كتاب مميز .. أشار لجدلية العلاقة بين الأدب والادين
د/ أحمد بن حامد الغامدي
انسياقا وراء
عشقي القديم لقراءة الروايات والاعمال الادبية تحمست كثيرا لقراءة كتاب مختصر يهدف
للتعريف بمفهوم وتاريخ (الأدب الانجليزي) للاكاديمي البريطاني جوناثان بيت وبالرغم
من المعلومات الدسمة التي حفل بها الكتاب إلا أن معلومة وجدت في سطر واحد فقط كانت
(صاعقة) بالنسبة لي وهي ما حفّزت لكتابة مقال شبة مستفيض. فقد أشار المؤلف إلى (أن
النصوص الرسمية لمسرحيات شكسبير كانت قبل تمثيلها تعرض على عنصر رقابي نتيجة
لقانون برلماني يحظر التلفظ بكلمة الله على المسرح).
للوهلة الاولى
تبدو للنظرة السطحية المتعجلة أن هنالك تحيز (وعلمانية) ضد الدين في منع شكسبير من
استخدام كلمة الله في أعماله الادبية والاستعاضة عنها غالبا بكلمة (السماء) ولكن
بمعرفة أن شكسبير عاش في نهاية القرن السادس أو ما يسمى العصر الاليزابيثي وهي فترة تاريخية مميزة في التاريخ الاوروبي اشتهرت بازدهار
حركة الاصلاح الديني المسيحي وطغيان التيارات الانجليكانية المتشددة. وبهذا
المنظور التاريخي يتبين دون جدال أن منع ذكر اسم (الله) أثناء التمثيل على خشبة
المسرح لم يكن إلا من باب التنزيه والتقديس للفظ الجلالة من الامتهان. كنت أعلم مسبقا أنه في أثناء حقبة الإصلاح الديني التطهيري انتشرت
ظاهرة (تحطيم الأيقونات الدينية) من مثل تماثيل ومنحوتات المسيح والسيدة العذراء أو
تدمير وإتلاف الآثار المزعومة للقديسين ومنع التبرك بها لكن الذي لم أكن أعلمه قط
أن تعاليم هذا التيار الديني المحافظ وصلت لفرض سن قانون برلماني خاص يمنع ذكر اسم
(الله) في المسارح وما شابهها من الأوضاع والامكان المبتذلة.
الدرس الذي يمكن
أن يستخلص من القيود الدينية على الانتاج الادبي في عصر شكسبير أن فقط الأديب
النكرة والخاوي من الملكة والمهارة الفنية هو من يبرر ويتعذر أن قريحته الأدبية
ضعيفة بسبب أن (البيئة الادبية) في مجتمعه غير ملائمة وأن (الحاضنة الثقافية)
للأوساط الادبية عجفاء أو معادية. أليس غريبا أن الحقبة
الكلاسيكية التي عاش فيها شكسبير على صرمتها الدينية المتشددة كثيرا ما توصف
(بالعصر الذهبي للأدب الانجليزي) حيث ظهر فيها بالإضافة لشكسبير الشاعر
البارز (جون ميلتون) أعظم شاعر انجليزي على الإطلاق وصاحب القصيدة الخالدة
(الفردوس المفقود). لا شك أنها حجة وذريعة تافهة التي يرددها البعض من أدعياء
الابداع الادبي أنه لابد من (كسر الموروث) و(الثورة على الثابت) وأنه بغير هذه
الاتجاهات (الحداثية) لا يمكن الابداع والتميز والخلود في الأعمال الأدبية.
أليس غريبا مرة
أخرى وعلى ذكر الشاعر الانجليزي جون ميلتون أن قصيدته الخالدة (الفردوس المفقود)
والتي هي قمة الملاحم الأدبية الانجليزية على مر العصور ومع ذلك كان محور تلك
الملحمة الشعرية موضوع ديني بحت حيث تدور هذه الملحمة البالغة الطول عن قصة خروج
أدم وحواء من الجنة وهبوطهما على الأرض وغواية أبليس لهما. وفي نفس نسق ارتباط
اشهر الاعمال الادبية بالدين تجدر الاشارة إلى أن أحد أقدم وأهم القصص الرواية في
الادب الانجليزي هي المجموعة القصصية المسماة (حكايات كانتربيري) للأديب الانجليزي
البارز جيفري تشوسر والتي تدور عن أحداث وقصص متنوعة حصلت لعدد من الحجاج
المسيحيين القاصدين للتعبد عند ضريح القديس توماس في كاتدرائية مدينة كانتربيري
والتي هي المقر الرسمي لكنيسة إنجلترا المناظرة لمقر البابوية في الفاتيكان بروما.
بلا شك يعتبر
الجميع ظهور عصر النهضة إحدى الفترات الزمنية المفصلية في تاريخ البشرية حيث شهدت
إرهاصات ضعف ارتباط المجتمعات الغربية بالدين وبداية الانعتاق منه ولهذا توهم
البعض أن رموز عنصر النهضة كانوا ولا شك في حالة خصام وفصام مع المؤسسة الدينية.
ومن المعلوم للقاصي والداني أن ازدهار الفنون يعتبر أحد أهم وأبرز سمات وملامح عصر
النهضة فكيف كانت علاقة الدين المسيحي بأبرز مشاهير الرسامين والنحاتين في تلك
الحقبة وسف نكتفي بالإشارة لموقف الكنيسة من (الأربعة الكبار). ولنبدأ أولا
بالرسام والنحات الايطالي الاسطورة (مايكل أنجلو) الذي خلده التاريخ بأعماله
الفنية الموجودة داخل حاضرة الفاتيكان نفسها مثل رسمة خلق آدم البالغة الشهرة على
سقف كنيسة السيستاين وتمثال العذراء تنتحب وتمثال النبي موسى بالإضافة لتصميمه
لقبة كاتدرائية القديس بطرس أهم معبد ديني مسيح. بينما تعتبر
اللوحة الجدارية الفريدة المسماة مدرسة اثينا والتي تبين ابرز فلاسفة اليونان (ومن
ضمنهم الفيلسوف العربي ابن رشد)هي أهم تحفة فنية في القصر البابوي المقر الرسمي
لبابا الفاتيكان وهذه التحفة المميزة من إنجاز الرسام الايطالي المعروف رفائيل.
أما النحات الايطالي دوناتلو فإن اشهر أعماله على الاطلاق هي التمثال
البرونزي للملك داود (في الكتاب المقدس يعتبر كلا من انبياء الله داود وسليمان ملوكا
وليسوا أنبياء). وأخيرا يأتي ذكر أبرز فنانين عصر النهضة بدون منازع أي ذائع الصيت
ليوناردو دافنتشيو الذي أحد أشهر إبداعاته الفنية (باستثناء لوحة الموناليزا) هي
لوحة العشاء الاخير للمسيح مع حوارييه والموجودة حاليا في دير كنسي في مدينة
ميلانو الايطالية وهذه اللوحة هي التي بنيت عليها الحبكة التاريخية والتشويقية
لرواية (شفرة دافنتشي)واسعة الانتشار.
وختاما إذا
أفلحنا في (تجميل) الصورة النمطية المشوهة لعلاقة الدين بالأدب والفن فربما يعتقد
البعض أن علاقة التنافر والعداء بين الدين (المسيحي خاصة) وبين العلم من (الحقائق
التاريخية) التي لا يمكن دحضها. الجدير بالملاحظة والتأكيد أنه بالرغم من اعتبار
العالم الايطالي الشهير جاليليو أبرز مثال لاضطهاد الدين للعلماء إلا أن جاليليو
نفسه كان يؤمن وبعمق أن العلم والدين بإمكانهما أن يتواجدا في حالة تناغم وانسجام
متبادل. من غرائب الأمور أن نعلم بأن البابا المسيحي
أوربان الثامن الذي وافق علي محاكمة جاليليو بتهمة الهرطقة كان قبل توليه منصب
البابوية على علاقة جيدة بجاليليو وصلت لدرجة أن جاليليو عندما ألف كتابه المسمى
(المجرب)قام في مقدمة ذلك الكتاب بإهدائه للبابا أوربان الثامن الذي كان في تلك
الفترة ما زال يعرف باسم الكاردينال باربرينيبل ويقال انه بعد تم انتخابه لمنصب
البابوية قام جاليليو بزيارة صديقة البابا في مقر الفاتيكان. ليس
هذا وحسب في العلاقة الوطيدة بين العالم جاليليو وصديقه البابا وصلت لدرجة أن كتاب
جاليليو الذي حوكم بسببه لأنه أيد نظرية كوبرنيكوس وهو الكتاب المسمى (حوار حول
النظامين الرئيسيين للعالم) كان البابا أوربان الثامن نفسه قد سبق له الاطلاع عليه
ولم يعترض عليه في البداية حتى تدخل بعض الوشاة واثأروا حنق البابا علي جاليليو.
كما ينبغي
التنبيه على أن عدد من اكتشافات واختراعات جاليليو العلمية ارتبطت بوجوده داخل
الكنيسة من مثل توصل لقانون حركة البندول وهو في كاتدرائية مدينة بيزا الايطالية
وتجربته الشهيرة حول السقوط الحر للأجسام
نفذها بإسقاط صخور مختلفة الاحجام من أعلى برج بيزا المائل والذي في الواقع
هو برج جرس كاتدرائية بيزا السالفة الذكر. كما اشتهر جاليليو بأنه أول من استخدم
التلسكوب للدراسات الفلكية لكن في الواقع كان أول منظر رصده جاليليو بتلسكوبه لم
يكن أجرام السماء بل السفن البحرية القادمة من الأفق ولم يكن الرصد لها من قلعة أو
جبل بل من أعلي برج جرس كنيسة مدينة البندقية.
ولعلنا بهذا نكون
بشكل أو آخر حاولنا أن نضيف مزيد إضاءة حول الموضوع الشائك (جدلية العلاقة بين
الدين والأدب والفن ... والعلم).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق