د/ أحمد بن حامد الغامدي
بعد كم هائل من الأخبار المتعلقة بالحملات الانتخابية الرئاسية الأمريكية والبرلمانية المصرية أتوقع أن الغالبية العظمى منا لا تريد المزيد من هذا الشقاء. ومع ذلك دنيا الانتخابات وصراعات الأحزاب قد يكون فيها أمر شيق بعيدا عن السياسية إذا رصدناها من المنظور الأدبي. قديما ألف الأديب الأندلسي ابن أرفع رأس الجياني كتاب خيميائي سماه (شذور الذهب في صنعة الكيمياء) وهو كتاب ثبت أنه غير مفيد علمياً ولكنه شيق من الناحية الأدبية. ولهذا تهكم وسخر البعض منه ومن كتابه فقال (إن فاتك ذهبه لم يفتك أدبه) وهذا الوصف الساخر ربما ينطبق على الانتخابات والمجالس البرلمانية في دول العالم الثالث فهي وإن لم تفيد بشي في تحسين حياة الناس إلا موضوعها بيئة خصبة لإنتاج أعمال أدبية راقية وشيقة. ولهذا سوف نذهب في جولة أدبية مع مشاهير الشعراء وكبار الأدباء في العالم العربي وفي أمريكا اللاتينية وفي القارة الأفريقية السمراء لنسبر أغوار العلاقة بين دهاليز السياسة وأورقه الأدب.
ربما كان أول حزب سياسي في العالم العربي هو الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل عام 1907م في حين أن أول برلماني نيابي في العالم العربي كان هو مجلس شورى النواب المصري الذي افتتح عام 1866ميلادي. والمقصود أن الحراك النيابي والنشاط الانتخابي قديم وعريق في محيطنا الإقليمي ومع ذلك هو مجهول تماما كما هو مجهول تماما أن مشاهير الأدباء شاركوا بشكل أو آخر في الحياة البرلمانية. من الصفحات المجهولة في حياة أمير الشعراء أحمد شوقي أنه قد شارك في عضوية البرلمان المصري والأغرب من ذلك أنه كان أول نائب عن محافظة سيناء في البرلمان بالرغم من أنه ليس من أهل سيناء كما هو معلوم. في مقال سبق نشر قبل عدة سنوات وحمل عنوان (الشعراء والثقافة السياسة) ناقشت فيه بعض التميز البارز لأحمد شوقي في مجال الثقافة السياسية والتاريخية المذهلة وهنا نكمل الإشارة للجوانب النيابية والدستورية والانتخابية في شعر شوقي. وهو أمر متكرر بشكل واضح في ديوانه لدرجة وجود قصيدة اشتهرت بعنوان (البرلمان) والتي أنشدها في افتتاح أول برلمان منتخب في تاريخ مصر. صحيح أن حماسة وتسويق أحمد شوقي للبرلمان والحياة النيابية في مصر سرعان ما سوف تصاب بخيبة أمل إلا أن تكريم شوقي بمنحه عضوية البرلمان من خلال الملك فؤاد الأول كان على النقيض تماما من قصة عملاق الأدب العربي عباس العقاد مع نفس البرلمان ونفس الملك.
في عام 1930م وتحت قبة البرلمان تهور عباس العقاد ليس فقد بانتقاد ولكن أيضا بتهديد الملك فؤاد الأول نظيرا موقفه من محاولة تعطيل الدستور المصري. وهنا تم إجبار عباس العقاد على الاستقالة من البرلمان بعد توجيه تهمة (العيب في الذات الملكية) له كما حكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر قضاها في سجن القلعة السيئ الصيت. وبينما كان عباس العقاد يستند إلى شرعية البرلمان المصري ويدافع بشراسة عن الدستور المصري نجد في المقابل وفي نفس الفترة تقريبا الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي يهاجم الدستور العراقي الذي أصدره الانتداب البريطاني ويسخر في قصيدة مشهورة له من البرلمان (مجلس الأمة) العراقي المزيف:
أنا بالحكومة والسياسة أعرفُ أأَلام في تفنيدها وأعنّفُ
عَلَم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرفُ
من يأتِ مجلسنا يصدق أنه لمُراد غير الناخبين مؤلّفُ
وبمثل هذه الأبيات الشعرية عن الجوانب السلبية للحياة البرلمانية هذا يقودنا لاستعراض (النقد الأدبي) لمهزلة تزوير الانتخابات وخرافة مجلس البرلمان ونواب الشعب وهذا شائع ومتداول في قصائد شعراء الرفض السياسي. ومن ذلك مثلا السخرية المشهورة للشاعر العراقي أحمد مطر من حصول بعض رؤساء الدول العربية على نسبة (99.99%) في الانتخابات الرئاسية ولذا كانت قصيدته تبدأ كالتالي: ( حضر سلة .. ضع فيها (أربع تسعات) ضع صحفا منحلة .. ضع قفلا .. وتذكر قفلة .. وأخلط هذا كله .. ثم اسحب كرسيا واقعد فقد صار عندك دولة ).
في عام 1965م حصل استفتاء رئاسي في جمهورية مصر العربية نال فيه جمال عبد الناصر على نسبة 99.9% من الأصوات المزعومة للناخبين ويقال إن الشاعر المصري الكبير أمل دنقل كتب عند ذلك بأسلوب احتجاجي قصيدته (كلمات سبارتاكوس الأخيرة). عندما كان أمل دنقل يقضي الصيف في مدينة الإسكندرية شاهد الفلم السينمائي الشهير عن ذلك الثائر الروماني المعروف سبارتاكوس ومع تمازج أجواء الحماس بقصة سبارتكوس البطولية وتحديه للسلطة مع حالة الإحباط من فساد الحياة السياسية نتجت تلك القصيدة المميزة. بالمناسبة حالة الإحباط من فساد الأجواء وتفشي الألاعيب البرلمانية والنيابية أفرز ذلك قصائد حادة جدا نشرها الشاعر العراقي المثير للجدل مظفر النواب وبسبب كلماتها الخادشة من المستحيل استعراضها هنا.
ومن أدب المعارضة الشعرية نختم بلمحة سريعة لما ذكرناه سابقا أن أجواء الانتخابات في العالم الثالث المتخلف لم تفد المجتمع إلا بتوظيفها في الدراما الروائية. خذ على ذلك مثلا رواية (يوميات نائب في الأرياف) والتي تعد إحدى أهم وأشهر ما أنتجه الأديب الكبير توفيق الحكيم والتي تكشف عن الفساد الحكومي والقضائي والأخلاقي في مجتمع الريف المصري. عندما يسأل وكيل النيابة الشاب مدير مركز الشرطة عن ترتيبات الإشراف على الانتخابات: ( والانتخابات يا حضرة المأمور ..؟ عال. ماشية بالأصول
فنظر إلي مليّا، وقال لي في مزاح كمزاحي:
حا نضحك على بعض؟! فيه في الدنيا انتخابات بالأصول!!.) ثم نصل إلى المقطع من تلك الرواية الذي كثيرا ما يستشهد به في السخرية من أي انتخابات مصرية عندما يعترف المأمور :(دي دايما طريقتي في الانتخابات: الحرية المطلقة أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة وأروح وأضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا).
جانب آخر من فساد الحملات الانتخابية هو ما تعرضه رواية (زقاق المدق) التي أبدع فيها نجيب محفوظ في تعريه الفساد الأخلاقي والعري السياسي في المجتمع المصري عندما عرض تفاصيل محاولة رشوة الناخبين من خلال (الحفلة الانتخابية) كما تسميها الرواية حيث يقوم تاجر الحشيش والشاذ جنسيا المعلم كرشة بالعمل كسمسار لتجهيز الحملات الانتخابية. وبعد هذه النظرة المشوهة للعملية البرلمانية والأجواء الانتخابية لا غربة أن نجد ان نجيب محفوظ يجعل من يفوز في الانتخابات بمقعد النائب في البرلمان هو الشخصية اللئيمة فرج إبراهيم الذي يمتهن القوادة ويدفع الشابة المغرر بها لطريق الدعارة في أحضان أعداء الوطن من جنود الإنجليز.
الانتخابات من منظور الأدب العالمي
في المدينة الفاضلة لأفلاطون لا يسمح بوجود الشعراء في هذه (الجمهورية) الخيالية بينما في الجمهوريات العربية تم طرد الشعراء والأدباء من عالم السياسة فأعلى منصب سياسي حققه أديب عربي ربما هو فقط رئيس مجلس البرلمان الذي شغله الشاعر والكاتب المصري محمد حسين هيكل الذي ألف أول رواية عربية (رواية زينب). صحيح أن الكاتب المسرحي التشيكي فاتسلاف هافيل تولى مهام منصب رئيس جمهورية التشيك لمدة زادت عن عشر سنوات وكذلك كان الشاعر الإفريقي ليوبولد سنغور أول رئيس لجمهورية السنغال إلا أنه هذه النوادر في دنيا السياسة كانت هي الشذوذ الذي يثبت القاعدة. لا شك أن فرصة وصول أي أديب لسدة الحكم في أي من دول العالم الثالث ضعيفة وخير دليل على ذلك الأديب العالمي المشهور ماريو يوسا الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 2010ميلادي. فبالرغم من أن يوسا كانت متزلف للسلطة في جمهورية البيرو وغيرها من الدول (مثل تصريحه الأحمق عبر التلفزيون المكسيكي: إن المكسيك هي الدكتاتورية المثلى !!) إلا أنه عندما طمح فيما هو أعلى من ذلك وترشح لمنصب رئاسة الوزراء لدولة البيرو عام 1990م تم تحجيم تقدمه السياسي.
وهذا الشاعر التشيلي البارز بابلو نيرودا أحد أهم شعراء أمريكا الجنوبية في جميع العصور كان له نشاط سياسي حافل حيث أنه كان يدير الحملة الانتخابية للرئيس التشيلي بيديلا وأصبح عضوا بمجلس الشيوخ كما إنه فعل مثل ماريو يوسا فتهور ورشح نفسه لمنصب الرئيس. وبسبب هذه النشاط السياسي تعرض نيرودا للمضايقة والتهديد بالقتل لدرجة أنه فر عبر الجبال إلى الأرجنتين ومباشرة بعد الانقلاب الدموي في تشيلي الذي قاده المجرم الجنرال بيونشيه تم التخلص منه حيث توجد شبهات كبيرة أن نيرودا تعرض للتسميم في المستشفى الذي كان يتعالج فيه من مرض السرطان. وكأن التاريخ يعيد نفسه فهذا بالضبط ما حصل مع الشاعر الأسباني الكبير فيديريكو لوركا والذي أعدمه الجنرال فرانكو بعد فترة قصيرة من الانقلاب العسكري الذي قام به عام 1936ميلادي. في الواقع بسبب تعرض نيرودا للمضايقة السياسية والسجن والتشريد أصبح رمز الأدب والمقاومة السياسية ولهذا أصبحت السنة التي حصل فيها نيرودا على جائزة نوبل سنة مميزة في أدب المعارضة السياسية ففي واقعنا العربي قام في تلك السنة الشاعر المصري المعارض أحمد فؤاد نجم بكتابه قصيدته التي حملت عنوان (نيرودا).
أما الشاعر الأرجنتيني المعروفي خورخي بورخيس الذي يعد من أهم كتاب القرن العشرين فقد كتب في تلك السنة قصة (البرلمان) التي كان يصفها بأنها قصته المفضلة. وعلى ذكر بورخيس فربما كان هو من علّم الأدباء والشعراء الاحتجاج على انتخاب الطغاة فعندما تم انتخاب الدكتاتور الأرجنتيني خوان بيرون عام 1973م استقال بورخيس من منصبه كمدير للمكتبة الوطنية. أما أشهر الأدباء في الاحتجاج على نتائج الانتخابات فهو بلا منازع الروائي النيجيري وولي سوينكا الذي يعتبر أول أديب إفريقي يحصل على جائزة نوبل في الأدب (عام 1986م) والذي دعا عام 2007م وطالب بإلغاء الانتخابات الرئاسية النيجيرية لما شابها من التزوير والعنف. كما إن سوينكا تعمد مغادرة الولايات المتحدة عندما تم الإعلان عن فوز الرئيس الأمريكي ترامب وأيضا قام سوينكا في وقت حفل تنصيب الرئيس ترامب بتمزيق البطاقة الخضراء التي تسمح له بدخول أمريكا.
وفي الختام لعلنا نربط بحادثة طريفة لها رمزيتها وتربط بين عالمنا العربي وعالم أمريكيا اللاتينية التي اشتهرت بالفساد السياسي وكثرة الانقلابات العسكرية. يعتبر الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز آخر أشهر الأدباء على الإطلاق (والحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1882م) وفي الفترة التي كان يقيم فيها في مدينة باريس عام 1955م سقطت الحكومة الفرنسية بسبب الوضع المتوتر الذي صاحب ثورة التحرير الجزائرية. وكمحاولة للسيطرة على الأمور تم منع المظاهرات وحصل اعتقال الآلاف من الجزائريين والعرب في فرنسا. ويذكر جابرييل ماركيز أنه تم اعتقاله بالخطأ مع مجموعة من الجزائريين حيث ظنوا أنه عربي بسبب تقارب سحنة وملامح العرب مع الرجال ذوي الأصول الأسبانية. إن الرواية الأشهر لجابرييل ماركيز هي بلا شك رواية (مائة عام من العزلة) والتي هي مشحونة بالخيال والفانتازيا عن تلك المدينة الأسطورية (ماكوندو) وما يحدث فيها من العجائب. في جزء من تلك الرواية مناقشة لموضوع تزوير الانتخابات وبالرغم ما في الرواية من الخيال المجنح إلا إن ما حصل في الانتخابات الرئاسية الجزائرية عام 2014م فاق كل جنون عندما تم إعادة انتخاب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة للمرة الرابعة وهو يقاد على كرسي متحرك ولا يستطيع النطق على الإطلاق. بقي أن نقول إن موعد تلك الانتخابات الجزائرية المهزلة وتوقيت وفاة الروائي الحالم جابرييل ماركيز تم في نفس اليوم أي في السابع عشر من شهر أبريل لعام 2014 ميلادي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق