الوباء والطاعون أوقف نابليون من إكمال غزوه للعالم العربي
د/
أحمد بن حامد الغامدي
في
البدء لا اعتراض على صحة المقولة الشائعة (أن التاريخ يكتبه المنتصر) ولكن التدقيق
المطروح هو عن طبيعة (المنتصر) الذي يصنع ويشكل التاريخ فهذا المنتصر لا يشترط
دائما أن يكون جيش جرار أو شخص عظيم مختار وإنما قد يكون ميكروب ضئيل لا ترصده
الأبصار. التاريخ البشري في القديم والحديث هش وقابل للكسر والانحناء نتيجة تأثير
عوامل ومؤثرات عديدة ومتداخلة من ضمنها الأمراض والأوبئة والعدوى. في التاريخ
الإنساني كم من بلاء ووباء أفرز تغييراً في موازين القوى السياسية وأسقط
إمبراطوريات عتيقة وأقام ممالك جديدة. بل الأعجب من ذلك كم (محنة) أمراض معدية
شنيعة أثمرت (منحة) عظيمة وخير كثير في تطوير مهنة الطب مثلا أو تغيير أساليب
التجارة أو حتى التأثير على جودة الأعمال الأدبية والفنية والمعمارية.
يقال
أن من يسيطر على مصر والشام فهو بالفعل يتحكم على كامل العالم العربي ولهذا تشتت
موجات الغزو الصليبي والمغولي عندما أحكمت فقط على أحد اقطاب محور (القاهرة -
دمشق) ولهذا يحق لنا أن نعجب عن كيفية مسار تاريخ منطقتنا العربية لو تمكن نابليون
بونبارت وجيشه العسكري الحديث من الجمع بين غزو الديار المصرية وغزو البلاد الشامية.
بعد توغل سهل لجيش الفرنجة الفرنساوي واحتلالهم لمدينتي حيفا ويافا في مطلع عام
1799م تغير بشكل حاد مسار التاريخ عندما تعثر جنود نابليون في حصار مدينة عكا ثم
اجتاحتهم الكارثة الكبرى عندما تفشى وباء الطاعون الرهيب في جيش الحملة الفرنسية
مما اضطر بونبارت للفرار والعودة إلى مصر وبهذا ذاق الجنرال أول هزيمة كبرى في
حياته. آخر هزيمة كبرى تعرض لها الامبراطور الفرنسي بونابرت كانت في معركة واترلو
على الارض البلجيكية كما هو معلوم لكن أقصى هزيمة تعرض لها نابليون على الاطلاق هي
تلك التي خسر فيها حوالي 300 ألف جندي من جيشه العرمرم والذي كان يفخر به ويسميه
(الجيش العظيم Grande
Armee). في عام 1812م بدأ نابليون مغامرته الكبرى لغزو الامبراطورية
الروسية وبالرغم من أنه أنطلق بجيش مهول من فرنسا يبلغ تعدده حوالي 600 ألف جندي
إلا أنه خسر نصف ذلك الجيش عندما مر عبر الاراضي البولندية وهنالك ذاق جنوده حمام
الموت ليس بحد السيف ورصاص البنادق ولكن من جراء انتشار وباء التيفويد بينهم مما
افشل خطة نابليون الاصلية في أن يصل لروسيا في فصل الصيف. وهنا تولى (الجنرال
الثلج) هزيمة بقايا الجيش الفرنسي التي وصلت أرض الجليد الروسية في عز فصل الشتاء
وبهذا تسبب بلاء الجليد ووباء التيفويد في كتابة الخاتمة السياسية والعسكرية ليس
فقط لنابليون بل للامة الفرنسية بأكملها. الغريب
في الأمر أنه قبل ذلك بسنوات قليلة وبالتحديد عام 1809م استخدم نابليون (السلاح
الجرثومي) في حربه ضد العدو البريطاني عندما تقابل الجيشين على ضفاف السواحل
الغربية لهولندا وهنا أمر نابليون بهدم السدود وإغراق المنطقة التي بالقرب من
الجيش الانجليزي بمياه السيول. بعد ذلك بفترة من الزمن أنتشر البعوض في الاجواء
وأصاب وباء الملاريا الجيش البريطاني وقتل منه أكثر من أربعة الاف جندي وهنا كان
التعليق الخبيث لنابليون (لا يجب أن نقاوم الانجليز بغير الحمى وهي كفيله بتبديدهم
جميعا).
بلاء
الوباء أو طعنة الطاعون القاتلة كثيرا ما أعادت كتابة التاريخ في مسار جديد أو
يمكن إعادة صياغة العبارة بأن الوباء (طمس) مساق بديل للنص التاريخي. لقد غزا
نابليون الشرق والغرب واحتل بلاد شاسعة وإن كان مخططه لغزو الاراضي الفلسطينية
أفشلة الميكروب البكتيري لوباء الطاعون فإن كتابة التاريخ قبل ذلك بحوالي ألفين
سنه تم إعادة طمسها عندما كان السلف والمثل الأعلى لنابليون القائد المقدوني
الإسكندر الأكبر بعد أن غزا الشرق والغرب يفكر أن يكمل احتلاله للعالم بغزو جزيرة
العرب كما أخبر قادة جيشه المقربين. في أواخر حياته القصيرة كان الإسكندر المقدوني
يقيم في عاصمة امبراطوريته في مدينة بابل ونظرا لانتشار وباء حمى الملاريا أو حمى
التوفئيد في العراق في تلك الفترة فقط غزت تلك الميكروبات الممرضه جسده قبل أن
يشرع ذلك المقاتل الشاب ذي 32 ربيعا في شن الحملة المقدونية لاقتحام البلاد
العربية وبهذا طمس التاريخ المحتمل لوجود تأثير حضاري غريب في قلب الأمة العربية.
إمبراطوريات
آيلة للسقوط بسبب .. فيروس
الجراثيم
الممرضة والميكروبات المعدية شيء مخيف ولهذا لم تفلح محاولة عالم الجراثيم الفرنسي
المعروف لويس باستور في تلطيف الشعور السلبي نحوها عندما قال (ليست الجراثيم هي من
نحتاج أن نقلق منها ولكن ضميرنا الداخلي). التاريخ الانساني مثخن بكوارث الأوبئة
المميتة التي تسببت في زوال إمبراطوريات وممالك كانت يوما ما مسيطرة ومزدهرة وخير
مثال (أول أفجع مثال في الواقع) هو ذكر تأثير انتشار وباء الحصبة والجدري في
امريكا اللاتينية. لقرون طويلة ازدهرت حضارة شعب الازتيك في الاراضي المكسيكية
وشعب قبائل الإنكا الهندية على سفوح جبال البيرو. مسار التاريخ تغير أسلوب كتابته
بشكل دراماتيكي عندما هبط القائد الاسباني هرنان كورتيز على ساحل المكسيك في مطلع
القرن السادس عشر الميلادي وفي أعجوبة من أعاجيب التاريخ استطاع الجيش الاسباني
المكون من 600 جندي من غزو امبراطورية الازتيك المكسيكية التي يبلغ عدد سكنها عشرات
الملايين. لقد توافق الغزو الاسباني مع غزو ميكروبات وباء الجدري الذي وصل المكسيك
عام 1520م وأهلك حوالي نصف شعب الازتيك بمن فيهم الامبراطور كيتلاهوك. وبحكم أن الغزاة
الاسبان لديهم مناعة نسبية ضد مرض الجدري فلهذا لم يتأثر الجنود الاسبان كثيرا
بهذا الوباء مما جعل الازتيك يخشونهم وكأنهم آلهة لا يقهرون خصوصا وأنهم محصنون
بأسلحة فتاكة جيدة لا يعرفها هنود المكسيك: الخيول والعربات والبارود. نفس الأمر
تكرر حذو القذة بالقذة عندما هبط الغازي (الكونكيستدور) الاسباني فرانشيسكو بيزارو
على ساحل البيرو عام 1531م وبحوزته كتيبة عسكرية تافهة لا تتجاوز 180 جندي و 27
حصان ومع ذلك استطاع أن يسقط امبراطورية الإنكا التي أنهكها قبل قتال الاسبان
انتشار وباء الجدري والذي قضى على الملايين من شعب الإنكا بما فيهم الامبراطور.
زوال
إمبراطورية الازتيك التي تضاهي أهرامها المكسيكية ضخامة وعظمة الاهرام المصرية
بسبب جراثيم صغيرة أمر محير وربما يصعب أن يصدقه البعض كما يصعب أن نقنع الجميع أن
زوال إحدى أهم وأكثر الامبراطوريات تأثيرا في تاريخ البشرية تم نتيجة فتك الأوبئة
المعدية. في العصور القديمة كانت الامبراطورية اليونانية من القوة والتقدم العلمي
والمعرفي لدرجة أنها دحرت الغزو المتكرر للجيوش الفارسية المهولة العدد ومع ذلك
كان اضمحلال تأثير الامبراطورية اليونانية من المسرح الدولي بسبب تفشي وباء
الطاعون في عاصمة الجزر اليونانية مدينة أثينا. يشير المؤرخ اليوناني الشهير
ثوسيديديس صاحب كتاب تاريخ الحروب البيلوبونيزية بين أثينا وإسبارطة أن هذه الحروب
الطاحنة انتهت عام 430 قبل الميلاد عندما تفشى وباء الطاعون اثناء حصار مدينة
أثينا وتسبب في مصرع ليس فقط كبار قادة المدينة مثل حاكمها المحنك بريكليس ولكن
ايضا في هلاك حوالي ثلثي سكان المدينة. وبالتالي تسبب الوباء بشكل مريع في اضعاف
قدرت الدفاعات البحرية لحماية المدينة من اجتياح جنود الأسطول الاسبارطي المشهورين
بكفائتهم الحربية وشراستهم القتالية مما تسبب في السقوط النهائي والمستمر للحضارة
اليونانية.
في
العادة لا تذكر الامبراطورية اليونانية إلا وتذكر خليفتها الامبراطورية الرومانية
وهو ما سوف نفعله الان وإن كنا لا نستطيع أن نبالغ ونعلل سقوط الامبراطورية
الرومانية بسبب الاوبئة المعدية. ومع ذلك كانت لحظة (التدهور الخطيرة) في تاريخ
الامبراطورية الرومانية وتعثر مسيرتها المزدهرة عندما انتشر بها وباء الجدري في
عام 165 ميلادي. في واقع الامر استمرت الامبراطورية الرومانية لمدة خمسة قرون لكن
قمة استقرار وازدهار وتقدم الحضارة الرومانية (الفترة التي تعرف باسم Pax Romana)
انتهت مع نهاية حكم الامبراطور و(الفيلسوف) الروماني ماركوس أوريليوس والذي توفي
من جراء وباء الجدري السابق الذكر والذي حصد معه كذلك حوالي خمسة ملايين شخص. لقد
وصف المؤرخ الروماني كاسيوس ديو الاثر المدمر للطاعون الأنطوني الذي أصاب
الامبراطورية الرومانية وكان يتسبب في مقتل ألفين شخص يوميا وبالتالي دمر اقتصاد
والقوة العسكرية لتلك الامبراطورية العظمى ولذا وصفها كاسيوس ديو أنها انحدرت بعد
الطاعون من مملكة الذهب إلى مملكة الصدأ والحديد. أما خاتمة انهيار الامبراطورية
الرومانية عام 476م فليس من المستغرب أن نعلم أنه سبق هذا السقوط النهائي بعدة
عقود انتشار وباء الطاعون الذي سهل انهيار الرومان المذل والمهين على يد الهمج
والبرابرة سواء من قبائل الهون القادمة من
الشرق أو جحافل القوط القادمة من الشمال.
وفي
الختام عودا على ذي بدء ونعيد ربط أول المقال بآخره ونذكر بدور الوباء والبلاء في
كتابة تاريخ منطقتنا العربية حيث ساهم الوباء والطاعون في نجاة البلاد والشعوب
العربية من غزو نابليون أو في عرقلة تنفيذ مخطط الاسكندر المقدوني لغزو جزيرة
العرب. ما تجدر الاشارة إليه أن بلاء الوباء ساهم في فترة ما في حماية بلاد
الاسلام من (إعادة كتابة التاريخ) عن طريق (إعادة) احتلال الصليبيين لبلاد الشام
والقدس حيث ساهم الطاعون في كسر موجة الحملة الصليبية الثامنة آخر الحملات
الصليبية. في عام 1270م قاد الملك الفرنسي لويس التاسع بنفسه الحملة الصليبية
الثامنة والتي كانت تهدف لاحتلال تونس ثم الانطلاق منها نحو الشرق لغزو مصر واخيرا
استرجاع بيت المقدس. ولكن جحافل الجيوش الصليبية تبددت لحظة وصولها بسبب تفشي وباء
مرض الدوسنتاريا والكوليرا بين صفوف الجنود ولم يسلم من ذلك حتى الملك لويس التاسع
نفسه أنتهى أجله في تونس وانتهت مع هلاكه الحروب الصليبية. هذا الحدث مثال على
(الدور الايجابي !!) للوباء والطاعون في دفع بلاء آخر عن بلاد المسلمين والتاريخ
العربي به العديد من مثل هذه الاحداث المتناقضة التي وإن كانت لم تمنع سقوط المدن
الاسلامية لكنها أجلت قليلا مصيرها المحتوم. من ذلك مثلا أنه بعد سقوط بغداد ودمارها
على يد المغول تردد التتار بعض الوقت في اقتحام بلاد الشام والسبب في ذلك أنه بعد
قتل حوالي مليون شخص في مدينة بغداد انتشر فيها الوباء الذي انتقل إلى أراضي الشام
حيث عم الطاعون أغلب الحواضر الكبرى في الشام وهذا ما جعل المغول يؤخرون قليلا
اجتياحهم لباقي ديار المسلمين.
في
لحظة خاطفة من التاريخ كاد الوباء والطاعون أن يعيد كتابة (أو هل نقول إعادة طمس)
التاريخ ليس فقط بإيقاف سقوط الشام في قبضة المغول عام 1259م ولكن أيضا في ايقاف
المسلسل الحزين في إكمال سقوط الاندلس في قبضة المسيحيين. تقول كتب التاريخ أنه في
عام 1489م قام الجيش المسيحي الاسباني
البالغ تعداد 25 ألف مقاتل بحصار آخر معاقل الاسلام في أرض الاندلس مدينة غرناطة. وهنا
تلوح تباشير الفرج إذ انتشر وباء التيفويد بين أفراد الجيش المسيحي ليفتك خلال شهر
واحد فقط بحوالي 17 ألف جندي ومع هروب بقية افراد الجيش ينتهي حصار غرناطة. كما هو
معلوم كان ذلك تفريج مؤقت وتأخير مؤجل للكارثة الكبرى التي حلت بعد ذلك بثلاث
سنوات عندما سقطت أخيرا مدينة غرناطة عام 1492 ميلادي.
بقي
أن نقول أن الامراض الوبائية والطاعون خصوصا تستحق بحق لقب (الموت الاسود) وهي شيء
مرعب في ذاكرة التاريخ البشري وحتى وإن خدمتنا بشكل من الاشكال في منع وحرف بعض
المصائب والاهوال عن بلاد المسلمين إلا أنها عدو معدي يجب الخوف والفرار منه. فقط
للقلوب العامرة بالإيمان والمسلمة بقضاء الرحمن يمكن أن تتلمس جوانب الحكمة من مصيبة بلاء الوباء وخير مثال على ذلك عالم
السلف الكبير الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي عاصر في عام 819 هجري انتشار وباء
الطاعون في أرض فلسطين وبالرغم من أنه توفيت اثنيتن من بناته في هذا الطاعون مع
خلق غفير من الناس إلا أنه سلم بقضاء الله ثم اخرج للامة الاسلامية كتابه الفريد
(بذل الماعون في فضل الطاعون).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق