د/ أحمد بن حامد الغامدي
في كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) نجد خبرا طريفا لمؤلف ذلك الكتاب المشهور وهو المؤرخ الأندلسي المقري التلمساني عندما أورد قصيدة الشاعر عبد الجبار بن حمديس في وصف القصر الذي بناه المنصور بن أبي عامر وذكر في آخر بيت في تلك القصيدة كلمة (التدمير):
كم من قصورٍ للملوكِ تقدمت واستوجبت بقصورك التأخيرا
فعمرتها وملكت كل رياسةٍ منها ودمرت العدا تدميرا
وهنا علّق المقري بقوله (ولم أر لهذه القصيدة
في لفظها ومعناها من نظير غير أن فيها عندي عيباً واحدا وهو ختمها بلفظ
(التدمير)). لقد كانت وجهة نظر المقري الفنية والتشاؤمية في ذات الوقت أنه ليس من
الملائم ذكر ألفاظ التدمير والخراب في آخر قصيدة تهدف لمدح حاكم وهو في حال سروره
وتفاخره بقصره الجديد الفارهة فالملافظ سعد كما يقال.
صحيح أن الدنيا فانية ومصير كل ما (يعمره)
الإنسان إلى (خراب) كما قال شاعر الزهد أبو العتاهية:
لِدوا للموتِ وابنوا للخرابِ فكلكم يصيرُ إلى ذهابِ
وصحيح أن من طبيعة الأشياء أن يصيبها التلف مع الزمن لكن ما نقصده هنا هو التخريب المقصود وذو الدوافع السياسية لطمس آثار وإعمار الدول والسلطات السابقة. وبما أننا استهللنا المقال بذكر الأندلس التي عُدت منها قبل أيام قليلة فلعل من المناسب التنويه أن ما يعرف بشعر (رثاء الأندلس) مثل قصائد أبي البقاء الرندي وابن خفاجة الأندلسي وابن دراج القسطلي وابن الأبار البلنسي في الفجيعة على سقوط المدن العربية بيد الجيوش المسيحية يوجد له نظير ومقابل لقصائد وشعر رثاء مدن الأندلس التي تم تخريبها بيد العرب وملوك الطوائف المتطاحنين. فمن ذلك ما ورد في كتاب نفح الطيب لقصيدة الشاعر الحكيم (كما وصفه المقري) عباس بن فرناس في رثاء مدينة طليطلة عندما خربها ودمّر قنطرتها وأغرق أهلها الأمير محمد بن عبد الرحمن خامس أمراء الدولة الأموية في الأندلس. وهذا الأمير سليمان المستعين بالله الحاكم الثاني عشر للدولة الأموية الأندلسية عندما خرّب ودمّر بدوره هو الآخر مدينة الزهراء رثاها أحد شعرا الأندلس بقوله:
ديارٌ بأكناف الملاعب تلمعُ وما
إن بها من ساكنٍ وهي بلقعُ
ينوح عليها الطيرُ من كل جانبٍ فيصمتُ أحيانا وحينا يرجعُ
بالمناسبة مدينة الزهراء الأندلسية القريبة من مدينة قرطبة كانت ذروة الإبداع ودرة حضارة العمران الإسلامي في وقتها ومع ذلك دمرت وخربت بالكامل لدرجة أنها ليس فقط اختفت من كتب التاريخ، بل إنها انطمرت وانطمست بالفعل تحت التراب ولم يُعاد اكتشافها و(التنقيب) عنها إلا في عام 1911ميلادي. لقد تم بناء مدينة الزهراء على يد الخليفة الأموي الأندلسي الأول (عبد الرحمن الثالث) ودمرت وهدمت على يد حفيده السابق الذكر سليمان المستعين بالله الخليفة الأموي الأندلسي الخامس. وقبل ذلك وفي المشرق العربي نجد أن ذروة الإبداع ودرة حضارة العمارة العباسية كانت مدينة (سرّ من رأى) التي بناها الخليفة المعتصم بالله وجعلها عاصمة البلاد ثم لما تولى ابنه المتوكل هجر تلك الدرة المعمارية وأنشأ مدينة المتوكلية. وبعد اغتيال الخليفة المتوكل ونشوب الصراع بين أبنائه الثلاثة تم هجر وتخريب مدينة سرّ من رأى بالكامل وتحولت من الجمال إلى القبح وتغير اسمها إلى ساء من رأى (سامراء). وكما دبّجت القصائد في رثاء المدن الأندلسية التي خربت على يد العرب أنفسهم نجد أن العديد من الشعراء نظموا القصائد في رثاء مدينة سامراء كما هو الحال مع شعراء بني العباس الشريف الرّضي وابن المعتزّ.
يقال إن التاريخ يعيد نفسه وهذا بالفعل ما
حصل في عواصم الخلافة العباسية فقبل تلك الهوشة والنزاع والتخريب بين أبناء
المتوكل حصل قبل ذلك النزاع المشهور بين أبناء هارون الرشيد والقتال الدامي بين
جند الأمين وعسكر المأمون والذي تسبب في خراب مدينة بغداد لدرجة أنه رثى حالها
الموحش والخراب الذي لحق بها العديد من الشعراء ومنهم الشاعر عمرو العتري وله أبيات
مشهورة ذكرها ابن كثير في تاريخه:
من ذا أصابك يا بغداد بالعينِ ألأم تكوني زمانا قرة العينِ
ألم يكن فيك قومٌ كان مسكنهم وكان قربهم زينا من الزينِ
والمقصود أن الخراب والدمار للديار والدار والقصور والأمصار هي من عادة العرب في أغلب نزاعاتهم وحروبهم الأهلية وفي هذا السياق نفهم شيئا من مقصود ومفهوم ابن خلدون عن العلاقة العكسية بين العرب والعمران. ومن ذلك مقولته الشهيرة (والشنيعة في نفس الوقت) من أن: العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب والسبب في ذلك أنهم أمةٌ وحشية .. وهذه الطبيعة منافية للعمران مناقضة له. ومن كثرة تحامل ابن خلدون على العرب وأهل البادية وذكر مثالبهم اتهم بالشعوبية والتعنصر ضد قومه وأهله وبما أننا في مساق ذكر العلاقة بين العربان والعمران فهذا موضوع آخر من كتاب مقدمة ابن خلدون حول موضوع العربان وخراب العمران: (وانظر إلى ما ملكوه وتغلّبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوّض عمرانه واقفرّ ساكنه وبُدّلت الأرض فيه غير الأرض، فاليمن قرارهم خرابٌ إلا قليلا من الأمصار وعراق العرب كذلك قد خَرِب عمرانه الذي كان للفرس أجمع والشام لهذا العهد كذلك، وإفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سُليم.. عادت بسائطه خرابا كلها).
مصير القصور العربية في قبضة العجم
لأغلب الشعوب والحضارات نجد أن المعالم العمرانية
التي تبقى عبر الزمن هي أماكن العبادة المقدسة أو قصور الملوك والأباطرة الباذخة
وفي الحضارة الإسلامية بقيت عبر الزمن المساجد القديمة التي لم تهدم بالرغم من
توالي الدول والسلطات، والمسجد الأموي وقبة الصخرة بالقدس ومسجد أحمد بن طولون بالقاهرة
خير شاهد على ذلك. بينما فيما يتعلق بالقصور ودور الحكم أغلبها تم تدميره ولم يبق
منها إلا الآثار والأسماء كما هو حال قصور الأمويين المذكورة في كتب التاريخ (قصر
عمرة وقصر المشتّي) وقصور العباسيين (قصر الأخيضر وقصر الخلد وقصر الرصافة).
وفيما يخص قصور العصر المملوكي تجدر الإشارة
إلى أن هذا العصر الذي بدأ في عام 648 هـ واستمر لمدة ثلاثة قرون وخلال هذه الفترة
تم حرفياً بناء أكثر من مئة قصر لسلاطين وقواد المماليك في مدينة القاهرة وحدها ومع
الأسف كل هذا الإرث العمراني الإسلامي الضخم تلاشى بالكامل تقريبا اليوم. وفي المقابل
نجد أنه في نفس ذلك التوقيت (وبالتحديد في عام 646 هـ) سيطر نصارى إسبانيا على مدينة
إشبيلية واستولوا على قصر المعتمد بن عباد (قصر المُورّق) وغيره من القصور والدور
ولا زالوا يحافظون عليها بصورة جدّية حتى اليوم بعد مرور ثمانية قرون بالتمام
والكمال من ذلك الحدث الأليم. لقدت كنت في زيارة سياحية هذا الأسبوع لقصر المعتمد
بن عباد في إشبيلية وهو تحفة معمارية أسطورية وأثناء ما كنت أتعجب من جمال فن العمارة
الإسلامية الأندلسية كنت كذلك أعجب من حرص الإسبان على الحفاظ والاعتناء بالقصور
الأندلسية مثل قصر المعتمد وقصر الحمراء في غرناطة (الذي زرته قبل ذلك بسنوات) وقصر
عبد الرحمن الداخل في قرطبة وقصر الإمارة في طليطلة وقصر الجعفرية في سرقسطة وغيرها
كثير.
وعلى ذكر مدينة طليطلة وسيطرة نصارى الإسبان
عليها في نهاية القرن الخامس الهجري يمكن نفهم ولو بشكل عام لماذا اختلف سلوك العرب
المخرب للقصور عن سلوك النصارى المحافظ على المكتسبات الحضارية والعمرانية من خصومهم
وأعدائهم. في الواقع لقد كانت طليطلة أول دويلة من دويلات الطوائف الأندلسية تقع
تحت حكم ملوك قشتالة ومباشرة بعد احتلال مدينة طليطلة قام حاكمها الجديد الفونسو
السادس بتحويلها إلى عاصمة ملكة. وبحكم أن النصارى في تلك الفترة كانوا على درجة من
التخلف العمراني فقد حرص ملوك النصارى المتتابعين على الاحتفاظ بمدينة طليطلة على
وضعها الأصلي وعدم تخريبها على عادة ملوك العرب عندما يقومون على الأقل بتدمير
الأسوار والتحصينات الدفاعية. ولقد شاهدت قبل أيام مدينة طليطلة وهي ما زالت تتزين
ببواباتها الأندلسية الأصلية الفخمة وبسورها وجدرانها الضخمة وهي على حالها من
الروعة والجمال والصيانة بعد مرور تسعة قرون من سقوط تلك الدرة الأندلسية. ويبدو
أن هذه العادة والإرث من قبل ملوك قشتاله وليون في المحافظة على غنائمهم من القصور
والحصون وحتى المساجد الإسلامية (بعد تحويلها إلى كنائس) انتقل عبر الزمن للملوك
التالين فهذا الفونسو العاشر ملك قشتالة الملقب بالحكيم يجعل من مدينة طليطلة مركزا
حضاريا أساسيا في حركة ترجمة الكتب العربية إلى اللغة اللاتينية فأجداده حافظوا
على حجارة طليطلة بينما هو حافظ على حضارة طليطلة.
لا شك أن نصارى الإسبان تسببوا في جرائم شنيعة وأثيمة في القضاء على الإسلام وأهله وتصفيته بالكامل من الجزيرة الإيبيرية ومع ذلك كان من مكاسب السلوك البرجماتي النفعي المحض لملوك النصارى أنهم حافظوا على قصور العرب لكي نستطيع أن نزورها اليوم ونتعرف عن قرب مدى الجمال المذهل لفن العمارة الإسلامية وهو الأمر الذي لا يمكن فعله فيما يخص القصور العربية القديمة في بغداد ودمشق والقاهرة. ومن الغرائب أنه في مقابل الملوك العرب الذين يأنفون ويترفعون على الإقامة في قصور من سبقهم ولهذا يدمرونها نجد أن الأسرة الحاكمة الإسبانية تتمتع حتى اليوم بحق الإقامة في الطابق الثاني من قصر المعتمد بن عباد ولهذا أصبح قصر المُورّق أقدم قصر ملكي لا زال يستخدم في أوروبا. ومن الغرائب والغرائب جمة في حديث القصور العربية القديمة أنه لزيارة بقايا آثار أحد أقدم القصور العربية وهو قصر المشتى الذي بناه الخليفة الأموي الوليد بن يزيد في ضواحي مدينة عمان سنة 126 هـ، أنه لمشاهدة آثار هذا القصر الأفضل أن لا تسافر إلى الأردن بل أن تيمم شطر متحف مدينة برلين والتي تحتفظ بالواجهة الصخرية ذات النقوش المذهلة لهذا القصر !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق