أينشتاين يشرح درس للتاريخ
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في أواخر عمر عالم الفيزياء الأسطورة ألبرت أينشتاين ونتيجة لتردي حالته الصحية وهو
يدب نحو سن السبعين كان يرفض قبول الحصول على المزيد من التكريم المعنوي بمنحة الدكتوراه
الفخرية. تغير هذا الموقف عام ١٩٤٦م عندما عرضت عليه جامعة أمريكية
شبه مغمورة أن تمنحه الدكتوراه الفخرية وهنا تحمس أينشتاين لقبول هذا التكريم
وإلقاء محاضرة علمية واللقاء بطلاب الجامعة. السبب الوحيد الذي غير رأي وموقف
أينشتاين أن تلك الجامعة كانت توصف بأنها (جامعة السود) وهي جامعة لينكولن بولاية
بنسلفانيا والتي سميت بهذا السم بالذات (على اسم الرئيس الأمريكي إبرهام لينكلون
الملقب بمحرر العبيد) لأنها كانت أول جامعة تسمح المجال للسود بالدراسة بها. قبل
زيارة أينشتاين بعام واحد فقط لتلك الجامعة تم تعيين أول مدير أسود لها والذي
بمجرد تواصله مع أينشتاين ودعوته للحضور لتلك الجامعة وافق مباشرة وذلك نتيجة
للاهتمامات الفكرية والسياسية له بمناصرة حركة الحقوق المدنية للسود والمناهضة
للعنصرية والتمييز ضد السود.
أثناء لقاء أينشتاين مع الطلاب السود بجامعة
لينكولن سأله أحدهم أن يشرح لهم وبشكل مبسط نظريته النسبية الشهيرة وهنا قام
أينشتاين بشرح النظرية وكتابة معادلاتها على لوح السبورة الأسود وتم تخليد هذه
اللحظة بالتقاط صورة فوتوغرافية مميزة. ولا أعلم هل حرصت جامعة لينكولن (التي تقع
في مدينة أكسفورد الأمريكية) بنزع تلك السبورة وعدم مسحها كما فعلت قبل ذلك بحوالي
عشرين سنة جامعة أكسفورد البريطانية والتي حتى الآن ما زالت تحتفظ في متحف الجامعة
باللوح الخشبي الذي شرح عليه أينشتاين نظريته النسبية عندما زار تلك الجامعة
العريقة عام 1931 ميلادي.
بدون خلاف كان لأينشتاين موقف نبيل في
الاعتراف والمساندة لحقوق السود في عام 1946م ولكن هذه النزعة الإنسانية لأينشتاين
لم تمتد للحقوق العربية التي اعتدى عليها اليهود والصهاينة بعد ذلك بسنتين عند
الإعلان عن قيام الكيان الإسرائيلي الغاصب. وبالجملة لم يكن هذا الموقف مستغرب
كثير من أينشتاين اليهودي الديانة والذي حرص سابقا على زيارة فلسطين بل تم في مرحلة
ما أن عرض عليه الرئيس الإسرائيلي بن غوريون أن يخلفه في منصبه عام 1952 ميلادي.
بدرجة ما قد يكون اجترار تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أمرا مقحم هنا وبعيد عن
حقوق السود في الأراضي الأمريكية ولكن من غرائب الصدف لإثبات استحقاق السود
للمساواة مع البيض أن الدبلوماسي الأمريكي وأستاذ علم السياسة بجامعة هارفرد رالف
بنش كان هو من عمل كوسيط من قبل الأمم المتحدة في الصراع العربي الاسرائيل وهو
بالمناسبة أول شخص أسود في التاريخ يحصل على جائزة نوبل (حصل عليها عام 1950م في
مجال السلام). وعلى ذكر نضال حركة الحقوق المدنية للسود في أمريكا في سياق ذكر
جوائز نوبل للسلام تجدر الإشارة إلى أن أهم شخصية في تاريخ السود في أمريكا هو
الناشط السياسي ضد التميز العنصري مارتن لوثر كنغ الذي بتبنيه لحركة اللا عنف تم
منحه جائزة نوبل للسلام عام 1964 كثاني رجل أسود أمريكي يحصل على هذا التكريم
البارز.
الكثير من التغيرات السياسية والحقوقية
والاقتصادية والاجتماعية حصلت عبر السنين للسود في أرض العم سام لدرجة أن منصب
رئيس الولايات المتحدة شغله كما هو معلوم رجل أسود (وإن لم يكن من نسل العبيد) وكما
أشرنا أن أشهر عالم في التاريخ المعاصر كان يقوم بنفسه بشرح إحدى أهم وأصعب النظريات
العلمية لحشد من الطلاب السود. الجدير بالذكر إنه على أرض الأحلام الأمريكية قبل
حوالي مئة عام من محاضرة أينشتاين للطلاب السود كان ما تزال بعض الولايات تصدر
القوانين التي تمنع تعليم السود والعبيد القراءة والكتابة ومن ذلك مثلا إصدار
ولاية ميسوري عام 1847م لقانون تجريم تعليم السود. وفق تلك القوانين الجائرة
الصادرة على أرض الحرية المزعومة يمكن للرجل الأبيض الذي يخاطر بتعليم السود
القراءة والكتابة أن يتعرض لغرامة مالية وربما يتعرض للسجن لمدة ستة أشهر في حين
أن العبد الأسود نفسه سوف تكون عقوبته الجلد وتعذيب الذي قد يفضي إلى الموت. الرجل
الأمريكي الأبيض المستبد لم يقتصر في محاولته للسيطرة على العبيد السود بربطهم
بقيود السلاسل ولكن أيضا بتكبيلهم بأصفاد الجهل والأمية. ولهذا عندما سنت تلك
القوانين الظالمة بتجريم تعليم العبيد القراءة والكتابة كانت يتم تبريرها بحجة أن
بعض العبيد المتعلمين يمكنهم أن يقوموا بكتابة صكوك مزورة عتق من الرق. وكما إن
العلم نور فإن الحرية هي المشعل الذي يضيء طريق الإنسانية وبهذا العلم والحرية
قرينان لا ينفصلان ولهذا أدرك المناضل الأمريكي الأسود فريدريك دوغلاس في أوائل
شبابه أن المبرد الذي يمكن أن يقطع أصفاد العبودية هو سن القلم وأن سر قوة الرجل
الأبيض في السيطرة على العبيد أن يكبلهم بالجهل والأمية. صحيح أن فريدريك بدأ تعلم
القراءة وهو طفل على يد زوجة سيده إلا أنه أكمل لاحقا تعليمه بشكل سري ومن مراقبة
الأطفال البيض وهم يتعلمون تهجئة الكلمات وبشكل متدرج أصبح ذلك الشاب قارئا شغوف.
ثم لاحقا تنامى فكر ذلك العبد المتحرر ليصبح كاتب ومفكر وناشط سياسي مشهور وأحد
أبرز رواد الدفاع عن حقوق السود في أمريكا كما شارك هو وولده في الحرب الأهلية
الأمريكية تحت قيادة الرئيس الأمريكي لينكولن بل إن استقلاليته الفكرية وصلت به
أنه كان يحث أتباعه على عدم إعادة انتخاب الرئيس لينكولن والتصويت لخصمه لأن محرر
العبيد لم يف تماما بجميع وعوده ولم يمنح السود حق التصويت.
عبر السنوات وبشكل متدرج أخذ السود في
الولايات المتحدة في انتزاع حقوقهم المدنية وترسيخ تواجدهم السياسي والإعلامي
وتفوقهم الفكري والأدبي (المرأة الأمريكية الوحيدة التي حصلت على جائزة نوبل في
الأدب عن الأعمال الروائية التي تصف المجتمع الأمريكي هي الكاتبة السوداء توني
موريسون). ومع ذلك ما زال أمام المجتمع العلمي للسود في أمريكا شوط بعيد من النضال
والعرق والدموع ليصبح العلماء والباحثين السود في أمريكا في مصاف زملائهم من البيض
والأعراق الجنسية الأخرى. في بداية المقال عرجنا على اللقطة الفوتوغرافية المميزة
لأينشتاين في عام 1946م وهو يشرح النظرية النسبية لفصل من الطلاب السود ولكن هذا
لا يعني أن السود ضعيفو التفكير ولا يستوعبون الأفكار العلمية المتقدمة فأول رجل
أمريكي أسود (بوشية إدوارد) حصل على درجة الدكتوراه في علم الفيزياء في فترة مبكرة
جدا وذلك عام 1876م ومن جامعة ييل العريقة. وعندما كان ألبرت أينشتاين يشارك مع
المئات من العلماء في مشروع مانهاتن لتصنيع أول قنبلة ذرية كان من زملائه عالم
الكيمياء الأسود كوارترمان ألبرت والذي ساهم في عزل وتخصيب عنصر اليورانيوم. ومع
ذلك للأسف الشديد حتى الآن لا يوجد عالم أمريكي أسود حصل على جائز علمية مرموقة أو
تولى منصب إدارة مركز أبحاث أو جمعية علمية كبرى (باستثناء هنري هيل الذي أصبح أول
رئيس أسود للجمعية الكيميائية الأمريكية). الطريف في الأمر أن أحد أكثر العلماء
شهرة في أمريكا هو عالم الفيزياء الفلكية الأسود نيل تايسون وبالرغم من شهرته
المدوية كمقدم للبرامج العلمية الوثائقية في قناة ديسكفري إلا أن أهم إنجاز علمي له
ليس اكتشاف ظاهرة فلكية جديدة أو تطوير نظرية علمية معقدة ولكن اشتهر بسبب حملته
العلمية والإعلامية لتغيير عدد كواكب المجموعة الشمسية من تسعة إلى ثمانية كنتيجة
لإسقاط مكانة كوكب بلوتو وجعله بمرتبة كوكب قزم.
إرهاصات الأحداث الحالية تشير إلى أن أوضاع
السود في أمريكا سوف تتحسن نوعا ما في المستقبل ومن المحتمل إصدار وسن حزمة من
التشريعات القانونية التي تصب في مصلحة المهمشين السود. ومع ذلك التهميش للباحثين
والعلماء من أصحاب البشرة السوداء ما زال ضاربا بأطنابه في المجتمع العلمي
الأمريكي ولهذا ربما تمر عقود طويلة قبل أن يحصل أي عالم أسود على جائزة نوبل في
التخصصات العلمية والعلم عند الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق