د/ أحمد بن حامد الغامدي
الإمام الكبير سفيان الثوري أحد أبرز أعلام الزهد في الإسلام والذي قال عنه الإمام الذهبي (كان سفيان رأساً في الزهد) وما يهمنا هنا أنه له مقولات وحكم كثيرة في مجال الزهد وأنواعه وحقيقته ومن ذلك قوله الحكيم (ما رأيت زهداً في شيء أقل منه في الرئاسة). صحيح أن إمام الزاهدين الثوري قصد بالرئاسة كل رغبة في البروز والرفعة والسيطرة إلا أن هذا الأمر أوضح ما يكون في الحكم والسلطان. ولا شك أن حب السلطة وشهوة الرئاسة مغروسة في عمق مشاعر ورغبات البشر وهذا ما قد يفسر المهزلة الحاصلة هذه الأيام في الولايات المتحدة من تشبث الرئيس الأمريكي (السابق) دونالد ترامب بكرسي الرئاسة وعرش السلطة.
الغريب والطريف في ذات الأمر أن مشكلة أو
فضيحة التشبث بالسلطة لأخر لحظة حصلت في البيت الأبيض الأمريكي قبل مائة سنة
بالتمام ومع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذي عانى في آخر سنة له في الحكم من
إصابته بجلطة في الدماغ تسببت له بالشلل في النصف الأيسر من جسمه. وبحكم أن هذه علة
صحية خطيرة تؤثر كثيرا على قدرة الرئيس في أداء مهامهم في إدارة شؤون البلد كان من
المفترض أن يتم التنازل من قبل الرئيس لنائب الرئيس ولكن بدلا من ذلك ولمدة طويلة
من الزمن جرت مؤامرة عجيبة في داخل غرفة نوم الرئيس بينه وبين زوجته وبين طبيبة
الخاص. أتفق هؤلاء المتآمرون الثلاثة على أن يخفوا تماما عن الشعب الأمريكي مرض
الرئيس الخطير وذكروا للجميع أن الرئيس فقط مصاب بانهيار عصبي وأنه لا يستحمل
مقابلة الآخرين.
وبعد استمرار حالة الضبابية عن حقيقة الحالة
الصحية للرئيس ويلسون استغل الجميع فرصة وصول ملك وملكة بلجيكا إلى العاصمة واشنطن
للسلام واللقاء بالرئيس وأن هذا سوف يكشف الحقيقة أخيرا. وهنا استطاع الطبيب الخاص
الدكتور كاري غريسون وزوجة الرئيس أن يخدعوا العائلة الملكية البلجيكية بأن جعلوهم
يجلسون في الجهة المقابلة للشق الأيمن السليم من جسم الرئيس وكذلك أسدلوا الستائر
الثقيلة على نوافذ غرفة النوم. ولهذا انطلت الحيلة عليهم فعندما سألهم الصحفيون المتلهفين
عن صحة الرئيس ذكر ملك بلجيكا أنها لا بأس بها. وكما هو متوقع الجلطة الدماغية
والشلل هي إعاقة صحية نادرة الشفاء بل أن مشاكل الرئيس ويلسون تفاقمت مع الزمن وأصيب
كذلك بالرعاش وعندما تزايدت الإشاعات وتنامت الشكوك لدرجة أن البرلمان الأمريكي
أرسل اثنين من نواب الكونجرس لمقابلة الرئيس والتأكد من سلامته العقلية. وهنا كررت
زوجة الرئيس وطبيبه الخاص نفس حيلة غرفة النوم خافتة الإضاءة ووقفا بجانب سرير
الرئيس لكي يشجعانه على الرد على أسئلة البرلمان بعد أن ظلا ليوم كامل وهما يدربان
ويجهزان الرئيس لهذه المقابلة الحاسمة. والغريب أنه تم مرة ثانية خداع نواب البرلمان
وعندما سألهما رجال الصحافة عن صحة الرئيس أجاب نواب البرلمان أن صحة والقدرة
الذهنية للرئيس جيدة !!.
قمة المهزلة في قصة تشبث الرئيس الأمريكي
المشلول (بسرير) السلطة لم تنتهي هنا فتقريبا لمدة سنة ونصف من الفترة الأخيرة لحكم
الرئيس ويلسون كانت زوجته الثانية السيدة إديث هي من تدير فعليا شؤون الإمبراطورية
الأمريكية وهي الشخص الوحيد المسموح له بالتواصل بين الرئيس وأعضاء حكومته
ووزرائه. وعندما حاول وزير الخارجية الأميركية في ذلك الوقت أن يسيطر على الأوضاع
تدخلت (حرم الرئيس) وعزلته عن منصبه. بحكم أن عمر الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن
متقدم جدا توجد احتمالات بأن تصبح نائبة الرئيس السيدة كاملا هارس أول امرأة تتولى
منصب رئيس الولايات المتحدة هذا من الناحية الرسمية أما من الناحية الفعلية
والتاريخية فإن السيدة إديث ويلسون هي بالفعل أول امرأة تقوم بذلك الدور. أما قمة
المسخرة في هذه القصة أن الرئيس الأمريكي ويلسون بالرغم من رجاحة عقله في مجال
السياسية وهو الأكاديمي المرموق ورئيس جامعة برينستون والحاصل على جائزة نوبل في السلام
لعام 1919م ودوره التاريخي في إنشاء عصبة الأمم ومبادئه الأربعة عشر المشهورة لاستقلال
الشعوب. إلا أننا نجده بمنتهى السفه والعبث يتقدم لترشيح نفسه لفترة رئاسية ثالثة
في نهاية عام 1920م بمعنى أنه كان يرغب أن يستمر في حكم الأمة الأمريكية لأربع
سنوات وهو مستلقي مشلول الجسد على سرير الحكم ومشلول الذهن بحب التشبث بالسلطة.
وبينما الرئيس ويلسون يقضي بقية حياته مصاب
بالشلل نجد في أمر ذي صلة نجد أن الرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت يصاب بعد خروج
ويلسون أخيرا من البيت الأبيض (وذلك في عام 1921م) بمرض شلل الأطفال Polio
وهو مرض فيروسي معدي يصيب الكبار والصغار على حدا سواء. وبعد أن تسبب مرض الشلل هذا
في إقعاد روزفلت عن ممارسة النشاط السياسي لمدة ثلاث سنوات رجع بعد ذلك يزاول حياته
الاعتيادية لدرجة أن تم انتخابه كرئيس للولايات المتحدة لأول مرة عام 1932م ثم
للفترة الثانية عام 1936 ميلادي. وفي عام 1940م وبالرغم من إن الولايات المتحدة
على وشك الدخول في أصعب مرحلة على الإطلاق في تاريخها الحديث وذلك بالانخراط
بالحرب العالمية الثانية وبحكم أن الوضع الصحي للرئيس فرانكلين روزفلت غير ملائم
للضغوط النفسية والارهاق البدني إلا أنه فاجأ الجميع عندما ترشح للمرة الثالثة
وكسب الانتخابات. وبالرغم من قوة شخصية فرنكلين أثناء التصدي للنازية الألمانية
ورد الهجوم الياباني المدمر إلا إنه من الناحية الجسمانية كان غير ملائم على
الإطلاق.
في الواقع في ذلك الزمن احتاج فرنكلين للسفر
بشكل متكرر وعقد لقاءات ومؤتمرات قمة متعددة مع رؤوسا دول الحلفاء كما في قمة يالطا
وقمة طهران ومؤتمر الدار البيضاء ومؤتمر القاهرة وزيارات متعدد لمدينة لندن. في ذلك الزمن كان السفر يتم إما عبر السفن أو
بالطائرات المروحية وهي غير ملائمة على الإطلاق لشخص مصاب بالشلل لأنها كانت رحلات
سفر تستغرق ساعات طويلة وتحتاج للتوقف في محطات متعددة. فمثلا لمجرد سفر فرنكلين من
العاصمة واشنطن إلى مدينة الدار البيضاء في المغرب للقاء مع تشرشل وستالين احتاج
أن يتوقف في حوالي ثمان محطات تمر عبر دول أمريكا الجنوبية ثم دول غرب أفريقيا ولمدة
سفر قاربت الثلاثة أيام.
في الوقت الحالي وبنص التعديلات الحديثة على
الدستور الأمريكي لا يحق لأي رئيس أمريكي أن يشغل منصب الرئاسة لأكثر من فترتين رئاسيتين
ولكن هذا الأمر لم يكن يطبق قديما ولهذا كانت المفاجأة الكبرى والحادثة الأغرب في
التاريخ الأمريكي في (التشبث بالسلطة) عندما تقدم الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1944م
بالترشيح للفترة الرئاسية الرابعة بالرغم من أنه في تلك الفترة كان يعاني بالإضافة
لمرض الشلل العديد من المشاكل الصحية في القلب بسبب شراهته في التدخين. ومع كل تلك
المشاكل الصحية والإعاقة الجسدية التي تستحق الراحة والتقاعد المبكر من ضغوطات
الحياة خصوصا زمن الحروب إلا أن الرئيس روزفلت استطاع الانتصار في الانتخابات الأخيرة
والبقاء في البيت الأبيض لفترة رئاسية رابع ولكن صحته تدهورت بشكل ملموس بعد إعادة
انتخابه حيث توفي بنزيف في الدماغ بعد عام من بداية فترة رئاسته الأخيرة.
أثناء الفترات العصيبة يتشبث بقوة الرؤساء الأمريكان
بالسلطة وكأنهم هم الوحيدين القادرين على إدارة الأمة في وقت الأزمات فالرئيس
أبراهام لينكولن ترشح لفترة الثانية وفاز بها بعد الحرب الأهلية الأمريكية والرئيس
ويلسون رغب في الاستمرار في القيادة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى الأمر الذي
تكرر بشكل فج مع الرئيس روزفلت في نهاية الحرب العالمية الثانية. ولهذا لم يكن
مستغربا من الناحية المبدئية أن يتشبث الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بتجديد
الانتخاب له في عز الحرب الأمريكية الفيتنامية. لكن المشكلة أنه على العكس ممن سبقه
من الرؤساء حاول نيكسون التشبث بالسلطة بالطرق الملتوية والقذرة وذلك أنه استطاع
أن ينجح في عام 1972م في إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية وذلك من خلال التجسس
على خصومه السياسيين. الجميع يعلم ولا شك تفاصيل فضيحة ووتر غيت وكيف قام الرئيس نيكسون
بتوجيه خمسة من أفراد حملته الانتخابية لزرع أجهزة تنصت في المقر الرئيسي للحزب
الديمقراطي المنافس. وعن طريق عملية التجسس هذه حصل نيكسون وفريق عمله على معلومات
مهمة عن برنامج وخطط الحملة الانتخابية المنافسة الأمر الذي مكنه من الفوز بالانتخابات
لفترته الرئاسية الثانية. وبالرغم من تشبثه بالسلطة بأي وسيلة فحتى الآن يعتبر
الرئيس نيكسون هو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي انتزعت منه السلطة بإجباره على
الاعتزال وتسليم مقاليد الحكم إلى نائبه الرئيس التالي جيرالد فورد.
أمريكا والديمقراطية المنقوصة
بدون أدنى شك تعتبر ظاهرة (تداول السلطة)
أحد أهم وأبرز مظاهر الديمقراطية في أي بلد جمهوري والتنازل السلس عن السلطة
والحكم وتداوله بين الأحزاب المختلفة مؤشر حقيقي للحيوية السياسية لذلك البلد. ومن
هنا نجد أن الدول (العتيقة وليس شرطا العريقة) في مجال الحريات والديمقراطية مثل
بعض الدول الأوروبية يسهل جدا فيها استقالة الحكومات التنفيذية وتنازل رئيس الدولة
أو رئيس الوزراء عن منصبه السيادي. خذ على ذلك مثلا أنه خلال الأربع سنوات التي
قضاها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السلطة ومع ذلك يرفض الآن التنازل عن الحكم
نجد في بريطانيا وفي نفس تلك الفترة يتم بسلاسة تداول السلطة حيث تتابع على الحكم ثلاث
رؤساء وزراء إنجليز هم ديفيد كاميرون وتيريزا ماي وبوريس جونسون. في التاريخ
الأمريكي لا توجد حالة واحدة للتنازل عن السلطة بشكل طوعي فكل رؤساء أمريكا دون
استثناء يغادرون البيت الأبيض إما بالموت الطبيعي أو الاغتيال أو انتهاء الفترة
الرئاسية (مع استثناء نيكسون الذي أجبر على الاستقالة تفاديا لخلعه من السلطة ومن
ثم محاكمته). الجدير بالذكر أن كبار الشخصيات السياسية البريطانية لا تجد غضاضة أو
حرج في التنازل عن السلطة والاستقالة بمجرد ما حصول ضعف في الأداء السياسي أو الاقتصادي
أو العسكري للبلد وهذا ما حصل مثلا مع ونستون تشرشل ومارغريت تاتشر بالإضافة للرؤساء
الوزراء الأقل شهرة مثل تشامبرلن وإيدن وماكميلان و جوردن براون.
ومن مظاهر نقص الديمقراطية في الدول الغربية
عندما نجد مؤشرات (لاحتكار) السلطة وحصرها ضمن نطاق وجماعات محددة لا يخرج منها وهذا
ما نجده بشكل واضح في الولايات المتحدة عن بقية الدول الأوروبية حيث لم يصل لمنصب الرئيس
أي سيدة أمريكية. بينما تولي النساء لمنصب رئيسة الوزراء مشهد مؤلف وعادي جدا في
عدد من الدول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا والنرويج وكندا وأيرلندا والنمسا بل وحتى
عدد كبير من دول العالم الثالث. أما فيما يتعلق بديانة الرئيس فمن شبه المستحيل أن
ينتخب مرشح أمريكي ليس على المذهب البروتستانتي السائد والاستثناء الوحيد واليتيم فهو
انتخاب الرئيس جون كينيدي الكاثوليكي. بينما في المقابل نجد في بريطانيا أن رئيس الوزراء
بنجامين دزرائيلي اليهودي الديانة قد انتخب مرتين لتولي أعلى منصب في الإمبراطورية
البريطانية عندما كانت في عز قوتها التي لا تغيب عنها الشمس.
ظاهرة أخرى سياسية تدل على احتكار السلطة
والتشبث بها في الولايات المتحدة هي ظاهرة (العوائل السياسية) فربما نجد مثلا في
الدول الأوروبية أفراد أسرة واحدة لهم ارتباط متواصل ومتوارث بالسياسة لكن لم يحصل
أن تتابع أفراد أسرة واحدة في تولي منصب رئاسة أي دولة أوروبية. المشهد السياسي
مختلف نسبيا في أمريكا فكما هو معلوم لدينا الرئيس جورج بوش الأب والرئيس جورج بوش
الأبن. وقبلهما ظهر الرئيس الثاني لأمريكا جون آدمز والذي وإن كان يوصف بأنه أحد (الآباء)
المؤسسين للولايات المتحدة إلا أنه بالفعل أحد (الآباء) للرئيس الأمريكي السادس
جون كوينسي آدمز في حين أن الرئيس الأمريكي التاسع ويليام هاريسون هو جد الرئيس
الأمريكي بنجامين هاريسون. أما علاقة الأخوة بين رؤساء أمريكا فقد كادت تتحقق مع
الثنائي جون كيندي وشقيقه روبرت كيندي الذي كانت فرصته قوية للوصول للحكم لو لم
يتم اغتياله بعد فوزه في المرحلة الأولى للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1968م
علما بأنه كان بالفعل يتولى قيادة أمريكا مع أخيه الرئيس جون كيندي حيث كان أهم أعضاء
حكومته.
وأخيرا كما هو معلوم من أبرز مظاهر الأنظمة
الديكتاتورية والاستبدادية تحكّم وسيطرة الجنرالات والعسكر على مفاصل السلطة ولهذا
نادر جدا في الدول العريقة في الديمقراطية إسناد حكم البلاد لجنرالات الحروب.
وبحكم أن الديمقراطية منقوصة في أمريكا كما شاهدنا سابقا فلهذا لا غرابة أن نعلم
أن أربعة من رؤساء كانوا في الأصل عسكر حرب وجنرالات قتال وبدون أي خبرة سياسية
مسبقة. وهذا بالضبط حال الجنرال والرئيس الأمريكي أيزنهاور (قائد قوات الحلفاء في
أوروبا في الحرب العالمية الثانية) والجنرال الرئيس يوليسس غرانت (قائد الجيش
الأمريكي في الحرب الأهلية) والجنرال الرئيس زكاري تايلور (قائد الجيش في الحرب
الأمريكية المكسيكية).
أما أهم جنرال عسكري في تاريخ الولايات
المتحدة وهو ما سوف نختم به هذا التطواف فهو الجنرال جورج واشنطن قائد القوات
المسلحة للجيش الأمريكي أثناء حرب الاستقلال عن بريطانيا والذي أصبح أول رئيس للولايات
المتحدة. الغريب أن ظاهرة التمسك بالسلطة والتشبث بالحكم متفشية في رؤساء أمريكيا
بالرغم من أن أول رئيس لها كان على خلاف ذلك تماما. حيث يقال إنه بعد الانتصار
الكبير للجنرال جورج واشنطن في حرب الاستقلال ترددت مطالب من بعض المعجبين به أن
يتم تنصيبه ملكا أو إمبراطورا أو حاكم لمدى الحياة على الدولة الجديدة إلا أن جورج
واشنطن رفض ذلك بكل نبل وحنكة سياسية. وعندما تم انتخابه بشكل ديمقراطي ليصبح أول
(رئيس) للولايات المتحدة وبعد انتهاء الفترة الرئاسية الثانية رفض للمرة الثانية جورج
واشنطن بكل نبل وحنكة سياسية أن يحصل على استثناء من الكونغرس الأمريكي ليحكم
لفترة رئاسية ثالثة. من جورج واشنطن إلى دونالد ترامب كم تغير بشكل هائل وحاد
المشهد السياسي والعرف الديمقراطي في بلاد اليانكي لدرجة أن العام سام نفسه يخجل
ويشيح بوجه عما أصاب تلك الديار من ذلك العار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق