د/ أحمد بن حامد الغامدي
من الأسلحة القانونية بالغة الأهمية في الحملة المباركة ( إلا محمد ) للدفاع عن نبي الإنسانية الحكم الذي قضت به المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأن الإساءة إلى الرسول الكريم لا تندرج ضمن حرية التعبير عن الرأي. ومن المرتكزات التي بنت عليها تلك المحكمة حكمها التاريخي ذلك أنه من حق الأخرين حماية معتقداتهم ورموزهم الدينية. من بديهيات الحياة وطبائع الأشياء أن جميع المجتمعات لا تقبل المساس برموزها الدينية ولا بشخصياتها القومية ولا بأعلامها السياسية وأن أي مساس بهذه الرموز يسبب احتقان للسلم المجتمعي. من هذا المنطلق نفهم لماذا تزامنت وتداخلت الانتفاضة الشعبية محليا وإقليميا في الدفاع عن محمد بن عبد الله الرسول الكريم وعن محمد بن إسماعيل البخاري الخادم الأمين للسنة النبوية. في الحديث النبوي عن الرسول الكريم أنه قال (ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه) والسنة هي الحكمة التي وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقترنه مع الكتاب (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة). فالسنة النبوي المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام هي من الوحي الرباني وهذه السنة محفوظة ومنقولة من خلال كتب ومرويات الحديث الشريف. وإمام أهل الحديث بلا منازع في جميع العصر هو الإمام البخاري الملقب بأمير المؤمنين في الحديث وكتابه (الجامع الصحيح) هو أهم وأبرز وأصح كتب التراث الإسلامي من مبتداه إلى منتاه.
من هذا وذاك نعلم الارتباط الوثيق في الدفاع
والذب عن محمد صلى الله عليه وسلم نبي الإسلام وسيد ولد آدم والدفاع والذب عن محمد
البخاري طبيب الحديث وسيد المحدثين كما وصفه الإمام مسلم. يقال إن الإمام البخاري
رحمة الله شاهد في المنام رؤيا وكأنه واقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام وبيده
مروحه يذب بها الذباب وعندما سأل عن تفسيرها تم تعبير هذه الرؤيا بأنه يذب ويطرد
الكذب عن الرسول عليه السلام. والجزاء من جنس العمل كما يقال ولذا من حق الإمام
البخاري علينا أن نذب ونبعد عنه كل كذب وافتراء وتشويه واستنقاص. من البديهيات
والأمور المسلمات أن الامام البخاري من أشهر وأهم الرموز والأعلام في تاريخ الإسلام
بعد الصحابة الكرام وهو في مجال الشهرة في طبقة أصحاب المذاهب الفقهية الكبرى إن
لم يكن قد يفوقهم في الشهرة والقدر والتعظيم.
وحتى اليوم نجد في الديار المصرية عندما
يتكلم رجل بالطعن في شخص آخر ويرفض المستمعون هذا التنقص ويردون عليه نجد أن الشخص
الأول وكنوع من الدفاع عن نفسه يطالب بأن يخففوا عنه الملامة فهو لم يخطئ في حق
شخص عظيم الشأن ولذا يقول (أيه يا عم هو أحنا غلطنا في البخاري ؟!!). والمقصود أن
للإمام البخاري ولكتابه الجامع الصحيح مكانة وقدر وتعظيم واحترام عميق جدا في
الأمة الإسلامية منذ قرون طويلة وهو بهذا ارتفع مكانه ليصبح رمز ديني لا يقبل على
الاطلاق الاستنقاص منه أو الطعن فيه. وفي هذا المساق نفهم (وإن كنا لا نوافق)
الاخبار المنتشرة في التاريخ الإسلامي سواءً في تعظيم الإمام البخاري كشخص أو تقديس
كتابه الجليل كرمز للدين الحنيف. في بعض الدول الإسلامية قد تجد من يحلف بالبخاري
فالعوام في مصر مثلا قد يقول أحدهم (والبخاري ما فعلت كذا) بينما في المغرب العربي
إذا أراد أحدهم أن يؤكد قسمه وحلفانه على شيء يقول (والجاه والبخاري). والغالب أن
العوام أو الشخص الذي يحلف (بالبخاري) يقصد الحلف بالأحاديث الشريفة التي في كتاب
البخاري ولا يقصد الحلف بشخص الإمام البخاري نفسه. وهذا يفسر لنا ارتباط كتاب
البخاري (الجامع الصحيح) بالتقديس والبركة والاستغاثة لدرجة أن الحافظ ابن حجر ذكر
في مقدمة كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري ما ورد عن بعض السلف أن (صحيح
البخاري ما ُقرئ في شدة إلا فرجت). عندما غزا نابليون بونبارت مصر واحتل مدينة
الإسكندرية ثم بدأ جيشه يتجه نحو القاهرة وهنا يذكر لنا المؤرخ الجبرتي موقف أهل
القاهرة لمواجهة زحف الجيش الفرنسي بالاستعدادات الدفاعية العسكرية والدينية والتي
كان منها (.. واجتماع علماء الأزهر لقراءة صحيح البخاري). ويبدو أن هذا تقليد قديم
في بعض الحروب الإسلامية للتترس ببركة كتاب صحيح البخاري لدرجة أنه يقال إن الجيوش
العثمانية كان يوجد فيها وحدات خاصة لقراءة صحيح البخاري عند مواجهة العدو في ساحات
القتال.
ليس هذا وحسب فيما يخص شدة تعلق الناس بكتاب
البخاري وتعظيمهم له وبحكم إننا ما زلنا في أجواء وباء الكورونا والشيء بالشيء
يذكر فهذا الجبرتي مرة أخرى عندما ذكر وباء الطاعون الذي اجتاح الديار المصرية عام
1813م والاستعدادات التي أمر بها محمد علي باشا والتي كان منها (وأمر أيضا بقراءة
صحيح البخاري بالأزهر) وذلك بنية رفع الوباء. وفي تاريخ ابن كثير رحمه الله شيء مشابه
وذلك عند حديثه عن الوباء الذي أصاب فلسطين عام 749 هـ وتسبب في وفاة عدد هائل من
البشر وكان من وسيلة الناس للتقرب لله بالدعاء برفع البلاء أن تم قراءة كتاب صحيح
البخاري بعد صلاة الجمعة. بل إن المؤرخ المقريزي ذكر توظيف فريد لقراءة كتاب صحيح البخاري
من قبل سلطان مصر المملوكي الملك الأشرف أبو المعالي الذي أمر بقراءة صحيح البخاري
في كل يوم من أيام رمضان تبركا بقراءته لما نزل بالناس من غلاء الأسعار. وفي موضع
آخر وفي سنة أخرى وفي بلد مغاير نقل المقريزي أنه حصل جفاف في بلاد الشام وقحط
شديد ولهذا قام أحد المشايخ بقراءة كتاب صحيح البخاري في الجامع الأموي بدمشق في
يوم الأحد التاسع من شهر صفر 695 هـ فسقط المطر من تلك الليلة واستمر عدة أيام.
وحتى في أيام الرخاء والاستقرار فما زال الجميع يلتمس البركة من وراء قراءة صحيح
البخاري فهذا السلطان المغربي الحسن الأول عندما بنى في نهاية القرن التاسع عشر
قصره بمدينة الرباط افتتح ذلك المسكن الفخم بحفلة خاصة تم فيها قراءة صحيح البخاري
بمحضر العلماء والوزراء.
وهذا ما كان من التعظيم والإجلال لكتاب
الجامع الصحيح عبر العصور وفي مختلف المجتمعات الإسلامية أما التبرك بنفس شخص
الإمام البخاري فهو أيضا موروث قديم فالمحدث الحافظ تقي الدين السبكي ذكر أن الناس
كانوا يتبركون بتراب قبر البخاري. وفي بعض المرويات التاريخية أنه عندما دفن رحمه
الله فاح الطيب من قبره ولهذا أخذ الناس ومن باب البركة يغرفون من التراب فوق قبره
حتى أنكشف القبر ثم بعد ذلك بني الضريح على قبره. وبمناسبة ذكر ضريح البخاري فهو
موجود في طرف قرية صغيرة في ضواحي مدينة سمرقند بدولة أوزبكستان حاليا وقد سبق لي
أن زرت المكان مع بعض الزملاء الأفاضل ومظاهر الغلو عنده غير ظاهرة بشكل واضح. لكن
في المقابل ذلك الضريح هو أكثر مكان ذي خلفية دينية إسلامية أو مسيحية أو بوذية وجدت
عنده عدد كبير وجمع غفير من الفقراء الذين يسألون المساعدة والعون وكأن عاطفة
الزوار والسياح تجود بالمال فوق العادة في ذلك الموضع. وكما ذكر المقريزي حادثة
الاستسقاء في مدينة دمشق بقراءة كتاب صحيح البخاري ذكر الإمام الذهبي في كتاب سير
أعلام النبلاء القصة الشهيرة عندما أصاب مدينة سمرقند قحط شديد وذلك عام 464 هـ وكيف
أن الناس استسقوا مرارا فلم يسقوا حتى أشار عليهم رجل معروف بالصلاح أن يخرج الناس
مع قاضي سمرقند إلى قبر الإمام البخاري ويستسقون عنده. وهنا تذكر كتب التاريخ أنه
تكرر ما حصل بمدينة دمشق من المطر الغزير لدرجة أن الناس أقاموا لمدة أسبوع في
قرية خرتنك التي فيها قبر البخاري ولم يستطيعوا العودة لمدينة سمرقند من شدة غزارة
هطول الأمطار والسيول.
التوظيف السياسي لمكانة الإمام البخاري
الأمثلة والأخبار التي تم سردها بالأعلى عن
المكانة العالية والتقدير والتعظيم لكتاب صحيح البخاري ولشخص الإمام البخاري بغض
النظر عن صحتها أو توافقها مع المذهب الشرعي (لدرجة أنه يوجد من يطالب بموقف الاقتصاد
في الاعتقاد حيال الإمام البخاري) إلا أن المقصود من حشدها تأكيد حقيقة إن الإمام
البخاري وبكل استحقاق هو من أهم الرموز الدينية في التاريخ الإسلامي قديما وحديثا.
ولا يصح على الإطلاق من أبناء الإسلام قبول الطعن في الإمام البخاري في حين أن
أشداء الأعداء خصومه للدين الإسلامي عرفوا له قدره ومكانته وتقربوا للعالم والأمة
الإسلامية من خلاله. بعد الاحتلال السوفيتي للجمهوريات الإسلامية في وسط آسيا تعرض
المسلمون لاضطهاد ديني أثيم نتج عنه إغلاق آلاف المدارس الدينية والمساجد ولم يبقى
متاحا في جميع المناطق الإسلامية إلا مدرسة مير عرب في بخارى ومدرسة مبارك خان في
طشقند. السياسة القمعية السوفيتية تغيرت بشكل ملموس في عهد الرئيس الروسي بريجنيف والذي
كمحاولة منه للتقرب للجالية المسلمة في الإمبراطورية الروسية والتقرب من حكومات
وشعوب العالم الإسلامي استخدم المكانة المميزة للإمام البخاري. في البداية تم
تغيير مسمى مدرسة مبارك خان في طشقند إلى اسم الإمام البخاري وتم تحويل تلك
المدرسة وتطويرها إلى معهد الإمام البخاري للدراسات الإسلامية. وحتى يقنع الاتحاد
السوفيتي شعوب وحكومات العالم الإسلامي أنه لا يضطهد الجالية المسلمة استغل مناسبة
مرور 1100 سنة على وفاة الإمام البخاري وقام في عام 1970م بإقامة مؤتمر ديني عالمي
كبير في مدينة سمرقند خصص عن الإمام البخاري وتم دعوة عدد كبير من الجهات الدينية
الرسمية في معظم البلاد الإسلامية وكان على رأسها رابطة العالم الإسلامي.
من غرائب الموافقات في التوظيف السياسي للتقدير
البالغ للإمام البخاري في العالم العربي والإسلامي أنه قبل المؤتمر الدولي الضخم الذي
سمح به الشيوعيون في سمرقند عام 1970م نجد قبل ذلك بسنه واحدة أي في عام 1969 نجد
أن جمال عبد الناصر والحكومة المصرية الاشتراكية وبعد الهزيمة الشنيعة في حرب 67
تحاول التزلف للشعوب العربية من بوابة إصدار طابع بريدي خاص عليه صورة متخيلة للإمام
البخاري وكذلك التجهيز لطباعة 30 ألف نسخة من كتاب صحيح البخاري.
الجدير بالذكر أن العديد من السلاطين
والحكام في التاريخ الإسلامي القديم اكتسبوا مكانة مرموقة لدى العلماء والرعية عندما
تعمقوا في دراسة صحيح البخاري لدرجة أن يصبح لهم القدرة على شرح وتدريس صحيح
البخاري. فهذا السلطان المملوكي المؤيد شيخ المحمودي درس كتاب صحيح البخاري على يد
سراج الدين البلقيني وأخذ منه إجازة بروايته وشرحه ولاحقا كما يذكر المقريزي كان السلطان
المؤيد هو من ابتدع (ميعاد البخاري) وهي حلقة علمية ُيقرأ فيها صحيح البخاري في كل
يوم من رمضان. أما السلطان المغربي محمد الثالث بن عبد الله الملقب بسلطان العلماء
وعالم السلاطين فقد ألف كتاب خاص لتخريج أحاديث صحيح البخاري سماه (فتح الباري في
تخريج أحاديث البخاري). وما دمنا في بلاد المغرب فلعل المجال ملائم لذكر أكثر حاكم
أو سياسي استفاد واستطاع (توظيف) التعظيم الديني للإمام البخاري. وكان ذلك السلطان
المغربي إسماعيل بن الشريف والذي نجده في بداية القرن الثامن عشر يكون له جيش خاص
مؤلف من الرقيق سماه (جيش عبيد البخاري) لأنه كان مكون من العبيد الذين أقسموا
للسلطان على كتاب صحيح البخاري بأن يكون ولائهم فقط له.
بقي أن نقول في الختام قبل أن نغادر أن المقصود من هذا المقال ليس تعزيز الصورة المغالية في تقديس الإمام البخاري وكتابه (الجامع الصحيح) ولكن الهدف كان إعادة تأكيد المكانة العالية والرفيعة بل والفريدة لكلا من الإمام البخاري وكتابه الصحيح فهما بحق وصدق من رموز الإسلام. وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح أنهما لا يجوز نقدهما وإخضاعهما للدراسة التاريخية والحديثية والشرعية فأما البخاري نفسه فهو بشر وهذا يكفي للدلالة أن غير معصوم من الخطأ والنقص. وأما كتاب (الجامع الصحيح) فهو أيضا جهد بشري ولهذا لا مندوحة من أن يندرج تحت قوله تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) ومن هنا نفهم ولا نتحرج من نقد كبار العلماء ((لبعض)) أحاديث البخاري كما فعل الحافظ الدارقطني وأبو حاتم الرازي بل وحتى محدث العصر الشيخ ناصر الدين الألباني. يقال (إن الحديث الذي لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث) وهذا يأتي في سياق بيان عظم علو كعب شيخ الإسلام ابن تيمية في الصنعة الحديثية ولهذا أنصف ابن تيمية الإمام البخاري عندما قرر أن غالب ما أُنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحا على قول من نازعة. ولهذا لا يصح عقلا ولا شرعا الاستناد على هذا (النقد العلمي) على بعض أحاديث صحيح البخاري لمحاولة طمسه بالكامل والزعم الفج أن ما فيه يخالف القرآن ويشوه دين وسيرة الرسول الكريم.
كما هو معلوم أهم كتب الإسلام هي صحيح البخاري
وصحيح مسلم وأهم الشروح الحديثية والفقهية لها هي كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري
للحافظ ابن حجر العسقلاني وكتاب المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للحافظ الإمام
النووي. وكلا من كتاب فتح الباري وكتاب شرح صحيح مسلم من الكتب الضخمة المؤلفة في
عشرات المجلدات وآلاف الصفحات والورقات واحتمالية وجود بعض الأخطاء فيها أمر وارد
ولا شك. قبل فترة من الزمن قام بعض غلاة السلفية بحماقة تعمد إحراق كتاب فتح
الباري وكتاب شرح صحيح مسلم بحجة أن كلا من ابن حجر العسقلاني والإمام النووي هم
من الأشاعرة وأن لديهما أخطاء في عقيدة الأسماء والصفات. وهذا الغلو والتطرف السلفي
الأهوج سرعان ما تلاشى وبقيت المكانة العالية للأهمية الدينية لهذين الكتابين
وأنهما من أهم وأفضل كتب التراث الإسلامي. وعلى نفس النسق وحذو القذه بالقذة نجد اليوم
دهاقنة الغلو العلماني والتطرف العقلاني يبثون سموهم في المجتمع بأن صحيح البخاري
وصحيح مسلم ينبغي إحراقها معنويا وطمسها واقعيا. ولأن الله قد تكفل بحفظ دينه ووحيه
القرآني وسنة رسوله فمصير هذا التطرف والتشكيك والكيد إلى زوال وسوف تبقى كتب ودواوين
السنة النبوية الشريفة هي المنهاج والطريق القويم في الماضي والحاضر والمستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق