مرور كوكب عطارد أمام الشمس .. لحظة فريدة في السجل الفلكي
د/ أحمد بن حامد
الغامدي
لكوكب عطارد
مكانة خاصة على حدا سواء في عالم الاساطير وفي دنيا العلم حيث أنه في الميثولوجيا
الرومانية تجسيد لإله العلم والحكمة بينما
هو عند علماء القرن العشرين تسجيد للدليل الملموس لتفوق اينشتاين على نيوتن. ولهذا
ينتظر هواة الفلك في جميع أنحاء العالم بشوق ساعة الأصيل من يوم الأثنين القادم
وذلك لرصد (عبور) كوكب عطارد أمام قرص الشمس. ولقد أعلن قيام المرصد الفلكي بكلية
العلوم بجامعة الملك سعود باستقبال الزوار لمشاهدة هذه الظاهرة الفلكية (Transit of Mercury) الجميلة والساحرة لحركة
كوكب عطارد التي حيرة علماء الفلك قديما وعلماء الفيزياء حديثا.
قبل أربعة قرون
من الزمن توصل عالم الفلك الالماني يوهان كبلر لاكتشاف قوانينه الخاصة بحركة
الكواكب وما يهمنا هنا هو القانون الثاني منها والذي ينص على أن الكوكب يدور بسرعة
أكبر كلما أقترب من الشمس. يبدو أن أسلافنا القدماء من أهل الجزيرة العربية قد
لاحظوا أن كوكب عطارد هو بالفعل أسرع الأجرام الملحوظة في السماء ومن هنا قد تنكشف
لنا سبب التسمية الغريبة لكوكب (عطارد) والتي قد تكون مشتقة من الفعل (عَطْرَدَ)
بمعنى أسرع وتابع في سيرة. وعلى نفس النسق ربط الاغريق بين عطارد وسرعة الحركة
ولهذا جعلوه إله السفر ومرسال الآلهة وأشهر ما كان يميزه هو أن لديه حذاء مجنح
يمكنه من الطيران والانتقال الرشيق بسرعة خاطفة. منذ زمن الرومان تم الربط بين
كوكب عطارد ومعدن الزئبق حيث ان كلا منهما يحمل نفس الاسم Mercury فالزئبق
معدن عالي السيولة والكوكب المسمى عطارد جرم سماوي متدفق الحركة.
إن سرعة دوران كوكب عطارد حول الشمس كل ثلاثة
اشهر أربكت علماء الفلك في أرض اليونان فظنوا أنه عبارة عن كوكبين منفصلين يظهر
أحدهما بعد الغروب في فترة الغسق (كوكب هيرمس) ويظهر الاخر في الشفق قبل الفجر
(كوكب أبولو). بعد ذلك بعقود طويلة رصد عالم الفلك المسلم ابن باجه بقعتين مظلمتين
على سطح الشمس فسرهما لاحقا قطب الدين الشيرازي بأنهما عبور عطارد والزهرة أمام
الشمس. ومن هنا بدأ علماء الفلك العرب في هز عرش اساسيات كتاب المجسطي لعالم الفلك
الشهير بطليموس الذي استبعد إمكانية رصد عبور كوكب عطارد أمام الشمس. مسمار آخر في
نعش معلومات كتاب المجسطي غرزه عالم الفلك الاندلسي الزرقالي عندما أقترح أن مدار
كوكب عطارد إهليجي يشبه البيضة في حين أن نظام بطليموس الفلكي يصوره دائما على شكل
دائرة تامة. ثم جاء دور عالم الفلك الدمشقي ابن الشاطر والذي يعترف اليوم مؤرخي
العلوم في أوروبا بأن حساباته ورسومات وتحديده لمسارات كوكب عطارد هي التي استفاد
منها عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس ليضع نموذجه الفلكي المشهور لمركزية
الشمس ومن ثم يطلق فجر الثورة العلمية الاوروبية.
لاحقا ومنذ
منتصف القرن التاسع عشر لاحظ العلماء أن مدار كوكب عطارد لا يتفق تماما مع قوانين
المعادلات الفيزيائية لأسطورة العلم اسحاق نيوتن وهذا ما أفرز ظاهرة فلكية جديدة
سمية التعجل precession حيث تزيد في مرحلة ما سرعة حركة عطارد المرصودة عما
هو متوقع رياضيا. إن رصد (العبور العَجِل) لكوكب عطارد أمام قرص الشمس هذه الايام مناسبة
تاريخية وفلكية مميزة لأنها تقريبا تتزامن مع مرور حوالي قرن من الزمن على تفاخر
اينشتاين بأنه تفوق على نيوتن. ما حصل يا سادة أن عملاق الفيزياء اينشتاين توصل
عام 1915 لطرح نظريته النسبية العامة والتي هي في جانب منها تنقيح لقوانين
الجاذبية لنيوتن وهنا تباهى أينشتاين بأن نظريته النسبية وعلى خلاف نظرية نيوتن
تستطيع بدقة علمية كبيرة تفسير ظاهرة (التعجل) الشاذ لسرعة حركة عطارد ويقال بأن
اينشتاين ظلّ منتشيا من السعادة لأيام متواصلة وكتب إلى أحد اصدقائه يخبره (لقد
تحققت أبعد أحلامي منالاً).
بقي ان نقول في
الختام أن ظاهرة المرور العابر لكوكبي عطارد والزهرة أمام قرص الشمس ليس فقط ظاهرة
فلكية نادرة الحدوث ولكن ايضا قد ينتج عن عملية رصدها اكتشاف أحد أغرب المعلومات
العلمية. القبطان الانجليزي جيمس كوك في الوقت الذي يعتبر أحد أهم الرحالة
والمكتشفين الجغرافيين على مر العصور إلا أن أحد أغرب (اكتشافاته الجغرافية) تم في
السماء وليس على الأرض !!. في واقع الامر
الرحلات البحرية الجغرافية التي قام بها جيمس كوك هي في الاصل بعثات علمية لرصد
بعض الظواهر الفلكية ففي عام 1769م رصد الفريق العلمي المصاحب لحملة كوك ظاهرة
عبور كوكب عطارد امام الشمس وحتى اليوم تسمى المنطقة التي تم الرصد منها في
نيوزلندا بجزيرة عطارد وخليج عطارد.
الأهم من ذلك قيام جيمس كوك وفريقة العلمي في
نفس تلك السنة برصد عبور كوكب الزهرة Transit
of Venus ولكن هذه المرة من جزيرة
هايتي في البحر الكاريبي. لقد مكن رصد عبور كوكب الزهرة من قبل كوك وبعثات علمية
أخرى متعددة في كندا وروسيا والمكسيك والنرويج من حساب المسافة بين الارض والشمس
وأنها تبلغ 150 مليون كيلومتر. ولقد تم ذلك من خلال استخدام هذه البينات الفلكية
المتنوعة من مواقع جغرافية متباعدة على سطح الارض وتوظيفها في دراسة ظاهرة تخاطل
أو تزيح الشمس solar parallax التي تعتمد على التغير الظاهري لموقع الشمس
واختلاف المنظر المرئي باختلاف مكان الرؤية.
صحيح أن مرور عطارد على قرص الشمس سريع وعابر ولكن
اللحظات المميزة في تاريخ العلم لا تدوم طويلا فينبغي اهتبال الفرصة وعيش الحدث. تنبيه
لهواة العلم والتاريخ: لن تحصل هذه الظاهرة الفلكية النادرة التي ترتبط بعمالقة
العلماء مثل بطليموس وابن الشاطر وكوبرنيكوس وإدموند هالي (رصد مرور عطارد عام
1677م) ونيوتن واينشتاين إلا بعد ردهة من الزمن فالمرور التالي لعطارد أمام الشمس لن يرصد
إلا عام 2032 ميلادي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق