السبت، 6 يناير 2024

( التخذيل عن المقاومة .. شواهد من التاريخ )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1445/6/10

 باستثناء النجاح الوحيد في ثورة كوبا تعرض الثائر الأكبر والأبرز في هذا العصر تشي غيفارا لعدد من الهزائم والفشل في ثوراته التالية في جبهات الدول الإفريقية (الكونغو وموزمبيق) وأمريكا الجنوبية (بوليفيا) ومع ذلك كان ذاك الطبيب الأرجنتيني حيكما جدا عندما شخص الحالة السليمة للثورات بقولة (لست مهزوما ما دمت تقاوم). وبالفعل بالرغم من هزيمة وإعدام تشي غيفارا ورفاقه الحمر فإنهم في الواقع من الناحية المعنوية والوجودية لم يهزموا إطلاقا فالرفيق الشيوعي غيفارا ما زال يتمتع حتى اليوم بخلود أسطوري في المجتمعات الغربية الرأسمالية.

وفي عالمنا العربي المعاصر ما زالت الثورات العربية الكبرى مثل ثورة عرابي وثورة سعد زغلول (ثورة 1919م) في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي وثورة الأمير عبدالقادر الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر وثورة عمر المختار في ليبيا ضد الإيطاليين وثورة العشرين في العراق ضد الإنجليز وثورة عبدالكريم الخطابي (ثورة الريف المغربي) ضد الوجود الإسباني وثورة عز الدين القسام وثورة البراق في فلسطين ضد اليهود والاحتلال الإنجليزي وثورة يوسف العظمة في المقاومة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، ما زالت كل هذه الثورات مثال للتاريخ المشرف للنضال والمقاومة ولهذا تذكر دائما وهي مصحوبة بعبارات التبجيل والتمجيد والثناء العاطر. ومع ذلك ففي الواقع كل تلك الثورات العربية (المجيدة) كان مصيرها النهائي وبدون استثناء الفشل والهزيمة وهذا أمر لا ينقص على الإطلاق من مكانتها المبجلة في الذاكرة العربية المعاصرة لأنه كما قال صاحبنا غيفارا (لست مهزوما ما دمت تقاوم).

لقد لاحظت في الفترة الأخيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة تبادلا كثيفا للعبارة الرائعة التي قالها المجاهد الكبير عمر المختار (نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت) وفي الغالب تنقل تلك العبارة من خلال مقطع فيديو قصير من فيلم عمر المختار وبنبرة الصوت المذهلة للفنان المصري عبدالله غيث. مقطع آخر من فيلم (عمر المختار) يتم تداوله بكثافة أكثر هذه الأيام لأنه يتناسب مع الواقع الحالي في كشف البعض ممن يحاول التخذيل والتهوين من جدوى المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني وأنه لا فائدة من النضال وأن الجهاد ضد العدو يسبب كوارث أكبر وأخطر على المدنيين من الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره. في ذلك المقطع يوجد حوار بين المجاهد عمر المختار وبين مجموعة من مشائخ الدين وأعيان القبائل الليبية الذين اجتمعوا بعمر المختار وحاولوا اقناعه بالتخلي عن الجهاد ويأتي على لسان الشيخ الليبي الشارف الغرياني بأن أطفال عمر المختار أي أطفال الشعب الليبي هم (ضحايا الجوع في معسكر الاعتقال، يمتون لأنك تصر على القتال).

تلك المحادثة بين المجاهد عمر المختار والشيخ الشارف الغرياني كانت في معقل المجاهدين في الجبل الأخضر في ولاية برقة الليبية وبالفعل في تلك الأثناء قام الاحتلال الإيطالي بمحاولة وأد المقاومة الليبية من خلال عزل المجاهدين عن بقية الشعب وذلك بواسطة إقامة خمسة معسكرات اعتقال ضخمة في شرق إقليم برقة. وبسبب الجوع والأمراض وسوء المعاملة تشير التوقعات التاريخية أن أعداد الليبيين الذين لقوا حتفهم في تلك المعتقلات بلغ حوالي 80 ألف قتيل وهذا يعني أن حوالي 55% ممن تم اعتقالهم في تلك المعسكرات خسروا حياتهم فيها. ومع ذلك تقبل المجاهد الكبير عمر المختار في المشهد السينمائي ذاك وفي التمثيل الحقيقي على أرض الواقع أن الحرية والاستقلال والجهاد قد يؤدي إلى تضحية فادحة ومؤلمة في الأرواح والممتلكات.

بقي أن نقول إن الشيخ الليبي الشارف الغرياني لم يكن عميلا وخائنا بالمعنى المعروف نتيجة تعاونه مع الاحتلال الإيطالي، بل أنه في شبابه كان يساعد المجاهدين ضد الطليان من خلال تهريب الأسلحة لهم، لكن الغرياني لاحقا أنخرط في السياسة بعد توليه الجناح السياسي في الحركة السنوسية ولهذا كان اجتهاده أن يتم مهادنة الاحتلال بدلا من مقاومته وكانت تلك هي الثغرة أو العثرة التي انزلق منها إلى خطيئة التخذيل عن الجهاد والتهوين في الاستسلام للعدو.

في الواقع قبل سنوات قليلة من هذه الأحداث والمحادثات بين عمر المختار والشارف الغرياني نجد قصة مشابهة سبق وأن تكررت في العراق بدل ليبيا فهذا الشيخ خيون العبيد زعيم عشيرة العبود يشارك في عام 1916م بقية العشائر العراقية في صد هجوم القوات البريطانية التي تحاول احتلال العراق. ونظرا لمساهمة الشيخ خيون العبيد في حشد 1700 مقاتل من قبيلته مكن ذلك مساندة حشود بقية العشائر العراقية التي انتصرت ضد الإنجليز في موقعة باهيزة لكن للأسف هذه المسيرة النضالية للشيخ خيون العبيد لم تستمر. بعد اكتمال احتلال العراق قامت القوات الإنجليزية بمحاولة شراء ولاء بعض مشائخ العشائر من خلال منحهم الامتيازات المادية والمعنوية ومن ذلك الشيخ خيون العبيد الذي استلم إدارة سلطة مدينة الناصرية من قوات الاحتلال البريطاني وبهذا أصبح للشيخ (خيون) من اسمه نصيب. في بدايات التجهيز والتخطيط للاندلاع (ثورة العشريين العراقية) وذلك في عام 1920م حاول الشيخ خيون العبيد (التخذيل) عن مقاومة المحتل وتسبب في البداية في تأخير الإعلان عن الثورة لمعارضته لها. وعندما أشتهر عن الشيخ خيون العبيد بأنه (يساير الإنجليز) بمعنى أنه يواليهم، أرسل المرجع الشيعي كاظم الطبطبائي رسائل إلى شيوخ ورؤساء الناصرية يطلب منهم أن يمنعوا الشيخ خيون من مسايرة الإنجليز وكذلك إرسال عدة رسائل خاصة للشيخ خيون يأمره بالمشاركة هو وعشيرته في الجهاد.

 دحر الثورات العربية بأيدي عربية

 بمناسبة الحديث في الفقرة السابقة عن إكمال احتلال العراق من قبل القوات البريطانية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية نجد أنه قبل ذلك بقيل كان الجنود الإنجليزي قد بسطوا سيطرتهم على أرض فلسطين وعندما دخل الجنرال الإنجليزي اللبني القدس كان بصحبته الضابط والجاسوس الخطير لورنس العرب. وما يهمنا هنا أن توماس لورنس كما كان يخطط من القاهرة (التي يحتلها الإنجليزي ويحتلون كذلك بغداد وعدن والخرطوم) كيف يتم تهييج وتجييش العرب السذج للثورة كان سوف يخدم بلاده لاحقا عندما طرح أفكاره لإخماد أي ثورات عربية مضادة محتملة. لهذا نجد لورنس العرب يساهم عام 1929م في الطبعة الرابعة عشرة من الموسوعة البريطانية بكتابة مقال يحمل عنوان (حرب العصابات Guerilla Warfare) وذلك لإعطاء نصائح ليس فقط عن كيفية إقامة الثورات ولكن أيضا عن كيفية التصدي للثورات المضادة من خلال تكتيك توظيف القيادات الفاسدة في الشعب لكي تعمل لصالح الاحتلال وتساهم في التشويش والتشويه لأي مقاومة ضده.

وفي هذا السياق نستوعب تورط الشيخ الليبي الشارف الغرياني في العمالة للاحتلال الإيطالي وكذلك انزلاق شيخ العشيرة العراقي خيون العبيد في التخذيل والتثبيط من اندلاع ثورة العشرين ضد الإنجليز. وبما إننا في سياق الاحتلال البريطاني لأرض فلسطين الذي ساهم فيه لورنس العرب فكما هو معلوم حاول الشيخ السوري عز الدين القسام الجهاد ضد تدنيس القدس ولكنه استشهد وعندما تولى مفتي القدس الحاج أمين الحسيني محاولة استمرار مسيرة المقاومة والنضال نجد أن سلطات الاحتلال حركت بعض القيادات الفاسدة في الشعب الفلسطيني مثل رئيس بلدية القدس راغب النشاشيبي. في البداية حاول العميل الإنجليزي راغب النشاشيبي إقناع الفصائل الفلسطينية بقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود وشن حملة شعواء ضد مفتي القدس واتهمه بالتطرف ولاحقا أنتقل إلى تشويه سمعة الثورة العربية الفلسطينية (الثورة الكبرى عام 1936م) باتهامها بالإرهاب وارتكاب المجاز. ولأن الانزلاق في وهدة العمالة قد يقود لمزيد من الخيانة الصريحة لهذا تورط بعض عائلة النشاشيبي وبالأخص فخري النشاشيبي (ابن شقيق راغب النشاشيبي) في ضرب الثورة من خلال تنظيم مظاهرات ضدها ولاحقا القيام بتشكيل تنظيم مسلح يدعى (فصائل السلام) تم تسليحها ودعمها ماليا من قبل الاحتلال. وذلك لكي تقوم فصائل الحرب تلك بشكل أثيم بملاحقة ومحاربة الثوار بل هاجمت القرى المؤيدة للثوار واعتقلت وقتلت بعض الثوار وسجنت البعض الآخر منهم أو سلمتهم للاحتلال الإنجليزي في إطار التنسيق الأمني البغيض في القديم والحديث.

 وبنهاية الفقرة السابقة نصل إلى مرحلة خطرة في ملف التخذيل المفضي إلى التخوين فبعد أن كان الاحتلال الأجنبي يجد من يدافع عنه من أبناء جلدتنا بارتكاب خطيئة التخذيل عن المقاومة وتهوين التعامل والتقبل للاحتلال إذا بنا نصل للقاع في العمالة من خلال المشاركة مع العدو في حرب الثوار وقتال المناضلين كما لاحظنا في حالة عمالة بعض أعضاء آل النشاشيبي. والأخطر من ذلك أن تقوم بعض الأنظمة العربية نفسها في دعم الاحتلال والقتال والتصدي للمقاومة والثورة ضد المحتل ومن أمثلة ذلك أن الثائر العربي البارز أحمد عرابي عندما قام هو والضباط الذين معه في عام 1882م بتدشين الثورة العرابية ضد تدخل الإنجليز والفرنسيين في شؤون مصر السياسية والاقتصادية لم يتعاون معه الخديوي توفيق بل انحاز إلى الإنجليز. وحتى بعد أن قصفت البوارج الحربية البريطانية مدينة الإسكندرية دافع الخديوي توفيق عنهم وقال إن احتلال الانجليز للإسكندرية الغرض منه المحافظة على الأمن وكان من توابع ذلك أن صدرت فتوى شرعية من شيخ الأزهر محمد عليش وبعض مشايخ الأزهر تتهم الخديوي بالخيانة والمروق من الدين لانحيازه إلى الجيش الذي يحارب بلاده.

ونختم بأن تخاذل الخديوي توفيق ساعد في نهاية المطاف في القضاء على وزير الدفاع المصري أحمد عرابي في معركة التل الكبير أمام الإنجليز كما أن تخاذل الشريف فيصل بن الحسين ملك الأردن وسوريا ساهم في القضاء على وزير الدفاع السوري المناضل يوسف العظمة الذي استشهد في معركة ميسلون أمام الجنرال الفرنسي غورو. وقبل ذلك بنصف قرن ساهم التخاذل العربي في اجهاض ثورة الأمير عبدالقادر الجزائري المناهضة للاحتلال الفرنسي للجزائر ومن المحزن أن المعارك الأخيرة التي خاضها الأمير عبدالقادر في مسيرة الجهاد تلك كان يقاتله فيها ملك المغرب سلطان مراكش عبدالرحمن بن هاشم الذي تحالف مع الفرنسيين في القضاء على الثورة الأولى لتحرير الجزائر. وبالفعل صدق المجاهد الكبير مولاي عبدالكريم الخطابي مفجر ثورة الريف المغربي ضد الإسبان والفرنسيين عندما قال وكأنه يصف حال من يتخاذل عن مقاومة المحتل وينتهي به الأمر أن يصبح عميل له، يقول الخطابي (من لم يحمل السلاح ليدافع به عن نفسه، حمله ليدافع به عن غيره).

 قديما حاول البعض منا التشوية والتشنيع والتخذيل من جدوى الثورات العربية الكبرى ضد المحتل الأجنبي ثم مع الزمن زادت تلك الثورات ومن أطلقها وجاهد فيها رفعة ومكانه وخلود الذكر أما من عارضها وحاربها وشوشر عليها فقد احتجنا أن نغوص في مزابل التاريخ لكي نخرج بعض من ذلك التاريخ الأسود والمشين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق