التصعيد الاخير بين الولايات
المتحدة والصين والدور الذي يلعبه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كمسعر حرب وأنه -
حسب زعمه - الرئيس المختار من الله لخوض (الحرب التجارية) مع الصين الاشتراكية.
صحيح أن أسباب
الحرب ونتائجها غالبا ما تكون عصية على الفهم لكن لا يحتاج المرء للرجوع لعباقرة
الفكر وفلاسفة الفهم ليدرك أن حقيقة الحرب كما قال سقراط من غابر الزمن (كل الحروب
تشن من أجل المال). المال هو الغنيمة الكبرى في أي حرب ولكن ينبغي أن لا نغفل كذلك
أنه عندما تعجز الدول الكبرى والقوى العظمى
عن سحق بعضها البعض في أرض المعركة فإنها تلجأ إلى استراتيجية كسر عظم
الهيكل الاقتصادي للخصم.
ومن هنا سوف
تتردد بكثرة في مستقبل الايام مصطلحات الحروب الاقتصادية من مثل الحرب التجارية
والحرب الجمركية وحرب العملات وحرب الضرائب وحرب الاسعار وحرب البورصات. في مجال
العلوم الحربية نجد أن مصطلح (العمليات العسكرية) يدور حول منظومة من
الاستراتيجيات القتالية التي تهدف بشكل أساسي لتحقيق هزيمة العدو من خلال تدمير
العديد من الأهداف التكتيكية أو الاستراتيجية على حدا سواء.
في ساحات
المعارك الاقتصادية والتجارية تكون الاهداف الحربية المعرضة للقصف والتدمير هي
الاسواق المالية والبورصات التجارية والحسابات البنكية وسعر صرف العملات النقدية.
ونظرا لاختلاف أرضية المعركة التجارية سوف تختلف ولا شك طبيعة أسلحة الدمار الشامل
المستخدمة هنا فهي تشمل مثلا أسلحة (هجومية) مثل الحصار والمقاطعة والتلاعب بالعملة
والمضاربة بالأسهم وإغراق الاسواق ومنع القروض وحظر المعاملات المالية والتخريب أو
التجسس الاقتصادي.
في حين أن
ترسانة الاسلحة الاقتصادية (الدفاعية) سوف تكون من نوع تخفيض سعر الفائدة وزيارة
الرسوم وحضر الاستيراد وزيادة فائض الميزان التجاري وما شابه ذلك من الاحترازات
والعمليات الاقتصادية المتعمدة.
للوهلة الاولى
وبسبب زخم المصطلحات التجارية السابقة الذكر قد نعتقد أن الحروب الاقتصادية هي
ظاهرة حديثة في التاريخ البشري بينما في الواقع أن استخدام تلك الاسلحة الاقتصادية
الماحقة حاصل منذ فجر التاريخ.
لقد عاصر الفيلسوف
الاغريقي المعروف سقراط أحداث الحرب البيلوبونيزية اليونانية بين أثينا واسبارطة
ولهذا عندما توصل لتأطير حقيقة أن (كل الحروب تشن من أجل المال) عرف ذلك من رصده
أن سبب هذه الحرب الكبرى بدأت من توسع حلف مدينة اثينا الاستعماري والتجاري على
حساب حلف مدينة إسبارطة. في واقع الأمر خلال هذه الحرب استخدمت الأساطيل البحرية
لمدينة إسبارطة سلاح الحصار البحري sea blockade ضد مدينة أثينا وبعد ذلك بعدة قرون سوف يتكرر نفس هذا التكتيك
الحربي الاقتصادي عندما تقوم مدينة روما في نهاية الحروب البونية بفرض حصار بحري لمدة ثلاث سنوات ضد مدينة
قرطاجة.
أما سلاح المقاطعة boycott ذو الاثار المالية المزعزعة لاستقرار الدول اثناء النزاع العسكري
فمن أمثلته البارزة المقاطعة الامريكية للبضائع الانجليزية عند اندلاع ثورة
الاستقلال الامريكية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. ومن أشهر عمليات استخدام
سلاح المقاطعة الاقتصادي ما قامت به الدول العربية من حظر بيع النفط للدول الغربية
المساعدة للكيان الصهيوني بعد اندلاع حرب الايام الستة سيئة الصيت.
في العقود
الاخيرة زادت حدة فرض التدابير المالية والعقوبات الاقتصادية sanctions بين الدول المتناحرة ومن
أمثلتها في التاريخ الاقتصادي القديم فرض الامبراطور الفرنسي نابليون قانون يحرم
التجارة وشحن السلع من وإلى الجزر البريطانية.
أمريكا والصراع
على السلع التجارية
في عز سنوات
الحرب على الإرهاب كان المفكر الأمريكي البارز نعوم تشوميسكي يحذر من أن الولايات
المتحدة نفسها هي قائدة الإرهاب في العالم وأنها مصدر التهديد الأخطر للسلم
الدولي. ومع زخم الضجة الإعلامية حول جبهات القتال الجديدة بين أمريكا والصين
والحرب التجارية النشابة بينهما لا غرابة أن نجد نعوم تشوميسكي يشكك مرة أخرى من
سلامة السياسية الخارجية لبلاده وأنها قد تضر الاقتصادي الأمريكي نفسه.
سجلات التاريخ
تكشف لنا أن الأمة الامريكية خلال تاريخها القصير نسبيا (بالمقارنة بالإمبراطوريات
الأخرى) دخلت في صراع مسلح مع أكثر من ثلاثين دولة في أزمان متفاوتة. وبمثل هذا
التاريخ الحافل بالعدوان ورد العدوان لا غرابة أن نكتشف أن الولايات المتحدة أكثر
دولة معاصرة انخرطت في شن الحروب التجارية وافتعال المعارك الاقتصادية.
تداول السلع
التجارية هو المحرك الاساسي لأي اقتصادي دولي مربح ولهذا لم يكن الاقتصادي الفرنسي
القديم فردريك باستا يبالغ كثيرا عندما قال (عندما لا تعبر البضائع الحدود بين
الدول فإن الجيوش سوف تفعل ذلك). بمثل غطرسة القوة هذه المعجونة بالأطماع
الرأسمالية المعروفة نجد أن كل التاريخ الأمريكي سلسلة متصلة من الحروب التجارية
منذ (معركة الشاي) مع بريطانيا وحتى (حرب الجولات) اليوم مع الصين.
التاريخ
الامريكي أنبثق بحفلة شاي في مدينة بوسطن وذلك في عام 1773 وذلك عندما قام مجموعة
من المستوطنين الامريكان باقتحام السفن الانجليزية في ميناء بوسطن واتلاف حمولتها
من صناديق الشاي كوسيلة للتعبير عن رفضهم لسياسات الضرائب الحكومية البريطانية
وكمحاولة للإضرار بالاقتصاد الانجليزي من خلال مقاطعة صادراته التجارية.
الطريف في الأمر
أنه بتعدد وتنوع السلع الاقتصادية والبضائع التجارية نجد حزمه من المعارك التجارية
التي شنتها الولايات المتحدة مع مختلف دول العالم المعادية لها والحليفة لها على
حدا سواء. من ذلك مثلا نجد أن النزاع العسكري المسمى (حروب الموز) نشب في نهاية
القرن التاسع عشر بين أمريكا من جهة وبين مجموعة من دول أمريكا الوسطى وجزر
الكاريبي وذلك لحماية المصالح الامريكية الاقتصادية والاستراتيجية المزعومة في
الحديقة الخلفية لأمريكا.
(حلفاء اليوم
ربما هم أعداء الغد) يبدو أن الولايات المتحدة أكثر من يؤمن بهذه الفرضية ولهذا لم
تتردد أمريكا عن شن الحروب الاقتصادية على أي دولة تنازعها نفوذها الاقتصادي حتى
ولو كانت تلك الدولة أقرب حليف.
هذا السلوك
العدائي أصبح سائد في السياسة الأمريكية بعد منتصف القرن العشرين عندما أصبحت سيدة
العالم الغربي ومن دلائل ذلك شنها للمعركة الاقتصادية (حرب الموز الثانية) والتي
استمرت لحوالي عشرين سنة ضد الاتحاد الأوروبي وذلك عندما تم مضايقة شركات الفاكهة
الأمريكية العاملة في أمريكا اللاتينية من
تصدير منتجاتها الزراعية إلى أوروبا.
كنوع من الحماية
الاقتصادية لتجارة الدواجن في فرنسا وألمانيا قامت السلطات التجارية في هذين
البلدين بفرض رسوم عالية على دخول الدواجن الامريكية وهذا ما تسبب في اعلان
الولايات المتحدة لشنها الحرب التجارية (المسماة حرب الدجاج) وذلك عندما وضعت
حواجز مالية ضد استيراد الخمور والشاحنات من فرنسا وألمانيا.
(حرب المعكرونة)
هي حرب تجارية مشابهه شنتها أمريكا ضد ايطاليا وبعض الدول الاوروبية وذلك عندما
قامت هذه الدول برفع رسوم دخول الصادرات الزراعية الامريكية من البرتقال والحمضيات
فكان القصف الامريكي المضاد وضع تعرفة رسوم مرتفعة ضد منتجات الباستا والمعكرونة
الاوروبية.
بشكل متكرر عانت
الدول الاوروبية من الصلف الامريكي الاقتصادي ولهذا كتب التاريخ وكتب الاقتصاد على
حدا سواء تذكر تفاصيل الحروب التجارية بين إخوة السلاح بالأمس والإخوة الاعداء
اليوم ولهذا نشبت (حرب الاخشاب) بين أمريكا وكندا و (حرب الفولاذ) بين أمريكا
والاتحاد الاوروبي.
أحد أهم المشاكل
الاقتصادية للدول الكبرى أن يكون (الميزان التجاري) بينها وبين الدول الأخرى مائل
لصالح الشريك التجاري والخطورة تكمن عندما يكون العجز في الميزان التجاري بمبالغ
فلكية ضخمة تتسبب في استنزاف الاقتصاد المحلي. وفي مثل هذه الحالة تنشب أشد وأشنع
الحروب التجارية بين الدول كما حصل قبل عدة عقود من الزمن بين أمريكا واليابان
(حرب الإلكترونيات) وكما هو حاصل اليوم بين أمريكا والصين تلك الحرب الاقتصادية
التي يمكن تسميتها (بحرب الجولات).
من غرائب التاريخ
أن الولايات المتحدة ساهمت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية في (صناعة) خصومها
الاقتصاديين فعن طريق مشروع مارشال في أوروبا وألمانيا والدعم المالي والسياسي
لليابان ولاحقا لكوريا الجنوبية تم إنعاش اقتصاديات هذه الدول ومن ثم نموها السريع
بطريقة مذهلة وصفت بالمعجزة الاقتصادية.
وبحكم أنه في
الاقتصاد كما في السياسة لا توجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة ساهمت الولايات
المتحدة بعد ذلك في حصول ركود اقتصادي لليابان عندما فرضت تعرفه رسوم جمركية عالية
ومجحفة ضد دخول الصناعات اليابانية المتطورة مثل الأجهزة التقنية والشرائح
الالكترونية وكذلك تعمد الامريكان قصف قطاع صناعة السيارات اليابانية خصوصا شركة
تويوتا وهي الحرب التجارية التي توصف أحيانا (بحرب السيارات).
وختاما بعد هذا
التطواف في زوايا التاريخ ودهاليز السياسة وبورصات المال والأعمال نصل إلى مشارف
أرض ساحة القتال الاقتصادي الاخيرة بين أمريكا والصين وماذا يمكن أن يسفر عنها.
التنين الصيني عبر القرون المتطاولة لم تزيده النكبات والصعاب إلا صلابة وحيوية
فهو كما يقال قد يمرض لكنه لا يموت والشعب الصيني هو الوحيد بين شعوب العالم الذي
تعرض لحرب اقتصادية مهينة ومذلة ولكنه خرج منها بحال أقوى وحيوية أوفر.
هذا ما حصل قبل
حوالي قرن ونصف من الان عندما تعرضت الصين لحرب قذرة مع الامبراطورية الانجليزية
اشتهرت في كتب التاريخ باسم (حرب الأفيون).
في عز عنجهية الامبراطورية الانجليزية التي لا تغيب عنها الشمس في منتصف
القرن التاسع عشر أعلنت شنها حرب ضروس ضد الامبراطورية الصينية لكي تجبرها بقوة
السلاح على فتح حدودها أمام (تجارة) الافيون.
لقد كان الانجليز يشرفون على زراعة هذه المخدرات
في شمال الهند ومن ثم شحنها إلى الصين لكي يقايض بها الجنتلمان الانجليزي مشترياته
التجارية من الصين المتمثلة في الشاي والحرير والبورسلان. في حرب الافيون الثانية
شاركت فرنسا بريطانيا في هذا الاثم المخزي ولهذا أعترض الأديب الفرنسي البارز
فكتور هوغو صاحب رواية البؤساء عن هذا الوضع البائس في سياسية الدول الرأسمالية
عندما تتحول الحكومات إلى لصوص.
اسمح لي يا
قارئي العزيز بالتوقف قليلا للتذكير بشيء مهم وهو أن بعض المعارك الكبرى قد ينتج
عنها دول سياسية مهيمنة وقوى عظمي مسيطرة super power كما حصل مع الامبراطورية البريطانية في العصر الفيكتوري بعد
انتصارها مع حلفائها على جيوش نابليون في عام 1812م وكما سوف يحصل لاحقا مع أمريكا
عندما انتصرت مع حلفائها على جيوش هتلر وعصبته. تحذير مهم أطلقه أحد ألمع العقول
الامريكية وأحد الاباء المؤسسين للولايات
المتحدة وهو بنجامين فرانكلين عندما قال (تكاليف الحروب لا يتم دفعها اثناء زمن القتال ولكن الفواتير تأتي
لاحقا).
في منتصف القرن
التاسع عشر (بالمناسبة يطلق عليه قرن الامبراطورية البريطانية) وتحت نشوة القوة
وسكرة النصر أكملت بريطانيا احتلالها للصين بعد حرب الافيون الثانية كما أنها
سيطرت بالكامل على الهند وأقامت حكم (الراج البريطاني) ثم قلّمت أضافر
الامبراطورية الروسية القيصرية في وسط أسيا بعد انتصرت عليها في حرب القرم ثم بعد
ذلك أكملت بسط حكمها على جنوب أفريقيا وختمت أخيرا عدوانها العسكري المتواصل
باستعمار مصر والسودان. وفي
خاتمة المطاف
حان موعد تسديد الفواتير الذي حذر منه قديما بنجامين فرانكلين فبعد أن كانت الجزر
البريطانية مهد الثورة الصناعية وموطن الثورة العلمية وورشة العالم وملجأ
المضطهدين (كانت أول دولة أصدرت قانون
إلغاء العبودية) وإذا باقتصادها يصيبه الكساد وإذا بشرائح واسعة من الشعب
الانجليزي تقع تحت ثقل الفقر واختلال النسيج الاجتماعي وفي مثل هذه الفوضى قد
نتفهم لماذا ظهر فجأة كارل ماكس من قلب مدينة لندن يدعو إلى الشيوعية والاشتراكية.
الكل يعلم أن
رأس المال جبان ورجل الأعمال يبحث دائما عن مواطن الاستثمار الآمن ولهذا لا غرابة
في أجواء الاضطراب الاقتصادي والبلطجة السياسية في نهاية القرن البريطاني هاجرت
الاموال والايدي العاملة من الجزر البريطانية إلى وجهات الفرص الواعدة في أرض
أمريكا البكر وبلاد الرايخ الالماني الصاعد بقيادة بسمارك.
قبل حوالي
مائتين سنة حذر الرئيس الامريكي جيمس ماديسون رجال السياسة في بلاده من خطورة أن يعميهم الطمع وغرور القوة في التعامل مع
الشعوب والدول الأخرى ولهذا قال (تداول الثقة خير من تداول المال) فالاستثمار
السياسي والاقتصادي يحقق أرباحه فقط إذا اطمأن الناس للتعامل معك. وكما لاحظنا
التطابق في كثرة المعارك العسكرية والحروب الاقتصادية لكل من إمبراطورية القرن
التاسع عشر(بريطانيا) إمبراطورية القرن العشرين (أمريكا) ولهذا لماذا نستغرب أن يكون في نهاية المشوار
مصير العم سام الامريكي يختلف كثيرا عن مصير سلفه وقريبة العم جون الانجليزي.
بقي أن نقول أنه
في زمن المصانع متعددة الجنسيات والشركات العابرة للقارات والقوميات أصبح عالم
الاقتصاد المعاصر معقد ومتداخل ففي أي حرب تجارية الان وأثناء القصف بالقذائف
الاقتصادية من المحتمل أن يصيب الشرار والنار الخارج من الفوهة الخلفية لسبطانة
البازوكا جسم الجندي المدجج قبل ان تصل القذيفة المدمرة لهدفها.
قد تستطيع
الولايات المتحدة في الحرب التجارية الحالية التسبب في أذى وضرر اقتصادي هائل على
الصين لكن في الغالب والله أعلم أنه كما حصل مع خاتمة حرب الافيون لن تسفر حرب
الجولات عن تركيع أو ترويض التنين الصيني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق