أرض (الفردوس المفقود ) ليست فقط الاندلس
د/ أحمد بن حامد الغامدي
(ما ينسى لا يؤسف له) عبارة قاسية لكنها
واقعية فكما أن ما هو بعيد عن العين بعيد عن القلب فكذلك كل ما هو بعيد عن الذاكرة
بعيد عن العاطفة. جال ببالي هذا الأمر بعد زيارتي الأخيرة لأرض الأساطير والتاريخ
في سمرقند وطشكند فحين كانت شعوب الجمهوريات الاسلامية في وسط أسيا بعيده عن العين
خلف أسوار الستار الحديدي الشيوعي كانت للأسف منسية ومغيبة من الوعى العربي
والاسلامي. وبفضل من الله تغير هذا الأمر كثيرا فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي المهين
قبل حوال عقدين ونصف من الزمن (تذكر) العرب أخوتهم في الاسلام في بلاد ما وراء
النهر وتوثقت مرة أخرى أواصر الاخوة الاسلامية بيننا وبينهم بعد أن زال الكبت
والطغيان (جزئيا على الاقل) عن اشقائنا في تركستان الغربية وتجددت قنوات التواصل
معهم. وإن كان في المقابل الحال على ما هو علية مع أخوتنا في الدين في تركستان
الشرقية (أقليم سنجان الصيني) الذين يتعرضون لجرائم النظام الشيوعي الصيني
الممزوجة بالنسيان والتجاهل التام من الحكومات والشعوب الاسلامية على حدا سواء.
للمصلحة الاستراتيجية العامة ينبغي أن
تبقى ذكرى وأخبار الشعوب الاسلامية المنسية حاضرة ومتأججة في الذاكرة لا لشيء إلا
لكي نعتبر ونستفيد من الحكمة الفرنسية البليغة التي تقول (الذي له ذاكرة سيئة يكرر
نفس الاخطاء). إذا علمنا أن بلدان وشعوب حكمها الاسلام لقرون زمنية طويلة (استقر
الاسلام في الاندلس لمدة ثمانية قرون وأطول من تلك الفترة في الهند وسيطر
العثمانيون على اليونان لمدة أربعة قرون) ثم أنحسر عن تلك البلدان حكم الاسلام
وأصبح حال الشعب المسلم فيها كما قال المتنبي (غريب الوجه واليد واللسان). ولذا
العاقل من اتعظ بغيرة وحرص ألا يكرر الاخطاء مرة ثانية عن طريق الاحتراب الداخلي
والوقوع في مخططات الاعداء التي قد تورث تفجع الشاعر الاسلامي الكبير محمود غنيم
عندما تأسف على حال الاسلام والمسلمين:
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يحكمنا شعب ملكناهُ
غزوة روما ومعركة موسكو .. التاريخ المنسي
أعجوبة الفتوحات الاسلامية لا تقف عند
سرعة انتشارها ولكن الأعظم من ذلك كان ذاك الاتساع الهائل للرقعة الجغرافية التي
امتدت عليها حتى وإن كان الحكم الاسلامي قد أنحسر لاحقا عن بعضها. جميعنا تقريبا نعلم
أن الفتوحات الاسلامية في صورتها العثمانية وصلت إلى قلب أوروبا عندما توقفت تحت
أسوار مدينة فيينا عاصمة النمسا ولكن كم منا يعلم أن محاولات الفتح الاسلام تمكنت
يوما ما من التاريخ من إقتحام عواصم دولية أخرى هامة مثل موسكو وروما وأثينا. ففي
عهد السلطان التركي سليم الثاني في نهاية القرن السادس عشر دخل العثمانيون مدينة
موسكو بعد معركة دامية نتج عنها حرق قصر الكريملين وعدد من أحياء المدينة. وعلى ذكر سلاطين الاتراك فإن السلطان محمد الفاتح له كامل التقدير حتى وإن كان قد فشل في أن يضيف لنفسه لقب فاتح روما بعد فتحه للقسطنطينية حيث أنه
كان قد قام بإرسال حملة عسكرية احتلت جنوب الساحل الايطالي إلا أن السلطان لم
يتمكن من أن يبر بقسمه بأن يربط حصانه في كنيسة القديس بطرس بروما وسرعان ما
انسحب الجيش التركي مباشرة بعد وفاة الغازي محمد الفاتح. ومع ذلك ضاع من الذاكرة
الاسلامية أن الجيوش العربية ممثلة في دولة الاغالبة (التي كانت تحكم تونس وأغلب
مناطق المغرب العربي في القرن الثالث الهجري) تمكنت من غزو روما قبل محاولة
العثمانيين الفاشلة بستة قرون كاملة. لقد تمكنت الجيوش العربية في عام 232 هجري
ليس فقط من غزو مدينة روما بل تمكنوا من أن يعودوا بالغنائم التي أخذوها من كنيسة القديس بولس ثاني أهم
كنيسة في روما وعندما كررت الجيوش العربية غزو روما للمرة الثانية عام 256 أضطر البابا يوحنا الثامن أن يقبل أن يدفع
الجزية ليحول دون دخول الجيش العربي للمدينة المقدسة وحاضرة الفاتيكان.
كما هو معلوم من العلوم السياسية
والعسكرية قد تكون بعض التحركات القتالية هي فقط لإظهار النفوذ العسكري وليس بهدف
الاقامة الدائمة والفتح المستقر وهذا ربما يفسر عدم استدامة الفتح الاسلامي لمدن
كبرى مثل موسكو وروما. ولكن في المقابل استمر احتلال الفتح الاسلامي لعاصمة
أوروبية هامة قرون طويلة وهذا ما حصل لسيطرة الخلافة العثمانية على الجزر
اليونانية وعاصمتها أثينا لمدة قاربت الاربع قرون من الزمن. وقبل أن نغادر ذكر
العواصم الاوروبية الكبرى وعلاقتها بالفتح الاسلامي تجدر الإشارة إلى أن مدينة
باريس كانت معرضه لأن تصلها طلائع الجيوش الأموية لو انتصر القائد المجاهد
عبدالرحمن الغافقي في معركة بلاط الشهداء حيث لم تكن تبعد باريس إلا أقل من 300
كيلومتر عن مدينة بواتييه الفرنسية التي تقع عل سهل وادي اللوار والذي يحقق الوصول
السريع لمدينة باريس. وإذا كانت معركة بلاط الشهداء حصلت في عام 114 هجريه فبعد
ذلك بحوالي نصف قرن فقط عاش في مدينة لندن الملك البريطاني أوفا ركس Offa
Rex الذي يعتبر أحد ألغاز التاريخ حيث توجد
(أسطورة) تقول بأنه كان قد أعتنق دين الاسلام بدلالة أنه كان يصدر ويسك قطع نقود
ذهبية عليها أسمه كما كتب عليها باللغة العربية كلمة الشهادة وجزء من أيه قرآنية
كريمة.
قد تكون مصادفة وجود كلمات عربية على عملة
نقود بريطانية لا تعني على الاطلاق وجود أثر حقيقي لدين الاسلام على عاصمة مملكة
الانجليز ولكن في المقابل عندما نجد دول هي حاليا خارج نطاق الدول الاسلامية
ونجد أن اسماء عواصمها هي عبارات وكلمات عربية فهذا ولا شك يدل بجلاء أنه كان
للإسلام تأثير عميق في تاريخ هذه الدول. من ذلك مثلا أن عاصمة دولة تنزانيا
الافريقية اسمها هكذا (دار السلام) بينما اسم العاصمة الفلبينية مانيلا هي تحوير
للكلمة العربية (آمان الله) وكلا هاتين الدولتين وصلهما الاسلام وانتشر عن طريق
التجار العرب ففي الفلبين تأسست مملكة إسلامية في القرن التاسع الهجري كان ملوكها
من العرب الاشراف بينما عراقة الحضور العربي لا تقل أصالة في تنزانيا وعاصمتها دار
السلام التي هاجر إليها العرب منذ قرون الاسلام الاولى حتى حكمها آخر سلاطين عمان
قبل قرنين من الزمن.
الفردوس المفقود .. الاندلس وأخواتها
يا سادة فيما سبق تطرق الحديث لكبرى
الحواضر المدنية والعواصم الدولية التي وصلها حكم الاسلام وإن كان لفترات زمنية
قصيرة وفيما تبقى من المقال سوف نشير (لقائمة الدول) التي حكمها الاسلام لفترات من
الزمن تتفاوت في طولها ما بين العقود المفردة والقرون المتعددة. سبق أن ذكرنا بأن
جيوش دولة الاغالبة اقتحمت روما وفي نفس هذه الفترة الزمنية تم تحويل أسم البحر
الابيض المتوسط من (بحر الروم) إلى (البحيرة الاسلامية) حيث تمكن أمراء الاغالبة
من بناء اسطول بحري قوي ساعد في استكمال السيطرة الاسلامية على ثلاثة أرباع البحر
الابيض المتوسط ليستمر الحكم الاسلامي لجزر قبرص وصقلية ومالطا وكريت لقرون
طويلة. ولإكمال الطوق البحري حكمت الجيوش
العربية معظم سواحل الريفيرا الايطالية وجنوب البر الايطالي لمدة ثلاثين سنة بينما
توغل المسلمون لسنوات طويلة في أغلب أراضي ومدن جنوب فرنسا وطبعا حكم الاسلام
لقرون طويلة السواحل الاسبانية والبرتغالية.
هذا ما كان في جنوب أوروبا أما
قصة الفتح الاسلام في شرق أوروبا فيكفي أن نعرف أنه في التاريخ الاسلامي في فترة
الخلافة العباسية كان مصطلح (أرض الثغور) يقصد بها غالبا البلاد الاسلامية في أقصى
الشمال الشرقي مثل دول جورجيا وأرمينيا وشبه جزيرة القرم بل كانت توجد مملكة
اسلامية مستقلة في سيبيريا الروسية. أما قمة ازدهار توسع الحكم الاسلامي في القارة
الاوروبية فكان بلا منازع زمن الخلافة العثمانية حيث استقر الحكم العثماني لعقود
طويلة وربما لقرون على أغلب دول أوروبا الشرقية مثل مقدونيا ورومانيا وبلغاريا
وكرواتيا وصربيا والمجر بالإضافة لليونان كما سبق الاشارة إليه. أما الحال في شمال
اوروبا فتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن توغل الجيوش العربية وصل بها للسيطرة
على الاراضي الملاصقة لنهر الرون في سويسرا وصولا إلى مشارف بحيرة جنيف. في حين أن
الامر الاكثر شهرة للجميع أن الجيوش العثمانية قد غزت وحاصرت مدينة فيينا مرتين
وموقع معسكر الجيش التركي ما زال معروفا حتى اليوم وعندما زرته بنفسي وجدته في منتصف مدينة فيينا بعد أن توسعت كثيرا خلال القرون الماضية مما يجوز لنا القول
بأن الاتراك بالفعل قد أحتلوا أكثر من نصف مدينة فيينا الحالية.
وكما تم تسمية البحر الابيض المتوسط بالبحيرة الاسلامية نجد أن شرق
أفريقيا أو دول القرن الافريقي سميت في حين من الدهر (بدول الطراز الاسلامي) لوجود
عدد من السلطنات والامارات الاسلامية ذات الاصول العربية التي شكلت المعالم
الحضارية واللغوية لتك المنطقة (اللغة السواحيلية هي خليط من اللغة العربية واللغة
الافريقية). وبالرغم من تجذر الوجود الاسلامي لعدة قرون في شرق افريقيا إلا أنه
للأسف وعلى العكس من استمرار الحكم الاسلامي في شمال وغرب أفريقيا انحسر حكم
الاسلام بشكل غريب عن بعض دول شرق افريقيا مثل الحبشة واريتيريا وكينيا وتنزانيا
وموزمبيق كذلك جزيرة مدغشقر ولهذا لا عجب أن يتفلت الحكم الاسلامي أيضا من دول وسط
افريقيا مثل أوغندا والكاميرون والتي بدورها كانت تحت المظلة السياسية الاسلامية
لفترة من الزمن.
وختاما بعد هذا التطواف شرقا وغربا فالأيام دول يتذبذب خلالها حال
الاسلام وأهله ما بين النصر والهزيمة والقوة والضعف فإذا كان حال أهل الاسلام الآن
في أدنى القاع من الذلة والمهانة فإن وعد الله ناجز لا محالة بإعادة النصر
والتمكين لهذا الدين. وأن شاء الله تتحقق النبوة الشريفة أنه (لا يبقى بيت مدر ولا
شجر إلا دخله الاسلام بعز عزيز أو ذل ذليل) والوعد الرباني للصادق المصدوق (إن
الله زوى لي الارض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سوف يبلغ ملكها ما زوى لي
منها). بل أن بعض الاحاديث الشريفة عن أحوال آخر الزمان تشير لفتح روما (وإعادة)
فتح القسطنطينية (إسطنبول) بالتكبير فقط وهو ما يشير بأن سنة الله جارية في أن
يكسب الاسلام بعض البقاع ويخسر بعضها علما بأننا بالفعل قد سبق لنا وأن خسرنا
اسطنبول عندما تعرضت في نهاية الحرب العالمية الاولى للاحتلال الانجليزي والفرنسي. والجدير بالذكر أن دخول الحلفاء الاوروبيون لعاصمة الخلافة الاسلامية اسطنبول كان مصحوبا
باستعراض عسكري لطوابير جنودهم وقطعهم البحرية للمبالغة في الاهانة المعنوية للامة
الاسلامية المنهزمة وهو ما لم يحصل مثله عند سقوط دمشق أو القاهرة أو بغداد تحت
حكم الاعداء الغربيين. بقي أن نقول أن كل الدول المذكورة بالأعلى (باستثناء الهند
وإقليم سنجان الصيني) والتي خرجت من ربقة الاسلام هي إما دول مسيحية خالصة أول دول
ذات جالية مسيحية ساهم الاستعمار الغربي في انحسار حكم الاسلام عنها ولذا غالب
مصائبنا في الماضي والحاضر والمستقبل من (الروم ذات القرون) وفهم العدو فأحذرهم.
جميل جداً ابا عبدالرحمن،، أبدعت كما هي عادتك
ردحذفما شاء الله جزاكم الله خيرا دكتورنا الغالي بروفيسور احمد الغامدي
ردحذفجزاكم الله خيرا
ردحذفكتبت وأبدعت