كيف ساهم وباء الطاعون في تعزيز عبقرية نيوتن وشكسبير
د. أحمد بن حامد الغامدي
في زمن ما قديم تنبأ الأديب الفرنسي البارز
فيكتور هوجو بأن من (يفتح باب مدرسة يغلق باب سجن) لكن مع الفرحة الغامرة التي
اكتسحت شرائح واسعة من أبنائنا الطلاب وقت الإعلان عن تعطيل الدراسة يبدو وكأنهم
كانوا في سجن وبإغلاق باب المدرسة فتحنا لهم أبواب تلك الزنازين المسماة بالفصول
الدراسية. نقد (المنظومة التعليمة) أمر ذائع وشائع في كل الشعوب وعبر جميع العصور
فمثلا في بداية القرن العشرين كان التعليم الانجليزي يعتبر قمة الأصالة في الجودة
في حين أن التعليم الامريكي يعتبر قمة المعاصرة في التطوير نتيجة لنظريات الفيلسوف
وعالم النفس الامريكي جون ديوي. ومع ذلك لم يتردد علم الرياضيات والفيلسوف
الانجليزي الحاصل على جائزة نوبل بيرتراند راسل في نقد التعليم الانجليزي بقوله
(يولد البشر جاهلين ولكنهم لا يولدون أغبياء، ثم يصبحون اغبياء بفضل التعليم) أما
نقد مارك توين أشهر أديب أمريكي للتعليم في بلده فلخصه بقولة (لم أسمح قط لتعليمي
الدراسي أن يشوش على ثقافتي).
هل البيئة المدرسية خانقة للإبداع؟ هذا سؤال
مشروع وإن كانت الإجابة عليه غير حاسمة ويستطيع الجميع حشد الأدلة إما الداعمة أو
المنافية لجميع وجهات النظر حول نقطة الجدل المطروحة. ولكن من باب الاستجمام
الفكري والملاطفة المعرفية لعلنا نشغل وقت هذه الاستراحة الاجبارية للعملية
التعليمية بسرد أخبار وقصص بعض مشاهير العلماء والادباء والفنانين الذين ساعدت
قرارات تعطيل الدراسة في زمانهم بسبب تفشي الأوبئة والامراض في شحذ مواهبهم
وإبداعاتهم الفريدة.
أثناء الدراسة الاكاديمية لعبقري العلوم
إسحاق نيوتن في جامعة كامبردج اجتاح الجزر البريطانية وباء الطاعون وذلك عام 1665م
والمشهور في كتاب التاريخ بوباء (طاعون لندن العظيم) حيث يقال إنه حصد أرواح ربع
سكان العاصمة البريطانية. ونتيجة لخطورة هذا الوباء المريع تم (تعطيل الدراسة) في
المدارس والجامعات الانجليزية وهذا ما دفع نيوتن للعودة إلى منزل أسرته في مدينة
وولثروب الصغيرة في طرف الريف الإنجليزي حيث انخرط ذلك الشاب في خلوة فكرية وذهنية
أثمرت إبداع علمي غير مسبوق. في الواقع الفترة الزمنية بين عامي 1665م و 1666م تسمى
في كتب التاريخ (بسنة نيوتن العجيبة) حيث نجد فيها الطالب نيوتن بعد أن تخلص من
تأثير أعرق الجامعات العلمية في عصره يستطيع من خلال عزلته تلك التوصل لمجموعة من
أكثر الاكتشافات العلمية إذهالا. حيث ليس فقط أكتشف قانون الجاذبية بل أيضا توصل
لاكتشاف القوانين الثلاثة المشهورة في علم حركة الاجسام ووضع أسس حساب التفاضل
والتكامل واكتشف طبيعة الضوء كما أكتشف نظرية ذات الحدين وقانون التربيع العكسي. مثال
آخر (لسنة الالهام العجيبة) حصلت مع أسطورة العلم الحديث ألبرت أينشتاين وذلك عام
1905م حيث أكتشف فيها هو الآخر أبرز إنجازاته العلمية على الاطلاق ولكن تلك قصة
أخرى ليس هذا أوان سردها.
حادثة إضافية يمكن سردها لتعزيز ظاهرة
الالهام والابداع في زمن تعطيل الدراسة بسبب الوباء نجدها في مجريات الأحداث
العجيبة لحياة أحد أشهر عباقرة الموسيقى ألا وهو الموسيقار النمساوي موزارت. في
نهاية القرن الثامن عشر كانت الإمبراطورية النمساوية من أكثر الأمم تطورا في
العالم والحضارة ومع هذا لم يمنع ذلك من انتشار وباء مرض الحصبة في العاصمة فيينا
مما تسبب في مصرع ألاف من ضمنهم عدد من أفراد الأسرة الحاكمة. لقد كان الأطفال
الصغار هم أكثر ضحايا وباء الحصبة الذي انتشر في النمسا عام 1767م مما أصاب
المجتمع بالشلل شبه التام مما دفع العديد من الأسر ليس فقط لسحب أبنائهم من قاعات
المدارس ولكن أيضا الهروب بهم من المدن الموبوءة. وهذا ما قام به أماديوس موزارت
والد الطفل المعجزة فوافغانغ موزارت الذي كان في سن الحادية عشر وقت انتشار الوباء
حيث انتقلت الأسرة من مدينة فيينا إلى مدينة ريفية صغيرة تقع في شرق التشيك.
وبالرغم من إصابة موزارت وأخته الكبرى بمرض الحصبة إلا أنهما نجيا من الموت المحتم
على الأطفال في سنهما وبالرغم من إصابة موزارت بالعمى المؤقت إلا أنه في نهاية
الأشهر الأربعة التي قضاها في مدينة أولوموتس التشيكية تجلت موهبته الموسيقية في أوضح
صورها عندما تمكن وهو في سن الحادية عشر من تأليف إحدى أشهر مقطوعاته الفنية
(السيمفونية السادسة).
وبالانتقال من الابداع الصوتي إلى الابداع البصري
نجد أن مدينتي فلورنسا والبندقية الايطاليتين تنافستا في زمنا ما على أي منهما
تحشد أكثر عدد من عمالقة الفن التشكيلي وفي مقابل افتخار فلورنسا بالأسماء البراقة
مثل مايكل أنجلو ورافائيل ودافنتشي لطالما عوضت مملكة البندقية حالة النقص الفني
لديها بتلميع موهوبها الشاب الرسام تيتيان. المشكلة تكمن أن الشاب تيتيان ظل
لسنوات طويلة وهو يتدرب في المدرسة الفنية للرسام جورجوني مؤسس مدرسة البندقية
الفنية والذي كان له تأثير كبير على تيتيان وغيره من المريدين وطلاب الفنون
التشكيلية. تشير بعض الدراسات التاريخية إلى أن اللحظة الفاصلة في تاريخ الشاب
تيتيان حصلت عند وفاة معلمة جورجوني نتيجة أصابته في الوباء الذي اجتاح مدينة
البندقية عام 1511م وأجبر الشاب تيتيان للفرار من الوباء إلى مدينة بادوفا في شمال
إيطاليا. ما حصل بعد ذلك أن هذا الشاب الموهوب وفي عزلة عن تأثير معلمه الأسبق
اظهر نوبغ فني كبير واستقل بنمط وأسلوب فريد في مجال الرسم التشكيلي ضمن له الخلود
الفني كأحد أشهر فناني عصر النهضة الإيطالي.
وقبل أن تختم لا يجدر بنا أن نغادر قبل أن
نعرج على دنيا الادب والشعر ونستعرض قصة شاب آخر ساهم الوباء والطاعون في زيادة
مواهبه وإبداعاته الأدبية إلا وهو أسطورة الأدب الغربي وليم شكسبير. للغالبية
العظمى منا فإننا نعرف فقط عن شكسبير عبقريتة في تأليف الأعمال المسرحية الخالدة
بينما للقارئ الغربي شهرة شكسبير (كشاعر) لا تقل لديهم عن شهرته (ككاتب مسرحي) لدرجة
أن شكسبير نال لقب شاعر الأمة الإنجليزية (The English Bard).
ومع ذلك تنبغي الإشارة إلى أن الشاب وليم شكسبير لم يكتب في بداية حياة إي قصائد
شعرية حتى عام 1592م عندما انتشر وباء الطاعون في مدينة لندن مما أثر كثيرا على الحياة
الاجتماعية للشعب الإنجليزي وكان من سوء حظ شكسبير أن أجبرت جميع المسارح على أن
تغلق أبوابها. في أوائل شبابه كان مصدر الدخل المادي لشكسبير يأتي من تأليف
الأعمال المسرحية والعمل كممثل مسرحي ولهذا عندما وجد شكسبير نفسه في ورطة مالية
وأدبية مؤكدة أتجه من تلك اللحظة إلى تأليف المقطوعات الشعرية القصيرة التي تسمى السوناتة
sonnet
وهي في الغالب قصيدة مكونة من أربعة عشر بيتا. وفي ذلك الزمان وفي كل زمان كان
للشعر رونقه ومكانته الأدبية الرفيعة ويحظى بتقدير فائق من جميع شرائح المجتمع وبالخصوص
طبقة النبلاء ولهذا لا عجب أن نجد أن شكسبير يهدي قصائده الأولى إلى أحد كبار
رجالات الأسر الأرستقراطية الإنجليزية الذي تعهده بالرعاية المالية المجزية. وبهذا
كان وباء الطاعون بالنسبة لشكسبير منحة في هيئة محنة ونقمة تجر نعمة حيث تسبب في
مزيد من التدفق الإبداعي وتعزيز إضافي لمكانته الأدبية وثرائه المالي.
وختاما الجميع يعلم أن الكارثة التي تعم
العالم هذه الأيام مصدرها من الصين ولهذا ربما في المرة القادمة التي نسمع فيها
الحكمة الصينية المشهورة عن التعليم والتي تقال على لسان الفيلسوف كونفوشيوس (قل
لي وسوف أنسى، أرني وقد أتذكر، أشركني وسوف أفهم) هل يصح أن نضيف لها عبارة
(أعزلني وسوف أبدع) !!!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق