الثلاثاء، 19 يوليو 2022

( يوليو .. شهر الثورات !! )


 

د. أحمد بن حامد الغامدي

 يوم أمس الثلاثاء اكتملت الثورة الشعبية في سيرلانكا في إسقاط الحكومة بعد أن تم الإعلان عن فرار رئيس الدولة إلى المالديف هربا من ثورة الجياع والتي تفاقمت مع الصيف الساخن في شهر يوليو ذلك الشهر الذي كثرت فيه عبر التاريخ الثورات الأممية والانقلابات العسكرية والمؤامرات الحزبية كما حصل قريبا مع رئيس الوزراء البريطاني المستقيل بوريس جونسون.

أما اليوم فهو الرابع عشر من شهر يوليو وهو يوم ذو أهمية سياسية وتاريخية على المستوى الدولي وعلى الصعيد الإقليمي فهو توقيت اندلاع شرارة الثورة الفرنسية عام 1789م المبشرة بثلاثية الحرية والمساواة والإخاء وكذلك يتوافق مع انقلاب (14 تموز/ يوليو) موعد كارثة الثورة العراقية عام 1958م المنذرة بثلاثية العبودية والمحاباة والعداء. الغريب في الأمر أن (انقلاب تموز) العراقي ليس انقلابا واحدا فله انقلاب لاحقا في الزمن كما أن (ثورة يوليو) الفرنسية ليست ثورة واحدة بل لها ثورة لاحقة في الزمن. في التاريخ العربي والعراقي التعيس يوجد انقلاب تموز في يوم 14 يوليو لعام 1958م والذي أسقط فيه عبد الكريم قاسم حكم ملك العراق فيصل الثاني ويوجد كذلك انقلاب تموز الثاني والذي وقع في يوم 17 يوليو من عام 1968م وفيه أطيح بحكم الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف وتولى حزب البعث زمام الحكم.

أما في تاريخ الأمة الفرنسية مع الثورات السياسية التي شهدها شهر يوليو ففي الواقع عندما تذكر (ثورة يوليو الفرنسية) يكون المقصود بها ليس الثورة الأولى (التي انطلقت شرارتها من اقتحام سجن الباستيل الشهير في يوم الرابع عشر من يوليو) ولكن في الواقع يقصد بها الثورة التي اندلعت يوم 27 يوليو من عام 1830م والتي نتج عنها الإطاحة بالملك الفرنسي شارل العاشر. وهذا يعكس الفرق بين واقع وثمرات الثورات في الغرب مع ما واقع الحال في العالم العربي فثورة يوليو العراقية الثانية هي (انقلاب على الانقلاب) ولهذا زاد الأمر سوءا في بلاد الرافدين. بينما في بلاد الفرنجة الفرنسيسكان فثورة يوليو الثانية هي (ثورة تصحيح) واستبدال مفهوم الحق الوراثي كركيزة للحكم بمفهوم السيادة الشعبية.

الغريب في تاريخ (الثنائية المزدوجة) لثورة يوليو في بعض الدول أنه حتى في قصة الثورة الأمريكية يوجد في كتب التاريخ توقيتان مختلفان لموعد قيام ثورة الاستقلال الأمريكي عن التاج البريطاني. من المشتهر للجميع أن يوم الاستقلال الأمريكي يحتفل به كل عام في تاريخ (الرابع من يوليو The Fourth of July) وهو التاريخ الذي يزعم أنه يتوافق مع اعتماد وثيقة إعلان الاستقلال من قبل الكونجرس الأمريكي. بينما نجد أن جون آدمز الرئيس الأمريكي الثالث وممن ساهم في صياغة وكتابة نص (وثيقة الاستقلال) والذي كان شاهد عيان على ذلك الحدث التاريخي الضخم وبحكم عادته في كتابة مذكراته اليومية كتب خطاب لزوجته يقول فيه: (إن يوم الثاني من يوليو لعام 1776م  سوف يكون أكثر يوم مذكور في التاريخ الأمريكي وأنني أعتقد بأن الأجيال القادمة سوف تحتفل به كمهرجان سنوي عظيم). وما حصل أن كتابة وثيقة الاستقلال والتصويت عليها في البرلمان الأمريكي وإعلان عن الانفصال عن الإمبراطورية البريطانية تم في الواقع في يوم (الثاني من يوليو) ولسبب غير معروف تم الزعم بأن ذلك الحدث الجلل حصل في يوم الرابع من يوليو.  والمحير أكثر أن العديد من الآباء المؤسسين للأمة الأمريكية مثل توماس جيفرسون وبنجامين فرانكلين زعموا أنهم وقعوا وثيقة الاستقلال في يوم الرابع من يوليو بينما استقر اليوم رأي أغلب المؤرخين أنه هذه اللحظة الفاصلة في تاريخ الأمة الأمريكية لم تحصل إلا في يوم الثاني من شهر (أغسطس) أي بعد شهر بالتمام من التاريخ الذي ذكره الرئيس جون آدمز !!.

وفي الواقع فإن التلاعب والتعديل و(التزييف) بموعد وتوقيت الوقائع السياسية والتاريخية المفصلية الحديثة أمر محير إلا إذا أخذنا الموضوع من باب (أنا لا أكذب ولكني أتجمل). من ذلك مثلا أن تاريخ الميلاد الفعلي لمكلة البريطانية إليزابيث الثانية هو 21 أبريل لكن يحتفل به بشكل رسمي في الصيف (ثاني سبت من شهر يونيو) وربما السبب في ذلك هو نوع من (التجمّل) لأن الاحتفال في أجواء الصيف أجمل وأبهج. وهذا نسبيا ما نجده حتى في التاريخ الروسي المعاصر فبالرغم من أن الثورة الروسية التي أسقطت حكم الإمبراطور الروسي نيقولا الثاني، وقعت هذه الثورة في شهر فبراير البارد من عام 1917م إلا أن الاحتفالات الرسمية (بالثورة الشيوعية) تتم حاليا في أجواء أكثر دفئاً (شهر أكتوبر الأحمر).

 ثورات يوليو القائمة تطول وتطول

بالإضافة إلى ما سبق ذكره من أن شهر يوليو يتوافق مع أشهر الثورات السياسية في التاريخ مثل الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية نجد أنه كان كذلك ساعة الصفر وموعد انطلاق ثورات أخرى مهمة أيضا مثل الثورة الشيوعية الصينية التي بدأت ارهاصاتها في يوم 21 يوليو من عام 1945 ميلادي. وقل مثل ذلك عن الثورة الإسبانية التي اندلعت في يوم 19 يوليو لعام 1936م بينما الثورة الكوبية التي قادها فيدال كاسترو وأوصلته لسدة الحكم فكانت في يوم 26 يوليو من عام 1953 ميلادي.

أما في محيطنا العربي فهذا الشهر الساخن شهد كذلك العديد من الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية وقد ذكرنا لك أيه القارئ العزيز طرفا من خبر الثورات العراقية المتتالية في هذا الشهر. بينما أخطر وأهم ثورة عربية شكلت المشهد السياسي في المنطقة العربية ولا تزال فهي الثورة المصرية والتي كما هو معلوم قام بها جمع ممن يسمون الضباط الأحرار في يوم 23 يوليو من عام 1952م وفيها أسقط الحكم الملكي في أرض المحروسة. وبحكم أن فترت الستينيات من القرن العشرين شهدت العديد من الثورات ذات الطابع الشيوعي في العدد من دول العالم الثالث ولهذا لم يكن من المستغرب وصولها لشواطئ الخليج العربي. وهذا ما حصل بالذات في سلطنة عمان الشقيقة حيث قامت بها (ثورة ظفار) والتي استمرت لسنوات طويلة كانت ذروتها ما حصل في يوم 23 يوليو لعام 1970 حيث تمت الإطاحة بحكم السلطان سعيد بن تيمور.

وبهذا الكم الغفير والعدد المتزايد من الثورات السياسية والانقلابات العسكرية في هذا الشهر الصيفي الساخن ربما نحتاج من العلماء والباحثين إعطاء تفسير علمي لهذه الظاهرة المتكررة بوفرة في صفحات التاريخ القديم والمعاصر. في الواقع عبر العقود الماضية ظهرت العديد من الدراسات السياسية والاجتماعية والنفسية بل وحتى الاقتصادية الهادفة لمحاولة تفسير الثورات السياسية الكبرى ومن أهم ما يمكن ذكره هنا كتاب (تشريح الثورة) للمؤرخ الأمريكي البارز كران برينتون. وبالجملة من أهم أسباب الثورات حصول حالة الإحباط الواسعة النطاق بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وهنا يدخل دور (الطقس) في تحفيز وقوع العديد من الثورات في شهر يوليو الساخن حيث تشير السجلات التاريخية في حالة الثورة الفرنسية (أم الثورات السياسية) التي وقعت عام 1789م أنه حصل قبلها بفترة قصيرة جفاف شديد وارتفاع في درجات الحرارة (أثمرت) دمارا هائلا في المحاصيل الزراعية ونقصا حادا في الحبوب والقمح ولهذا لم يكن طلب الشعب الحصول على الخبز من الملكة ماري أنطوانيت قصة خيالية. ونفس هذا التوصيف بتداخل أجواء الصيف الساخنة أكثر من المعتاد مع تردي الأوضاع الاقتصادية حصل أثناء (ثورة يوليو) الفرنسية الثانية التي حصلت عام 1830م وهذا ما يفسر نسبيا ترابط الاضطرابات السياسية مع التقلبات في الأحوال الجوية.

في عام 2013م ُنشر بحث علمي رصين في المجلة العلمية الشهيرة والمرموقة (Science) عنوانه (قياس تأثير المناخ على الصراع البشري) وتم فيه الإشارة إلى وجود ترابط بين التغيرات المناخية واندلاع الثورات السياسية والصرعات الاجتماعية. واليوم بعد عشر سنوات من تلك الدراسة ومع هذه الأجواء الصيفية الساخنة والقلاقل السياسية ونقص القمح في العديد من الدول لا يستغرب اندلاع عدد من ثورات الجياع أو مظاهرات السخط كما تتناقله وسائل الإعلام عما يحصل هذه الأيام في الأرجنتين وألبانيا وكينيا وبنما والقائمة تطول وستطول.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق