السبت، 14 نوفمبر 2020

( فرنسا .. شرٌ متواصل )


 من قبل الحروب الصليبية وإلى ما بعد الاستعمار الغربي .. شرور فرنسا متواصلة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 الصراع بين الحضارات والمدافعة بين الديانات من السنن الربانية التي شاءتها إرادة الله الحكيم العليم. وقد ورد في الحديث الشريف (فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها أبداً، والروم ذات القرون كلما هلك قرن خلف مكانه قرن) فالصراع والصدام بيننا وبين أهل النصرانية مستمر لآخر الزمان كما في تكملة ذلك الحديث الشريف (هيهات إلى آخر الدهر). ولكن تبقى قضية التصور الجمعي لدينا أن أعدائنا من (الروم) الذين سوف نقاتلهم عبر التاريخ هم النصارى المقيمين في حاضرة الفاتيكان من أرض إيطاليا.

بينما الاستعراض التاريخي للصراع الحربي بين الإسلام والمسيحية نجد فيه أن أغلب أعدائنا من النصارى ليسوا من مدينة روما وإنما من نصارى القسطنطينية (الإمبراطورية البيزنطية) أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة (الإمبراطورية الكارولنجية) والتي نعرفها في تاريخنا العربي القديم بإمبراطورية الفرنجة. صحيح إن الأصول العرقية للفرنجة أو الفرنسيس هي لقبائل جرمانية هاجرت من ألمانيا واستقرت في فرنسا (مثل القبائل الجرمانية التي استقرت في بريطانيا وعرفت لاحقا بالانجلوساكسون) لكن بمجرد سيطرتهم على الحكم في تلك البقاع تحول اسم تلك الديار من أرض الغال إلى المملكة الفرنجية خصوصا بعد انتشار المسيحية فيها. فالعداء التاريخي المسيحي القديم لنا كان أغلبه من أرض الفرنسيس (فرنسا) وليس من الديار الإيطالية كما إن بابوات الدين النصراني لم يكونوا دائما يقيمون في الفاتيكان فلفترة طويلة من الزمن أقام العديد منهم في مدينة أفينيون في جنوب فرنسا والتي استحقت لقب مدينة (قصر البابوات).

لأكثر من 1300 سنة استمر الصراع بيننا وبين أهل فرنسا حيث أن منها أنطلق أول غزو عسكري كبير على الديار العربية وعلى الأراضي الفرنسية نفسها وقعت أول هزيمة عسكرية كبرى للجيوش الإسلامية ومن فرنسا انطلقت الحروب والحملات الصليبية والأمة الفرنسية هي من دشن عصر الاستعمار الغربي. من هذا وذاك ومن تلك وتياك نستشف أنه حتى الآن كانت فرنسا هي أكثر بقعة أوروبية ناصبتنا العداء وكبدتنا الشقاء بشرورها المتواصلة عبر الدهور وتتابع العصور.

ولنبدأ القصة منذ فترة مبكرة نسبيا من ظهور الإسلام وبالتحديد عام 114 هـ عندما حصلت أول هزيمة عسكرية كبرى للأمة المسلمة وذلك في معركة بلاط الشهداء والتي وقعت بالقرب من مدينة بواتييه في غرب فرنسا. لقد كان وقع الهزيمة كبيرا على المسلمين لدرجة أنه استشهد عدد كبير من المجاهدين كان على رأسهم قائد الجيش عبد الرحمن الغافقي رحمة الله ومن تلك اللحظة تحول لقب الإمبراطور الفرنسي شارل مارتيل إلى شارل المطرقة لكثرة ما قتل من المسلمين. هذه الهزيمة الكبرى غيرت مجرى التاريخ وأوقفت زخم الفتوحات الإسلامية في القارة الأوروبية ليس هذا فحسب ولكن كانت أيضا لحظة بداية الضعف العسكري الخطير للعالم الإسلام والذي سوف يبدأ يدخل في دوامة الدفاع بدل الهجوم. قد يعتقد البعض أن أول هجوم عسكري كبير تعرض له العالم الإسلامي كان مع بداية الحملات الصليبية في نهاية القرن الخامس الهجري أو مع الغزو المغولي في بداية السابع الهجري ولكن في الواقع أول غزو وهجوم حربي خطير على بلاد الإسلام حصل في زمن مبكر ومرة أخرى كان منطلقة من أرض فرنسا. وهذا ما حدث في عام 160 هـ عندما قام إمبراطور الفرنجة الشهير شارلمان بتوجيه بجيش جرار ضخم عبر به جبال البرانس جنوب فرنسا إلى أرض الأندلس في محاولة منه لاحتلال بعض أهم المدن الإسلامية في تلك البقاع مثل قرطبة وسرقسطة وبرشلونة. وبالرغم من الخيانة لبعض حكام الأقاليم العربية في الأندلس وتعاونهم مع شارلمان ضد صقر قريش عبد الرحمن الداخل (وللأسف تحالف هارون الرشيد مع شارلمان ضد تقارب عبد الرحمن الداخل مع الإمبراطور البيزنطي ثيوفيلوس) إلا أن الهجوم انتهى بهزيمة شنعاء ضد الفرنسيس اشتهرت في التاريخ العربي بمعركة باب الشزري وفي التاريخ الأوروبي بمعركة ممر رونسفال.

 

من الحملات الصليبية إلى الاستعمار الغربي

ذكرنا أن حملة الإمبراطور الفرنسي شارلمان على بلاد الأندلس هي أول حملة عسكرية كبرى يتعرض لها العالم الإسلامي وبالرغم من فشل هذه الحملة إلا إن فرنسا كانت نقطة الانطلاق لأخطر وأهم الحملات العسكرية التي تعرضنا لها ألا وهي الحروب الصليبية والاستعمار الأوروبي. بعدما بدأنا نستوعب دور فرنسا وأنها هي أم الشرور الكبرى ضدنا ليس بمستغرب الآن أن نعلم أن لحظة الإعلان وحملة التجييش والتشويه ضد الإسلام عند انطلاق الحملات الصليبية كانت من فرنسا وليس من روما أو الفاتيكان. هذا ما حصل عام 448 هـ (الموافق 1095م) عندما أعلن البابا المسيحي أوربان الثاني من مدينة كليرمون في وسط فرنسا عن انطلاق الحملة الصليبية وكما هو معلوم أن الشخصية الدينية الأكثر أهمية في تأجيج جموع المسيحيين لهذه الحرب الصليبية هو بطرس الناسك وهو راهب فرنسي متعصب. وكل من يطالع تاريخ الحروب الصليبية ستتكرر عليه أسماء ملوك مملكة بيت المقدس المسيحية وأسماء فرسان الجيوش الصليبية من مثل جودفري وبلودين وبودوان وكل هؤلاء حكام مدن وأقاليم فرنسية اشتركوا في الحملة الصليبية الأولى. وكما هو معلوم منذ الحملة الصليبية الثانية بدأ ملوك الدول والإمبراطوريات الأوروبية في قيادة الجيوش المشاركة في الحروب الصليبية وقد كان لملوك فرنسا حصة الأسد في هذا الإثم والعدوان. ويكفي أن نعلم أن الحملة الصليبية الثانية قادها الملك الفرنسي لويس السابع في حين قاد الحملة الثالثة الملك الفرنسي فيليب الثاني أما الحملتين الصليبيتين السابعة والثامنة فقد قادهما الملك الفرنسي لويس التاسع. وبهذا الدور الكبير لفرنسا بملوكها ورهبانها وجيوشها الضخمة في دعم الحروب الصليبية لا عجب أن العرب أطلقوا اسم (الفرنجة) على هؤلاء الأعداء والاسم مأخوذ كما هو واضح من كلمة الفرنكيين Franks والتي هي مشتقة من اسم فرنسا.

 تعتبر محطة الحروب الصليبية ومرحلة الاستعمار الأوروبي من المحطات والمفاصل التاريخية بالغة الأهمية والأثر في التاريخ الإسلامي القديم والحديث ومن عجائب الصدف أن دول ساحل المغرب العربي شهدت نهاية الحروب الصليبية وكذلك بداية الاستعمار الغربي للأراضي العربية. ففي عام 668 هـ (1270 ميلادي) شن ملك فرنسا لويس التاسع الحملة الصليبية الثامنة التي كانت تهدف لمحاولة احتلال تونس والتي فشلت فشلا ذريعا وبهذا انتهت الحروب الصليبية على أرض تونس المجاهدة. ولكن سرعان ما سوف يشهد العالم الإسلامي نكبته الكبرى باكتمال سقوط الأندلس عالم 1492م لتبدأ بعد ذلك مباشرة بواكير وإرهاصات الاستعمار الأوروبي للثغور الإسلامية في بلاد المغرب العربي. فبعد أقل من عقدين من الزمان من سقوط الأندلس احتلت الأساطيل العسكرية الإسبانية المدن المغاربية العريقة مثل وهران وبجاية وعنابة وطرابلس الغرب. صحيح إن الإحتلال الأسباني للسواحل العربية الإفريقية استمر لفترة من الزمن بالرغم من حركة المقاومة والجهاد التي قام بها القائد الشهير خير الدين بربروسا وأخيه المجاهد عرّوج إلا إن هذا الاحتلال لم يتوغل كثيرا في الداخل العربي لتلك البلدان كما أنه بمجرد زواله لم يبق له على الإطلاق أي أثر حضاري أو سياسي. ولكن الأمر اختلف كثيرا مع الاحتلال الفرنسي الغاشم للجزائر عام 1830م وقبله احتلال فرنسا بقيادة نابليون للديار المصرية عام 1798م وهو احتلال وإن كان أحدث في التاريخ من الاحتلال الإسباني إلا أنه أشنع في شدة الأثر والتغيير للمجتمع العربي والمسلم.

بالمناسبة عندما فشلت أخيرا الحملات الصليبية باعتقال الملك الفرنسي لويس التاسع وحبسه بدار لقمان في مدينة المنصورة يقال إن أسلوب وخطة (الغزو الفكري) خطرت ببال الملك الفرنسي من تلك اللحظة وذلك وفق ما نقله المؤرخ جان دي جوانفيل الذي كان يرافق الملك لويس التاسع في حملته الصليبية تلك. بالرغم من أن الاحتلال البريطاني والاحتلال الفرنسي هما أكثر انواع الاستعمار الغربي انتشارا في البلاد العربية إلا إن تأثير الاحتلال الفرنسي من الناحية (الفكرية) أخطر وأدوم. ولتدليل هذه الفرضية قارن الاحتلال الفرنسي للجزائر والذي استمر لمدة 130 بالاحتلال البريطاني لليمن الجنوبي وعدن والذي استمر كذلك لمدة 128 سنة علما بأنهما حدثا في فترة متزامنة تقريبا (الاحتلال الفرنسي بدأ عام 1830م بينما البريطاني عام 1839م). بعد جلاء الاحتلال الإنجليزي من اليمن أو مصر أو العراق لا تكاد تشعر بديمومته الفكرية بينما حتى الان للفكر الفرنسي الفرانكوفوني تأثير خطير في بعض البلاد العربية مثل الجزائر وتونس ولبنان. والمهزلة الكبرى أن بعض المفكرين والمثقفين في أرض الكنانة مصر العربية احتفلوا عام 1998م بمرور قرنين من الزمن على احتلال نابليون لمصر. والمقصود أن (الغزو الفكري) الفرنسي كان على درجة عالية من الخبث والشر لدرجة أن آثاره وأتباعه لهم السطوة حتى الان في بعض الدول العربية. ونختم موضوع خطورة الاحتلال الفرنسي للدول العربية والإسلامية بالتذكير بالعدد الضخم جدا من بقاع الإسلام التي اجتاحتها الجيوش الفرنساوية الغازية مثل سوريا ولبنان ومصر وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وشمال العراق وجزء من الاناضول بتركيا والسنغال ومالي والنيجر وتشاد وغينيا وبينين وجزر القمر.

والملاحظ أن سطوة وسيطرة فرنسا على الدول العربية والإسلامية التي كانت تحتلها ما زالت مستمرة ومتجددة سواء من خلال تأثير منظمة الدول الناطقة بالفرنسية أو حتى بإعادة التدخل العسكري المباشر. حيث تشير الدراسات إلى إن فرنسا ومنذ عام 1960م تدخلت عسكريا أكثر من خمسين مرة في الدول الإفريقية يهمنا منها الإشارة للاعتداء على الدول الإسلامية كما يحصل الآن في مالي وقبل ذلك في تشاد وليبيا والصومال وجزر القمر.

وعقلية المستعمر هي التي تفسر لنا وقاحة رجال الحكم في فرنسا في تعاملهم مع بعض القضايا الداخلية في الدول العربية كمثل تهديد الرئيس الفرنسي ميتران بالتدخل العسكري في الجزائر لو فاز حزب جبهة الإنقاذ الإسلامي وكما يتدخل الرئيس ماكرون الآن في تشكيل الحكومة اللبنانية. وعلى ذكر علاقة لبنان بفرنسا يجدر التنبيه للعنجهية الاستعمارية الصفيقة التي انتهجتها فرنسا عام 1861م وذلك بالتدخل في قلب العالم العربي عندما أرسلت فرنسا حملة عسكرية إلى لبنان بحجة عجيبة أنها تريد إعادة تسكين الموارنة (الذي اعتبرتهم رعايا فرنسيين بالرغم من كونهم عرب ومواطنين يتبعون للدولة العثمانية) إلى قراهم التي تم تهجيرهم منها على يد الدروز. وبهذه الحجة تم انتزاع لبنان من أراضي سوريا الكبرى ومن هنا بدأ مسلسل تقسيم الدول والأقاليم العربية قبل قرن ونصف من الآن.

وقبل أن نغادر نذكر في الختام وبشكل سريع (فقد طال المقام والمقال) ببعض شرور وجرائم فرنسا الحديثة من مثل المشاركة في حرب العدوان الثلاثي على مصر والقيام ببناء مفاعل ديمونة النووي الإسرائيلي حتى من وراء ظهر أمريكا الراعية الحصرية للصهاينة. وإذا كان لفرنسا دور حاسم في دعم عدونا الصهيوني فلا يمكن أن ننسى أن الخطر الإيراني الشيعي على منطقتنا كان لفرنسا دور في هذا الشر عندما احتضنت آية الله الخيميني ومكنت له من قيادة الثورة الإيرانية وهو يقيم في ضواحي باريس ثم بعد ذلك وصل إلى الأراضي الإيرانية بطائرة فرنسية نزل من سلم الطائرة وهو يستند ويتعكّز على ذراع الطيار الفرنسي بدل أن يستند على أكتاف مناصريه وهي حركة عفوية ولا شك ولكن تشف عن أشياء وخفايا كثيرة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق