الأحد، 27 نوفمبر 2016

( حرائق فلسطين .. شعلة في طريق الحرية )

بعد الجهاد بالحجارة والسكاكين جاء دور المقاومة بأعواد الثقاب
 
 
د. أحمد بن حامد الغامدي
في العقل الجمعي للبشرية لطالما حملت النار معاني وأبعاد مزدوجة ومتضادة فهي مادة الدمار ورمز للحرب والفوضى كما أنها في المقابل أساس العمار ورمز للتطهير والتجديد. تقول الاسطورة أن العنقاء أو طائر الفينيق (طائر النار) إذا شاخ وهرم وبلغ خمسمائة سنه يبني له عشا من أغصان الشجر وبعد أن يحترق فيه يخرج من بين الرماد طائر عنقاء يافع ومتجدد القوة. وهذه اسطورة رمزية شائعة في ذاكرة أغلب الشعوب للدلة على تجدد الحضارة الانسانية بعد أن تمر بمرارة الدمار والخراب وهذا هو محور الرواية الادبية الجهنمية الفكرة والواسعة الانتشار رواية (الجحيم) للكاتب الامريكي دان براون التي تدور حول عالم مجنون يعتقد أنه لا خلاص للبشرية من الطفرة السكانية إلا بحدوث كارثة تطهيرية مهولة تفني عدد كبير من سكان الارض.
الحريق دمار أم عمار
الغريب في الأمر أن التاريخ البشري عبر العصور اختلطت فيه الاسطورة بالحقيقة فالعديد من الحرائق الحقيقية أو السياسية  المعنوية انتجت واقع سياسي أو ديني مختلف عما سبقها حيث ظهرت كيانات سياسية أو دينية جديدة على أنقاض أخرى ضعفت وتلاشت جراء حصول حريق فعلي يتطاير شظاه ولهيبه. من ذلك مثلا  أن حادث حريق روما الكبير الذي وقع في عام 64 ميلادي والذي يقال أنه من تخطيط وتدبير الامبراطور الروماني الطاغية نيرون الذي كان يهدف إلى توسعة قصره ولهذا قام بتدبير حرق واشعال الاحياء القريبة منه. ما يهمنا هنا ليس خرافة أن نيرون كان يغني بالعزف على قيثارته على اطلال مدينة روما المشتعلة ولكن ما يهمنا أن هذا الحريق الهائل لم يورث رمادا راكدا وإنما أورث تغيير سياسي وديني هائل تمثل في اضعاف  الطاغية نيرون الذي اجبر على الانتحار وبهذا أسدل الستار على تلك الاسرة الملكية التي انتجت سلسلة شنيعة من الاباطرة الطغاة (مثل كاليغولا و تايبيريوس). أما التغير الديني فقد حصل للمسيحيين الاوائل الذين تنفسوا الصعداء بعد اضطهاد نيرون الشنيع ضدهم بعد ان اتهمهم بالتسبب بحريق روما. بصورة عامة بدأ المجتمع الروماني الوثني شيئا فشيئا يتقبل ويتسامح مع وجود المسيحيين بسبب بعض التعاطف الذي كسبوه من الظلم الذي وقع بهم على يد الامبراطور نيرون المكروه من الشعب الروماني.
زلزال من اللهب اشتعل في مدينة وعاصمة كبرى خلف واقع سياسي وديني جديد على ساحة الارض المحروقة في قلب الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. لقد كانت من نتائج اشتعال حريق مدينة لندن الكبير الذي وقع عام 1666 والذي ألتهم كامل المنطقة المركزية في قلب مدينة لندن أن حاولت الحكومة البروتستنتية التغطية على هذه الكارثة الطبيعية بنسبتها إلى طائفة الكاثوليك وإلى خيانة جماعة البابا وشرورهم. وكما حصل أن كسب المسيحيون الاوائل من اضطهاد نيرون روما لهم فكذلك كسب في النهاية الكاثوليك من هذه التهمة الملفقة وخفت كثيرا فيما بعد حالة العداء والاقصاء ضدهم لدرجة أنه صدر قانون ملكي ينص على التسامح والغفران. أما الاثار السياسية (المكتسبة) من هذا الحريق فنتجت من أن الملك الانجليزي تشارلز الثاني الذي حصل في عهده هذا الحريق اضطر بعد أن انتشرت الفوضى والشغب في أغلب المدن البريطانية، للتنازل في أكثر من موقف لصالح البرلمان الانجليزي والغاء بعض المراسيم الملكية التي أصدرها ضد رغبة البرلمان فقد تعلم الملك تشارلز الثاني الدرس من رأس والده المقطوع الذي تسببت الثورة الشعبية (الثورة الدستورية) في عزل والده وإعدامه فيما بعد.
حريق آخر اشعله الانجليز سبب لهم خسائر سياسية فادحة كانت أشد مرارة عليهم وإن كانت وقعت على الاراضي الامريكية هذه المرة. صحيح أن الولايات الامريكية الثلاثة عشر أعلنت الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1776 ولكنها خاضت بعد ذلك سلسلة طويلة من الحروب مع القوات البريطانية وصلت لدرجت أن العاصمة الامريكية الجديدة مدينة واشنطن تم اقتحمها واحتلالها من قبل الانجليز. وكوسيلة للتعبير عن السخط والحقد الانجليزي المشهور قام الجنود البريطانيين في عام 1812بحرق مدينة واشنطن العاصمة بما في ذلك حرق المقر الرئاسي البيت الابيض ومبنى البرلمان الكابيتول وعدد كبير من الباني الأخرى العامة. الامر الذي كسبه الشعب الامريكي من هذه الهمجية الانجليزية الغاشمة أن الضغط السياسي والعشبي في الجزر البريطانية نفسها وفي بقية الدول الاوروبية أثمر في النهاية تلاشي النفوذ البريطاني بالكامل ليس في الولايات الامريكية فقط بل وحتى في كندا وبهذا تحولت الولايات المتحدة ذات العاصمة المحروقة لواحدة من أقوى الدول العالمية.
لا شك بأنه سوف يطول بنا الحديث ويتشعب بنا بعيدا لو ناقشنا هنا الشواهد والامثلة للحرائق الأخرى التي اصابت مدنا عظمى وتسببت في تغيير تاريخها فروسيا القيصرية علي سبيل المثال تغير حالها كثيرا للأفضل بعد قيام نابليون بحريق مدينة موسكو في عام 1812 والذي أتلف ثلاثة ارباع تلك المدينة المنكوبة ولكن هذا الحدث بعينة مثل آخر انتصار كبير لنابليون الذي توالت عليه الهزائم بعد ذلك.  بينما تسببت الحرائق في القاعات والقصور الامبراطورية في المدينة المحرمة في العاصمة الصينية بكين عام 1644 في تضعضع مكانة إمبراطورية سلالة مينغ الصينية وتلاشيها أمام ثورة الفلاحين. أما في عصرنا الحديث فالجميع يعلم أن أكبر وأشنع شعلة لهب شهدتها البشرية هي القنابل الذرية التي أحرقت البشر والحجر في مدن هيروشيما  وناجازاكي اليابانية لكنها في نفس الوقت جعلت الأمة اليابانية مثال حي لأسطورة العنقاء التي تولد من تحت الرماد فالتفوق الاقتصادي للشعب الياباني كان في أحد جوانه محاولة لأثبات الذات امام تلك الكارثة النارية المهينة.
 للأسف الشديد وضعنا العربي عصي على الاصلاح بل أنه أحيانا ما يعاكس حركة التاريخ فحرائق روما ولندن وواشنطن كانت لسكان وشعوب هذه المدن والدول منحة في إيهاب محنة حيث تغير واقعهم الديني والسياسي بعد تلك الحرائق فهل اللهيب العربي كان كذلك محنة تحمل في طياتها منحة. المحزن في الأمر أن الواقع السياسي بل وحتى الديني تغير في مجتمعنا العربي بشكل حاد بعد حريق القاهرة الكبير الذي حدث عام 1952 في أواخر أيام الملك فاروق في الحكم. العديد من المصادر التاريخية أصبحت تؤكد أن من تسبب في بداية حريق القاهرة الكبير هو تنظيم الضباط الاحرار في الجيش المصري بهدف زعزعت مكانة الملكية أمام الشعب المصري ولهذا بعد أشهر قليلة من حصول الحريق في شهر يناير حصلت ثورة الضباط الاحرار في شهر يوليو . إن كل منصف يعرف  واقع وأبعاد الحياة السياسية قبل الانقلاب العسكري وبعده يعرف أن أرض الكنانة ليس فقط خسرت الرفاهية والثراء الاقتصادي الذي كانت تعيش فيه ولكن ايضا خسرت الحرية السياسية وفعالية الاحزاب السياسية كما خسرت الصفاء الديني في ظل حكم العسكر الذي جفف المنابع الدينية وحارب الجماعات الاسلامية النشطة في المجتمع المصري. قد أكون متحامل ضد الافكار القومية العربية الجوفاء ولكن حتى مشاهير الادباء المصريين انفسهم سطروا كيف تدهورت وتردت الاوضاع في مصر قبل الثورة وبعدها كما تجد ذلك في ثنايا رواية ميرمار لنجيب محفوظ أو رواية حتى لا يطير الدخان لإحسان عبدالقدوس.
الشعلة الفلسطينية .. المقاومة فن الممكن
ونصل الآن لبيت القصيد والموقد الذي لا ينطفئ لممانعة الطغيان ألا وهو المقاومة والجهاد الفلسطيني والعربي في أراضي فلسطين السليبة. كما هو معلوم قام الضعفاء والخونة من السياسيين من بني جلدتنا بمحاولة تطبيع الشعوب مع العدو المحتل من خلال بث أكذوبة أنه يستحيل مقامة الاحتلال الصهيوني الغاشم وأنه ليس فقط (السياسة فن الممكن) بل أنه لا مفر من تبني عقيدة أن (السلام مع الصهاينة خيار استراتيجي). قديما وحديثا نجد أن الشعوب الحية الابية لا تعدم الوسيلة في مقاومة العدوان والاحتلال وبقواعد الاشتباك الجديدة هذه مع العدو الغاشم أصبح الخيار الاستراتيجي أنه بدلا من شعار (السياسة فن الممكن) فيجب أن يصبح شعارنا (المقاومة فن الممكن). لقد اثبتت المقاومة الفلسطينية الباسلة أنه لا يشترط لممانعة ومجابهة العدوان أن تمتلك المدفع والطائرة بل بإمكانك أن تزلزل كيانه وتبث الرعب في قلوب شعبه بسكاكين المطبخ وأعواد الثقاب. الكيان الصهيوني الغاشم قد اكتوى أكثر من مرة باندلاع الحرائق الكبرى على الاراضي المحتلة كما حصل في عام 2010 في حريق غابات جبل الكرمل جنوب مدينة حيفا والذي تسبب في مصرع حوالي 44 قتيل. ما استجد الان بعد الربيع العربي أن الشعب الفلسطيني المقاوم بعد أن كان يقف موقف المتفرج على الحريق الاسرائيلي عام 2010 أصبح الآن هو من يساعد في إشعال النار وتأجيجها ونقلها من مكان إلى مكان كنوع ووسيلة جديدة من وسائل (حرب الاستنزاف) ضد المحتل الغاشم وهذا ما يفسر بدرجة معقولة سبب انتشار الحرائق بشكل كثير في مناطق متنوعة من جغرافية الكيان الصهيوني .  في زمن المقاومة يصبح  تقريبا كل شيء مباح فكما قال معاوية بني ابي سفيان (إن لله جنودا من عسل) عندما بلغه مقتل أحد أعدائه فكذلك من حق الفلسطينيين مقاومة المحتل بسكاكين المطبخ كما حصل في الصيف الماضي في (غزوة السكاكين) أو بأعواد الثقاب وقداحات السجائر هذا الشتاء في (غزوة الكباريت) وقبل ذلك بسنوات كان سلاح المقاومة صخور الارض (غزوة اطفال الحجارة). من المحتمل أن هذه الحرائق ولهيب المقاومة قد تنطفئ  قريبا  ويخفت وهج نار النضال وقد لا يتأثر العدو الصهيوني كثيرا من حفلة الالعاب النارية هذه (كما كان محمود عباس يسخر من صواريخ القسام) لكن المهم أن تستمر جذوة (الحماس) لمناكفة ومشاغلة وإرهاق العدو (بفن الممكن) من اساليب المقاومة وحرب الاستنزاف.
 وختاما لعلنا نبشر دولة الصهاينة وجيشها بما ورد في الكتاب المقدس والاسفار اليهودية الدينية والتي تصف الجيوش التي سوف تنتصر في يوم غضب الرب على رجسة الخراب أورشليم وأن الابطال الذين يناكفونها ويقاومونها لا يمكون الاسلحة المتطورة وإنما بقدراتهم البسيطة والمحدودة يحققون النصر فهم كما ينصح ويحمس بعضهم بعضا (اطرقوا محاريثكم سيوفا ومناجلكم رماحا). وهذا ما نقصده (بفن الممكن) فقد لا تملك السلاح لكن يا أخي المحارب حول فولاذ محارثك إلى سيف بتار وحديد منجلك إلى رمح ثاقب. وعلى ذكر الحرائق الفلسطينية المشتعلة على أرض المحشر أليس غريبا أن تصف النبوءة الاسرائيلية في الكتاب المقدس في سفر النبي يوئيل بن فتوئيل حال اسرائيل في آخر الزمان (إليك يا رب أصرخ لأن النار التهمت مروج البرية واللهيب أحرق جميع أشجار الحقول). ثم بعد ذلك يأتي وصف جيش المجاهدين الذين سوف ينتصرون على أهل أورشليم الفسقة (قدامه النار تأكل .. وخلفه اللهيب يحرق .. ولا ينجو منه شيء .. ومثل الفرسان يسرعون كصوت المركبات على رؤوس الجبال يقفزون .. كصوت لهيب النار الآكلة القش).   
 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق