الأحد، 9 أكتوبر 2016

( رحلة إلى سمرقند .. أرض الاساطير )

إطلالة على ساحة المدارس الاسلامية (ريجستان) في سمرقند

د/ احمد بن حامد الغامدي

يقول الاديب البرازيلي البارز باولو كويلو (أشهر روائي عالمي معاصر وصاحب رواية الخيميائي) أن الاماكن الساحرة دائما جميلة كما أنها (تستحق التأمل والتفكير الملي بها) وهذا بالضبط ما حصل لي منذ عقود طويلة عندما شاهدت صور ومناظر فن العمارة الاسلامية البديعة في الاندلس وفي المدينة السحرية سمرقند وفي ضريح تاج محل بالهند المزخرف بالنقوش العربية. وبعد أن وفقت بحمد الله بزيارة الاندلس وأيقونة تاج محل شغلت منذ سنوات بالتفكير الحالم بزيارة (بلاد ما وراء النهر) والاطلاع المباشر على فنون العمارة الاسلامية واستحضار عبق التاريخ من خلال المدن الاسلامية ذات الرنين الأخاذ مثل بخارى وسمرقند وخوارزم. وقد كان من فضل الله علي أن تمكنت أخيرا من زيارة جمهورية أوزباكستان الاسلامية في وسط آسيا وهي بلاد ما وراء النهر التاريخية التي تستطيع بكل جدارة أن تفاخر الدنيا كلها بأنها أرض أيقونات مشاهير العلمي الشرعي الاسلامي من مثل الامام البخاري والترمذي والنسائي والبيهقي والدارمي والزمخشري والجرجاني بالإضافة لكوكبة من علماء الطبيعة والفلاسفة الكبار وعلى رأسهم ابن سينا والخوارزمي والبيروني والفارابي وعمر الخيام وأبناء موسى بن شاكر والقائمة تطول وتطول.

وبالرغم من أن أوزباكستان بلاد بالغ الثراء بالمناطق والامكان ذات الاثار الاسلامية وكما أنها تحتوى عشرات الالف من المخطوطات العربية والاسلامية إلا أنني سوف أقصر الحديث في هذا المقال عن (أرض السحر والأساطير) مدينة سمرقند الخالدة. تكمن أهمية مدينة سمرقند قديما بأنها كانت (واسطة العقد) واهم محطة في منتصف طريق الحرير ولذا لا غرابة  أن يحرص  على زيارتها ووصفها مشاهير المؤرخين والرحالة من مختلف الجنسيات فقد مر بها كلا من ابن بطوطة واليعقوبي الذي قال عنها (ليس على وجه الأرض مدينة أطيب ولا أحسن من سمرقند) كما مر عليها الرحالة الايطالي الشهير ماركو بولو وفي العصر الحديث حرص الاديب الامريكي البارز إدغار ألن بو أن يسافر لمدينة سمرقند درة الشرق والذي وصف ماضيها التليد (بأنها ملكة الدنيا وأنها مزهوة على جميع المدن وفي يديها مصائرهن). وعلى ذكر الادب وارتباطه بسمرقند لعل من اللافت أن الاتجاه الحديث لبعض الادباء والروائيين العرب بتوظيف واستخدام اسم مدينة سمرقند في عناوين رواياتهم وجعلها مسرح أحداث قصصهم كما نشاهده في رواية سمرقند للروائي اللبناني أمين معلوف ورواية قمر على سمرقند للأديب المصري محمد المنسي قنديل وكذلك الكاتب الفلسطيني أسعد الاسعد الذي ألف روايته الجديدة المسماه: هناك في سمرقند.

كما كان توظيف اسم سمرقند في عناوين الروايات الادبية الحديثة دلالة ثراء (عالم السحر والخيال) الذي تشعه مدينة سمرقند كذلك نجد أن هذه المدينة في القديم ارتبط تاريخها بالعديد من الاحداث والاساطير التي تعكس بدورها ثراء وحيوية تاريخ هذه المدينة الساحرة . وطبعا لن نتوقف كثيرا عند بعض الاخبار والاساطير التي هي من نوع الخرافات الفجة من مثل الاسطورة الشعبية التي يتداولها سكان سمرقند من أن مدينتهم بنيت في حديقة جنة عدن أو الاسطورة الخرافية الأخرى التي ساقها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بأن مدينة سمرقند بناها في الاصل العرب بدلالة أن اسمها (سمرقند) يعني (مدينة شمر) نسبة إلى شمر أبو كرب الملك العربي القديم. عوضا عن ذكر هذه الخرافات المستبعدة سوف نذكر بشكل مختصر أبرز الاساطير والقصص الغريبة التي ارتبطت بتاريخ سمرقند مع مراعاة تتبع التسلسل التاريخي في السرد.

وأقدم أسطورة مقبولة في تاريخ سمرقند تلك التي تذكر أن الاسكندر الأكبر المقدوني بعد احتلاله لمدن أسيا الوسطى في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد اقام لجنوده مستوطنه عسكرية في سمرقند (عرفت لاحقا باسم قلعة أفروسياب) وفيها حصلت حادثة محزنة للإسكندر تمثلت في قيامه وهو مخمور بالشجار مع أحد أعز أصدقائه وهو القائد كليتوس (الذي سبق وأن أنقذ حياة الاسكندر في إحدى المعارك) ونتج عن هذا الخصام قيام الاسكندر بقتل صديقة بالرمح وعندما استفاق من سكرته ندم ندما شديدا وهاله ما اقترفت يداه.

في التاريخ الاسلام عرف (المصحف الامام) بأنه المصحف الذي احتفظ به الخليفة عثمان بن عفان لنفسه ونسخ منه بقية المصاحف التي وزعت على اقطار العالم الاسلامي وتقول (الاسطورة) أن هذا المصحف الامام هو الذي عندما حصلت فاجعة قتل الخليفة عثمان سال دمه عليه. وبعد مقتل الخليفة عثمان عام 35 هجري تذكر كتب التاريخ أخبار متعددة لانتقال هذه المصحف من بلد إلى آخر وهنا تدخل الاسطورة مرة ثانية على الخط حيث يزعم أن تيمورلنك عندما غزا العالم الاسلامي استولى على (المصحف الامام) ونقله إلى عاصمة مملكته مدينة سمرقند حيث ظل فيها لقرون طويلة إلى أن تم نقله بعدها لمدينة موسكو (بعد احتلال روسيا القصيرية لدول اسيا الوسطى) ثم نقل أخيرا في بداية القرن العشرين لمدينة طشكند وهو اليوم محاط بدرجة كبيرة من التقديس والاحترام بالرغم من أن الارجح أنه ليس مصحف عثمان الاصلي وإنما هو مصحف أكثر حداثه حيث انه مكتوب بأسلوب خط عربي يختلف عن طريقة الكتابة في صدر الاسلام.

في السنة 57 للهجرة استشهد الصحابي الجليل (قثم بن العباس) ابن عم الرسول وأشبه الناس به والذي شهد الفتح الاسلامي لمدينة سمرقند واستشهد بها ودفن بها. والجدير بالذكر أن مكان دفن الصحابي المجاهد قثم بن العباس أصبح مقبرة كبيرة أطلق عليها أسم (شاه زنده) والتي تعني الملك الحي حيث أن (الاسطورة) تقول أن بعد أن قتل وقطع رأس قثم بن العباس في المعركة ظل حيا وحمل رأسه وذهب به إلى بئر عميق وهو حتى الان ما زال حيا ومن هنا سمي موضع قبره شاه زنده/ الملك الحي.

وعلى ذكر الفتح الاسلامي لمدينة سمرقند يبدو أن استتباب الحكم الاسلامي لها لم يستقر تماما ولهذا تذكر كتب التاريخ العربية أكثر من سنة تم فيها (فتح) سمرقند ولكن ما يهمنا هنا فيما يتعلق (بالأساطير) هي تلك القصة الرائعة الجمال (وإن كانت غير صحيحة على الاغلب) التي رواها الاديب الكبير على الطنطاوي بأسلوبه الاخاذ في كتابه قصص من التاريخ. وتدور هذه القصة أن أهل سمرقند عام 87 للهجرة اشتكوا الفاتح المسلم الكبير قتيبة بن مسلم إلى الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز بأنه فتح مدينتهم سمرقند دون أن يدعوهم إلى الاسلام أو دفع الجزية أو يمهلهم ثلاثة ايام قبل القتال كما هي تعاليم الاسلام في الحرب. وكما هو معروف من تفاصيل تلك القصة المشهورة أن قاضي عمر بن عبدالعزيز حكم لأهل سمرقند أن يخرج عنها الجيش المسلم ثم يؤذنهم قائد جيش المسلم بعد ذلك بالحرب والقتال. وبالرغم من جمال هذه القصة ودلالتها على عدل الاسلام وسماحته إلا أنه توجد فيها ثغرات وتناقضات تاريخية عديدة لا يتسع المجال لسردها ترجح أنها قصة (اسطورية).

من الناحية التاريخية قد ثبت أنه كان لمدينة سمرقند دور اساسي في دخول صناعة الورق إلى الحضارة الاسلامية ومع ذلك لم يخلو هذا الامر من ربطه بقصة مشوقة حيث تقول (الاسطورة) أنه في عام 132 هـ وقعت معركة حربية بالقرب من مدينة سمرقند بين الجيش العربي الفاتح وبين أحد الجيوش الصينية. وكان من غنائم الجيش الاسلامي في هذه المعركة أن تم اسر بعض الجنود الصينيين الذين يعرفون أسرار صناعة الورق وبقية القصة معروفة أن هذه الاسرار والمعرفة التصنيعية انتقلت من سمرقند إلى بغداد والقاهرة واخيرا إلى أوروبا. على كل حال اثبتت بعض الاكتشافات الاثرية أن مدينة سمرقند القديمة كانت تعرف صناعة الورق منذ القرن الثالث الميلادي مما يلقي بظلال من الشك على تلك الاسطورة الورقية.

من أبرز المعالم التاريخية في مدينة سمرقند أنه يقع بضواحيها قبر وضريح الامام البخاري رحمة الله والذي لم يسلم هو الآخر من قصة اسطورية في الغالب أنها غير صحيحة حتى وإن ذكرها عالم مدقق مثل الامام الذهبي في كتابه البارز سير أعلام النبلاء. تقول القصة أنه في عام 464 حصل قحط وجفاف حاد بمدينة سمرقند فاستسقى الناس مرارا فلم يسقوا المطر ولهذا نصح أحد الصالحين قاضي المدينة أن يخرج الناس كلهم إلى قبر الامام البخاري بقرية خرتنك في ضواحي سمرقند ويستسقون الله عند قبره. وهنا نلتقي بالقصة الغرائبية حيث يقول الخبر أنه بعد استشفاع الناس بصاحب القبر أرسل الله السماء بماء ومطر غزير لدرجة أن الناس اقاموا سبعة أيام لا يستطيعون أن يرجعوا إلى مدينة سمرقند من كثرة وغزارة السيل.

ونصل الآن إلى زمن تيمورلنك القائد المغولي الطاغية والذي بالرغم الصورة النمطية الشنيعة عنه نتيجة لسفكه للدماء وتخريب المدن إلا أنه كان في المقابل وبكل تميز عاشق رومانسي ومعماري من الدرجة الاولى.  تقول الاسطورة الاوزبكية أنه في مطلع القرن التاسع الهجري اراد تيمورلنك مؤسس المملكة التيمورية الباذخة الثراء أن يبني أكبر مسجد في العالم والذي جعل اسمه (مسجد بيبي خاتون) على أسم الهانم أو الخاتون أصغر زوجات تيمورلنك وأحبهن إلى قلبه. ولكن للأسف سرعان ما تم دمار هذا المسجد أو المبنى البالغ الضخامة وتقول الاساطير أن سبب الهدم إما أن تيمورلنك علم بأن زوجته المفضلة تخونه ولهذا غضب وأمر بهدم المعلم الحضاري الذي اراد أن يخلدها به ويوجد قول آخر أن فن العمارة في تلك الفترة لم يكن بعد من الجودة والاتقان ولهذا سقط المبنى الضخم من جراء نفسه علما بأنه يوجد حاليا في نفس المكان مبني شاهق جدا وبالغ الضخامة من المحتمل أنه صورة طبق الاصل عن المبنى المدمر. 
والجدير بالذكر أن المغول والتتار بالرغم من قسوتهم إلا أن لزوجاتهم تأثير كبير عليهم كما هو حال  بورتيه أوجين زوجة جنكيز خان والمرأة المسيحية طقز خاتون زوجة هولاكو ومن هذا وذلك لا غرابة أن نعرف الملك المغولي شاه جهان قام بتشييد أجمل مبنى في جميع الحضارات وهو ضريح تاج محل لزوجته ممتاز محل. ولا أدل على مكانة الزوجات في حياة ملوك التتار أن ابن بطوطة عنما وصف زيارته للسلطان المعظم محمد أوزبك خان خصص صفحات طويلة لسرد معلومات مفصلة عن الخواتين الاربع زوجات السلطان مما يشي بثقلهن الاجتماعي والسياسي في ذاك المجتمع القديم.

ونختم استعراض الاساطير المرتبطة بالمدينة الساحرة سمرقند بذكر الاسطورة الخرافية المتعلقة بأحد أهم ملوك سمرقند وهو تيمورلنك الذي يعد ضريحة أحد أجمل المباني الاثرية على الاطلاق في أوزبكستان بأكملها. ولضريح وقبر تيمورلنك أسطورة خرافية تليق بهذا المحارب الفريد الذي هزم كل الممالك والدول التي غزاها وكنتيجة غير مستبعدة لدور وثقل هذه الشخصية في التاريخ القديم انتشرت اسطورة خرافية تحمل عنوان (لعنة تيمورلنك). وتزعم هذه الاسطورة أن الرئيس السوفيتي ستالين غار من انتصارات تيمورلنك ولهذا أمر بنبش قبره وإحضار رفاته إلى موسكو وأثناء عملية النبش التي تمت في منتصف عام 1941 ميلادي وجدوا مخطوطة باللغة العربية تحذر من يفتح القبر بحصول حرب دامية له ووفق ما يتم تداوله لهذه الاسطورة الخرافية يقال أن القوات الالمانية النازية غزت روسيا بعد يومين فقط من تدنيس القبر ونبش رفات تيمورلنك.

أما فيما يتعلق بآخر الأساطير الخرافية المتعلقة بمدينة سمرقند والتي سوف تقع في المستقبل فهي علي شاكلة ما يذكر في بعض كتب طائفة الشيعة من أنه في آخر الزمان سوف يظهر الامام المهدي ولكن قبل خروجه لابد من ظهور بعض أعوانه وقواد جيوشه والذين من أهمهم شخص يدعى شعيب بن صالح يكون أول خروجه من مدينة سمرقند.


 لا شك أن هذه الكثرة والاستفاضة في الاساطير المرتبطة بمدينة سمرقند تؤكد على الثقل الحضاري والتاريخي لهذه المدينة ورسوخ مكانتها وأهميتها بين مدن العالم في القديم والحديث وبهذه المناسبة لك مثلا أن تحاول أن تستحضر كم هي الاساطير التي نعرفها عن المدن العريقة مثل القاهرة وبغداد ودمشق لنعرف تميز مدينة سمرقند بين المدن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق