السبت، 29 يونيو 2024

( مع الأدباء في السفر صيفا )

 د/ أحمد بن حامد الغامدي

من عادة بلدياتي الشاعر القدير عبدالرحمن العشماوي أن يقضي جزء من الإجازة الصيفية في ربوع منطقة الباحة وبالتحديد في القرية التي ولد فيها قرية عراء القريبة من ديرتي: قرية الغمدة ومن المصادفات أنه عندما انتقلت أسرته الكريمة للإقامة في مدينة الطائف سكنوا في موقع من حي الشهداء الشمالية قريبا جدا من منزل عائلتي. على كل حال قبل حوالي أسبوع شاهدت للدكتور العشماوي مقطعا قصيرا وهو يبتهج بنزول المطر في منتجع منطقة الشفا بمدينة الطائف وفي ثنايا ذلك المقطع أسترجع أبا أسامة جزء من مقطع من قصيدته البديعة (أيها الطائف) التي جال فيها بين معالم الطائف السياحية مثل الهدا والشفا والرُدّف والدينية مثل مسجد ابن عباس.

من لطائف المصادفات مرة أخرى أن زيارة الشاعر العشماوي (السياحية) لمدينة الطائف في هذه الصيفية تتوافق مع حدث هام وهو الإعلان قبل عدة أشهر عن اختيار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة لمدينة الطائف ضمن (شبكة اليونسكو للمدن المبدعة) وبهذا تكون مدينة الطائف هي أول مدينة سعودية تحظى بهذا التكريم في مجال الأدب. ونظرا لما لهذا التصنيف من قبل اليونيسكو من بريق، أصبحت بعض المدن العالمية تفتخر برفع شعار أنها (مدينة الأدب Literature City) ولهذا أقترح على أهل القرار في محافظة الطائف التوسع في استخدام الشعار الأنيق (الطائف مدينة الأدب) مع الشعار الرقيق (الطائف مدينة الورود). وبعد استعراضي للموقع الإلكتروني الخاص لشبكة اليونيسكو للمدن المبدعة وجدت أن المدن التي تشترك مع مدينة الطائف في خانة (الإبداع الأدبي) هي مدن عريقة لها علاقة بالكتاب بالذات مثل بيروت التي تطبع وبغداد التي تقرأ وجوتنبرج الألمانية مهد المطبعة الحديثة بالإضافة لمدن أخرى لها ارتباط بالأدب من حيث احتضانها لأشهر وأجمل المكتبات مثل براغ ودبلن وسياتل ومانشيستر وميلبورن. وفيما يخص مدينة الطائف صحيح أن اليونيسكو بررت اختيارها لمدينتي الحبيبة التي ولدت فيها وأزورها حاليا، بأن الطائف تحوي مكتبة مسجد ابن عباس والتي هي أقدم مكتبة في المملكة ومع ذلك ركزت اليونيسكو كثيرا على ارتباط الطائف بالشعر والأدب من خلال (سوق عكاظ).

في صيف عام 1396 هجري وأنا طفل صغير في الخامسة من عمري لم أكن أعلم أنني وأنا في حي الشهداء الشمالية كان المشهد الأدبي لمدينة الطائف يشهد حدثا شعريا بارزا في حي قروى وبالتحديد في نادي الطائف الأدبي الذي أُنشئ قبل ذلك بعام واحد فقط. في تلك الأمسية الأدبية استضاف نادي الطائف الأدبي الشاعر الكبير غازي القصيبي لكي يلقي محاضرته الأدبية (هل للشعر مكان في القرن العشرين) وربما تأخر الجواب الحاسم على هذا التساؤل منذ عام 1976م زمن المحاضرة وحتى عام 2023م زمن الإعلان عن اختيار الطائف المأنوس من قبل اليونيسكو كمدينة مبدعة للأدب. نعم للشعر مكان في القرن العشرين بدلالة إعادة أحياء سوق عكاظ في عام 1428 هـ ومساهمة هذا الحدث الأدبي البارز في وضع مدينة الطائف حرفيا على الخريطة العالمية للأدب.

ما أريد الوصول له أنه في القديم كما في الحديث كان للشعر والشعراء دور أساسي وحاسم في المكانة الأدبية لمدينة الطائف وبالذات لارتباطها بسوق عكاظ الذي كان يستقطب فحول الشعراء مثل النابغة الذبياني والأعشى وعمرو بن كلثوم ولبيد بن ربيعة والخنساء للسفر والتجمع في مدينة الأدب. وإن كان من عادة الشعراء في الجاهلية السفر والترحال لسوق عكاظ قبل بداية موسم الحج ففي السنوات الأخيرة أصبح من عادة (الشعراء الجدد) السفر والترحال إلى سوق عكاظ بعد موسم الحج. لعدة سنوات أقيمت فعاليات (ملتقى سوق عكاظ) غالبا في فصل الصيف حيث يفد إلى مدينة الطائف عدد من الشعراء من مختلف الدول العربية للتنافس على جائزة عكاظ الدولية للشعر العربي ومن ثم استحقاق الحصول على لقب (شاعر عكاظ).

وبمناسبة الحديث عن المثلث الذهبي (الأدب والطائف والصيف) ربما من الملائم الإشارة إلى ظاهرة صيفية اختصت بها الطائف قديما عززت بصورة ما (الحراك الأدبي) لمدينة الطائف أثناء الصيف. قبل قرن من الزمان وبالتحديد في صيف عام 1343 هـ بدأ الملك عبدالعزيز عادة اتخاذ عروس المصائف مدينة الطائف كمصيف له وللملوك من بعده ولاحقا كانت الوزارات والإدارات الحكومية تنتدب موظفيها للعمل في فترة الصيف في مدينة الطائف. وكان على هامش هذا الحراك والترحال الإداري ينتقل عدد لا بأس به من الأدباء والشعراء لمدينة الطائف أثناء موسم الصيف ويصحبهم عدد كبير من القضاة والمشائخ والعلماء وحتى الآن ما زالت الطائف هي مصيف هيئة كبار العلماء. ونظرا للعدد الضخم من الأشخاص الذين يفدون لمدينة الطائف من جهة الشرق ما زالت ذاكرة الطفولة لدي تتذكر تهامسنا مع أولاد الحارة بأن (الشروق) وصلوا وكذلك ذاكرة أن عددا كبيرا من المنازل ومنها منزل الوالد حفظه الله كانت تأجر الشقق على فترة لأشخاص مختلفين: تأجير لسنة دراسية وتأجير للإجازة صيفية.

على كل حال ما يهمنا هنا فيما يتعلق بـ (مع الأدباء في الصيف والسفر) هو محاولة سرد بعض الأمثلة لدور الصيف في استقطاب بعض مشاهير الأدباء للسفر لمدينة الطائف ولعل من أبرزهم الشاعر الموسوعي عبدالله بن خميس والذي كان يتردد على الطائف أثناء انتقال الحكومة للمقر الصيفي حيث كان رحمة الله لفترة من الزمن يشغل منصب وكيل وزارة المواصلات هذا وقد تحدثت الروائية أميمة الخميس عن ذكرياتها مع والدها وأسرتها في مصيفهم بالطائف. وقبل أن نغادر مدينة الطائف لغيرها من مدن المصايف نود أن نذكر أنه منذ زمن الجاهلية وصدر الإسلام كان من عادة أعيان مكة أن يقضوا شهور الصيف في الطائف وقد ورد في كتاب أخبار مكة للأزرقي (أن الطائف مصيف أهل مكة) كما جاء في كتاب معجم البلدان للحموي أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول (أغبط الناس عيشا عبدي سعد: يتربع جده ويتقيظ الطائف ويشتو بمكة). وما دام أننا في وارد قصص الشعراء مع الصيف وزهرة المصائف الطائف فيمكن أن نشير للقصة التي حدثت للشاعر القرشي عمر بن أبي ربيعة عندما وقع في غرام فتاة تدعى الثريا فعندما كانت تصيف بالطائف أرادت أن تعبث به فأرسلت له رسالة إلى مكة تزعم فيها أنها عليلة ومريضه لتعلم مدى محبته لها وهنا سارع وأمتطى شاعرنا جواده وشرع في سفر شاق يتسلق فيها جبال الطائف.

ونختم الحديث في هذه النقطة بأنه في العصر الحديث ما زال أهل مكة وجدة يترددون خلال الصيف على الطائف وما يهمنا هنا هو ذكر خبر الأدباء والشعراء من أهل الحجاز مع ظاهرة الاصطياف بالطائف فبعضهم أصلا كان يملك منزل ومقر صيفي له بالطائف مثل الشاعر أحمد الغزاوي (منحه الملك عبدالعزيز لقب: شاعر جلالة الملك) والشاعر حسين عرب أول وزير للحج والأديب الكبير أحمد السباعي. ويضاف إلى ذلك أن بقية كبار أدباء الحجاز كانوا كثيرا ما يترددون على مدينة الطائف سواء للاستمتاع بأجوائها العليلة أو زيارة مكتبة وجيه الطائف الأديب محمد سعيد كمال ونذكر من أولئك القمم أحمد قنديل وحمزة شحاته وطاهر زمخشري ومحمد حسن عواد وغيرهم كثير.

السياحة الخارجية للأدباء العرب

في عام 1927م انعقد محفل أدبي ضخم لتكريم شاعر النيل أحمد شوقي وفي ذلك الجمع تقدم حافظ إبراهيم جموع الشعراء لمبايعة شوقي ومنحه لقب أمير الشعراء وعندما قال حافظ إبراهيم في مطلع قصيدته المشهورة (وهذه وفود الشرق قد بايعت معي) كان يقصد حرفيا مشاركة كبار الشعراء وأقطاب البيان من مصر وسوريا ولبنان والعراق والمغرب واليمن وحتى البحرين. وفي نهاية الحفل الذي استمر لعدة أيام ألقى أحمد شوقي قصيدة يشكر فيها الشعراء الذين اجتمعوا في ذلك المحفل (عكاظ القاهرة) لتكريمه فقال:

يا عكاظاً تألف الشرق فيه    من فلسطينه إلى بغدانه

افتقدنا الحجاز فيه فلم         نعثر على قسه ولا سحبانه

للأسف حتى منتصف القرن العشرين لم يكن هنالك أي تواجد ملموس لأدباء الحجاز أو نجد على ساحة الأدب العربي ولهذا لم يشارك أحد من شعراء الحجاز في تكريم شوقي الذي أشار لخلو ساحة الأدب الجديد من قس بن ساعدة أو سحبان وائل. ولكن الأمر تغير بعد ذلك وأصبح العديد من أدباء الحجاز يتوافدون بشكل مكثف ومتواصل على مدينة القاهرة لدرجة أن شاعر الحجاز حمزة شحاته أقام فيها العقود الأخيرة من حياته وتوفي بها وكذلك ابن مكة ورائد النقد الأدبي عبدالله عبدالجبار كان له في فترة الخمسينيات صالون أدبي في القاهرة. ودون الدخول في التفاصيل نجد أن الغالبية العظمى من أدباء وشعراء الحجاز سافروا إلى مدينة القاهرة خصوصا خلال إجازة الصيف لدرجة أنه كانت تعقد بينهم منتديات أدبية واجتماعات فكرية في منازل بعضهم في القاهرة ومن هؤلاء أحمد قنديل وعزيز ضياء وأحمد عبدالغفور عطار وطاهر زمخشري ومحمد سرور الصبان ومحمد حسن فقي وعبدالقدوس الأنصاري ومحمد حسن عواد وحسن عبدالله القرشي ومحمد سعيد العامودي.

اللطيف في الأمر أن (التوقيت الصيفي) لسفر هؤلاء الكوكبة من الأدباء إلى القاهرة قد يضعف من كفاءة التلاقح الأدبي وتعزيز وشائج التعارف الاجتماعي بين أدباء الحجاز وأدباء القاهرة لسبب بسيط هو أن أغلب رجال الفكر والأدب من رموز القاهرة المحروسة لديهم هم كذلك عادة قضاء الصيف في خارج مدينتهم الأصلية. ونحن نتحدث هنا عن عادة أعيان القاهرة والأقاليم الأخرى في الانتقال إلى مدينة الإسكندرية بالذات للاستجمام خلال الإجازة الصيفية. والأدباء في ذلك على دين ملوكهم ومنقادين لسلوم وأعراف مجتمعهم فهذا مثلا الروائي النوبلي نجيب محفوظ يتعجب من أن هناك أحدا لا يذهب إلى الإسكندرية ولهذا كان كثيرا ما يتردد عليها في شبابه ولاحقا بعد أن تزوج من سيدة (إسكندرانية) أصبح طوال عمره يتردد في كل صيف على شقته في حي سان ستيفانو الراقي في شرق الإسكندرية. وكعادة نجيب محفوظ على التردد على المقاهي وتحويلها إلى منتديات وبؤر فكرية ولهذا تحول مقهى كازينو سان ستيفانو القريب من شقته إلى مركز تجمع أدباء الإسكندرية. ولاحقا عندما توثقت العلاقة بين نجيب محفوظ وبين توفيق الحكيم تم نقل موقع المنتدى الأدبي إلى (ركن الحكيم) وهو مقهى كازينو (بيترو) في منطقة سيدي بشر الشعبية والتي تقع بها شقة توفيق الحكيم الأقل فخامة لتقشف الحكيم المشهور. والمهم هنا أنه ولسنوات طويلة وفي فصل الصيف كان يجتمع أشهر وأبرز أدباء القاهرة في مقهى بيترو السكندري الذي كانت تدور فيه لمساجلات الأدبية والنقاشات الفكرية بين رموز الثقافة المصرية مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وثروت أباظة وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي وعبدالحميد جودة السحار ومحمد تيمور.

ولعل القارئ الكريم ربما انتبه إلى أن كل هذه الأسماء من أدباء مصر هم من أصحاب حرفة كتابة الرواية والقصة القصيرة أما أبرز مثال لسفر الشعراء إلى الإسكندرية لقضاء الإجازة الصيفية فيمكن أن نستشهد عليه بأن أمير الشعراء أحمد شوقي كان من عادته السنوية الانتقال أثناء أشهر الصيف من قصره العامر على ضفاف النيل في القاهرة الذي أطلق عليها (كرمة ابن هانئ) إلى بيته الصغير في الإسكندرية في منطقة الإبراهيمية الذي سماه (درة الغواص). وبمناسبة مرور خبر وعلاقة أحمد شوقي بالسفر خلال الصيف لعل من الملائم الإشارة إلى ما ذكره ابنه حسين في كتابه الماتع (أبي شوقي) عن ذكرياته مع والده الشاعر الكبير ومن ذلك قوله عن والده (أنه رغب عن المصيف في أوروبا وصار يتردد على لبنان) وكذلك في ذلك الكتاب يذكر حسين أحمد شوقي صورا من محبة اللبنانيين لأمير الشعراء وكيف أنهم أطلقوا اسمه على أحد الشوارع الكبيرة في بيروت. لقد أطلق شوقي على بيروت لقب (جارة الوادي) وأطلق عليها نزار قباني لقب (ست الدنيا) ولعله تستحق كذلك لقب (حاضنة الشعراء) ففي الواقع لا توجد مدينة عربية مثل بيروت ارتبط اسمها بالشعراء من كل البلدان ولهذا هي بحق (مدينة الأدب) حيث إنها مثل الطائف ضمن قائمة (شبكة اليونيسكو للمدن المبدعة). فبالإضافة للشاعر المصري أحمد شوقي والشاعر السوري نزار قباني تردد علي بيروت أبرز الشعراء العرب المعاصرين فمن العراق بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والجواهري ومن فلسطين محمود درويش ومن السعودية عبدالله بن إدريس وحمد الحجي وعبدالعزيز خوجة ومن اليمن عبدالعزيز المقالح ومن السودان محمد الفيتوري.

وبالمعذرة من القارئ الكريم لو عدت لمقولة حسين أحمد شوقي عن والده أنه (رغب عن المصيف في أوروبا) ولهذا أود أن أختم هذا الترحال والتجوال مع الأدباء في الصيف أن القلة منهم كانت تفضل قضاء الإجازة الصيفية فقط في أوروبا. وطبعا ليس من المستغرب أن نجد أن من درس في الغرب أصيب بهذه العادة فهذا طه حسين مثلا من كثرة تردده السنوي على فرنسا في موسم الصيف يؤلف عدة كتب عن خواطره وذكرياته في باريس من مثل كتاب (رحلة الربيع والصيف) وكتاب (في الصيف). وعلى نفس النسق نجد الدكاترة زكي مبارك بعد تخرجه من جامعة السربون كثيرا ما يكرر السفر في الصيف إلى الديار الفرنسية ثم لاحقا يوثق مشاهداته في كتاب (ذكريات باريس).

وفي الختام وبعد أن استعرضنا أمثلة متعددة لمشاهير ورواد الأدب العربي وارتباطهم برحلة السفر أثناء الصيف، لا بد في نهاية هذا المشوار أن نشير بصورة خاطفة لبعض الأدباء الذين فضلوا (رحلة الفكر) على رحلة السفر واكتفوا بمطالعة الكتب على الارتحال واختراق الآفاق. ومن ذلك ولا شك العملاق عباس محمود العقاد والذي أشتهر بزهده عن السفر وبمقولته المشهورة عن مكتبته (لقد طفت العالم من مكاني) وكذلك بقوله (إنني لو لا رياضة المشي التي تعودتها لما خطر لي أن أبرح المنزل أياما بل أسابيع). ومع ذلك كان العقاد وإلى حد ما نجيب محفوظ الكاره للسفر في أواخر حياته، كانوا هم الشواذ في قاعدة علاقة الأديب مع السياحة والسفر والتي لخصها الكاتب المصري الفريد أنور الجندي عندما سطر ملاحظته الحكيمة (أدوات الكاتب الحقيقة هي مصادرة ومراجعة .. وأبرز أدوات الكاتب المعنوية ثلاث: القراءة والتجربة والرحلة).

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق