الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

( الشعب الأمريكي واختيار البلطجة )

لم يكن يوجد في الانتخابات الأمريكية مرشح (طيب) ولذا فاز المرشح (السيء والقبيح)
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في عام 1999 نشر المفكر الفرنسي المشهور روجيه جارودي كتابه المثير (أمريكا طليعة الانحطاط) حشد فيها تلال من الحقائق والأمثلة لعجرفة (وبلطجة) الحكومات الأمريكية المتتالية في الخروج عن القانون الدولي بشن الحروب المباشرة أو تدخلها السافر بدعم الانقلابات في العديد من الدول (فيتنام، الصومال، بنما، نيكاراغو، تشيلي .. الخ). كما هو معلوم تم انتخاب الرئيس الأمريكي سيء الصيت جورج بوش الابن بعد نشر هذا الكتاب بعام واحد ولهذا لم يفجع جارودي قارئيه بتسطير مخازي الأمريكان وجرائمهم في العراق وأفغانستان.  اللافت للنظر أن غالب تلك الجرائم والمجازر التي ارتكبتها (الحكومات الأمريكية) كانت في الغالب تحدث ضد رغبة شرائح واسعة من (الشعب الأمريكي) المسالم بطبعة والذي كثيرا ما يوصف ممن خالطه بأنه شعب ودود friendly . وللتدليل على ممانعة طوائف من الشعب الأمريكي للحروب والعدوان لك أن تراجع المواقف المعارضة للحرب الأمريكية في فيتنام من قبل حركة السلم الأمريكية وجماعات الحقوق المدنية وتيارات طلبة الجامعات بل وحتى متسكعي وخنافس الهيبيز. وفي وقتنا المعاصر جميعنا ما زال يتذكر بشي من التقدير في عام 2003 نزول الملايين من الشعب الأمريكي (وغيره من شعوب العالم وخصوصا في بريطانيا التي شهدت مدينة لندن لوحدها مظاهرة شارك فيها أكثر من عشرة  ملايين شخص) للاحتجاج في الشوارع بمسيرات مليونية للاعتراض على اجتياح الجيش الأمريكي للعراق.
للأسف الشديد الشعوب كما الافراد نجدها وقت الازمات متقلبة المزاج moody وهذا مصدر الخطورة والقلق فيما يتعلق باختيار غالبية الشعب الامريكي يوم أمس لمرشح الرئاسة دونالد ترامب بأن يصبح رئيس الولايات المتحدة القادم بالرغم من أنه صعق العالم من أقصاه إلى اقصاه أثناء الحملات الانتخابية بخطابه الإقصائي والمتشنج والاهوج. كما لاحظنا سابقاً شخصية راعي البقر الهوجاء للرئيس الامريكي تاريخيا كان يتم شكم تهورها وتحجيمها بالجانب الانساني الودود ليعض شرائح المجتمع الامريكي ولكن مع (حالة المزاجية) الاخيرة التي تفشت في المجتمع الامريكي فقدت السياسة الخارجية الامريكية أحد أهم أدواتها الذاتية لكبح جماح الآلة السياسية والعسكرية الجامعة للعم سام فبدرجة ما ربما لن يعد الشعب الامريكي كما كان صمام الامان ورمانة الميزان.
عندما بلغ الصحابي الحكيم عمرو بن العاص الخبر عن الرسول الكريم أنه قال عندما تقوم الساعة يكون الروم أكثر الناس بمعنى أن الغلبة والسيطرة لهم وقد علل الصحابي عمرو بن العاص ذلك بسبب أن في أمة الروم أربع خصال ومميزات ثم ذكر خصلة خامسة وصفها بأنها حسنة وجميلة وهي أنهم (وأمنعهم من ظلم الملوك). على خلاف الحضارات الشرقية الابوية الطابع التي تخنع للمستبد الطاغية كانت الشعوب الغربية غالبا أكثر عقلانية وأنفة ولهذا حرص رجال السياسية في روما القديمة على تقليص وتشذيب صلاحيات الملك الحاكم عندما تم تطبيق نظام (حكومة القناصل) بمعنى أن يحكم الدولة الرومانية أكثر من حاكم (قنصل) في نفس اللحظة وبنفس الصلاحيات. وهذا ما أنعكس لاحقا في التراث الشعبي والاساطير الاوروبية القوطية التي تحكي عن دولة الملك آرثر الاسطورية والطاولة المستديرة للحكم التي يتساوى فيها مع قواده ومساعديه. وفي التاريخ السياسي البريطاني منذ حوالي ثمانية قرون انتزع الشعب البريطاني حقوق واسعة من صلاحيات ونفوذ الملك الانجليزي فيما يسمى بوثيقة العظمى (الماجنا كارتا) وبعد ذلك بقرون أصبح البرلمان الانجليزي بعد ثورة كرومويل (الملقبة بالثورة الدستورية) يعامل الملكية البريطانية معاملة الند للند.
في سياق شغف الشعوب الاوروبية الحرة لتحجيم سلطة وسطوة الحكام نفهم لماذا أخفق كلا من رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل ورئيس الجمهورية الفرنسية شارل ديغول في الفوز بالانتخابات البريطانية أو الفرنسية التي تلت الحرب العالمية الثانية بالرغم من شهرتهم الواسعة وكون شعوبهم تعدهم أشبه بالأبطال المقدسين والسبب أن تلك الشعوب (الواعية) خمنت عن فطنة أن رجل السياسية المنتشي والمفتخر بالنصر الحربي إذا أمتلك زمام الحكم فهذه الخلطة السحرية والتوليفة المشؤومة المغرية بالاستبداد وهو بالضبط ما حصل مع نابليون بالرغم من كونه فقط أحد القناصل الثلاثة الذين كانوا يحكموا الامة الفرنسية.
ما أود أن اقوله بعد هذا التطواف التاريخي أن الشعب الأمريكي مع سبق الاصرار والترصد وافق أن ينتخب وبحماسة ملموسة رئيس جديد أطلق العديد من التصريحات والتعهدات الكارثية ذات الأبعاد العنصرية ضد السود والنساء أو ضد الشعوب الاخرى الاسلامية واللاتينية التي تبصر العقلاء من الناخبين بعدم جدارته بالقيادة والرئاسة. من الواضح أن تغيرا بنيويا وفكريا حصل للشعب الامريكي قادة مرة أخرى لسياسة العزلة والانكفاء والانزلاق لمستنقع الانانية والنفور من الاجانب. لا يمكن ان نغفل في هذا السياق أن هذا الداء الاقصائي الانعزالي هو عين ما حصل للشعب البريطاني قبل عدة أشهر عندما فاجأ العالم برغبته هو الآخر بالانعزال والاستقلال عن الاتحاد الاوروبي والتضييق على المهاجرين والاجانب. نفس ردة الفعل هذه نجدها آخذه بالتصاعد في المجتمع الالماني الذي اصبح يجاهر بعدم الترحيب بالمهاجرين واللاجئين السياسيين . 
لا شك أنه في ظل الاحداث والزلازل السياسية والاقتصادية الأخيرة حصلت عملية استقطاب حادة للعديد من الشعوب المتناحرة فكما أصبحت فئام وطوائف من بني جلدتنا تمجد وتحن لشخصية صدام حسين الطاغية فكذلك الشعوب الأخرى ترغب في ان يكون قائدها شخصية جريئة وصدامية مع أعدائها. لا يمكن أن نتجاهل أن الامة والشعب الالماني الذي تجرع الذل والمرارة بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى أختار طواعية هتلر وحكومته النازية وهو ما حصل مع الشعب الايطالي الذي انتخب موسيليني وحكومته الفاشية. صرخة التحذير التي يمكن ان تطلق هي إن الشعب الامريكي إذا تخلى عن إرثه السياسي والديمقراطي العتيق في تحجيم وتكبيل القادة السياسيين فهو ولا شك سوف يساهم في تنصيب ( بلطجي ) جديد يثير العدوان والطغيان على الشعوب المستضعفة خصوصا الشعوب العربية وفي القلب منها أرض الحرمين التي سوف توصم بكل نقيصة بعد تفعيل قانون جيستا المريب.
ختاما في العقود الأخيرة أصبح العديد من الكتاب الغربيين عند إجراء مقارنة بين عدة أشخاص أو اشياء مختلفة عن بعضها من ناحية الجودة والسوء يستخدمون توصيف ثلاثية (الطيب والشرير والقبيح) وهذه التقسيمة الثلاثية مقتبسة من عنوان أحد أشهر افلام الكاوبوي الامريكية (the good, the bad and the ugly). طبعا سباق انتخابات الرئاسة الامريكية كان من الاساس خاليا من المرشح الطيب ولذا لا غرابة أن ينتهي السباق وللأسف بانتخاب الشرير والقبيح.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق