الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

( رحلة السيد ماكينزي الاستكشافية الفاشلة )

رحلة استكشافية فاشلة قديمة  .. هل هي جذر الشؤم المرتبط بفشل شركة ماكينزي  الاستشارية


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 لله در من قال أن ( الانتهاء من قراءة كتاب جيد كلحظة توديع صديق حميم ) حيث أنني هذه الأيام أشعر بالحسرة لاقترابي من نهاية قراءة كتاب جيد وغاية في التشويق عنوانه (أعظم سبعين رحلة في التاريخ The Seventy Great Journeys in History ) اشترك في تأليفه أكثر من خمسين خبير ومؤرخ مرموق. ولأن الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون يقرر أن ( المعرفة قوة ) تبين لي بشكل جلي من هذا الكتاب كيف أن الدول والإمبراطوريات استطاعت امتلاك زمام القوة الاقتصادية والسياسية من جراء الاكتشافات الجغرافية لعدد من رواد الرحلات والمستكشفين التابعين لها.

ما لفت نظري في المقابل أنه ليس شرطا أن تكون جميع الرحلات الاستكشافية المفصلية ناجحة لتضمن لها مكان في كتب التاريخ والجغرافيا فحتى الرحالة الذي يخبط خبط عشواء ولا يمتلك أدوات ومهارات ( الرؤية ) الاستكشافية يمكن أن تفتح له صفحات التاريخ كما تفتح له مجالس وبلاط قادة الدول بالرغم من كونه مستكشف هاوي ومتخبط. ومن أغرب الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا السياق تلك الرحلة التي قام بها المستكشف الاسكتلندي الشاب ألكسندر ماكينزي الذي كان يعمل في نهاية القرن الثامن عشر في شركة بريطانية تتاجر في فراء الحيوانات الكندية. وكرغبة ومحاولة من السيد ماكينزي لتطوير أعمال وتجارة الشركة التي يعمل بها والتي مقرها مدينة مونتريال الكندية أقترح أن ينطلق في مغامرة استكشافية في الأراضي الشمالية لكندا بهدف إيجاد طريق تجاري يربط بين المحيط الاطلسي والمحيط الهادي في غرب كندا وبذلك يفتح ممر لأسواق جديدة للشركة في الشرق وأسيا.

وبحكم أن الخبرة الجغرافية والاستكشافية للسيد ماكينزي كانت محدودة كانت رؤيته التخطيطية تخبط خبط عشواء فأولا لم يكن يعلم أن المسافة بين الساحلين الشرقي والغربي تبلغ عدة الاف من الاميال كما أنه اتخذ وسيلة سفر غير مريحة على الاطلاق تمثلت في قارب طويل وضيق  canoe يجدف فيه تسعة رجال أحدهم خلف الآخر. وثالثة الاثافي كما يقال أنه قطع تلك الرحلة النهرية الشاهقة الطول وهو يجدف ورجاله عكس تيار النهر الذي غالبا ما كان يندفع بقوة كما إن السيد ماكينزي لفرط غروره بنفسه لم يحرص على أن يتخذ له دليل يرشده على الطريق من السكان الاصليين وهم القبائل الهندية التي كانت تقيم في شمال كندا. ولهذا لا عجب أن تنتهي رحلة السيد ماكينزي بالاتجاه شمالا بدلا من الاتجاه غربا مما أسفر في الوقع في خطأ استراتيجي فاحش في الرؤية الاستكشافية حيث انتهى به المطاف أن يصل إلى المحيط المتجمد الشمالي بدلا من أن يكتشف طريق إلى المحيط الهادي.

الغريب في الامر أنه بالرغم من أن الهدف الاساسي لرحلة السيد ماكينزي الاستكشافية وهو الهدف الاقتصادي والتجاري لم يتحقق وأخفق بشكل صارخ إلى أن شهرة ماكينزي ومكانته الاجتماعية كانت عالية ربما لأنه أول شخص يقوم برحلة استكشافيه في شمال أمريكا وكندا. صحيح أن الطريق التجاري  لبيع الفراء الذي اكتشفه ماكينزي كان مفلس تماما لكن هذا لم يحول دون ترسيخ مكانته السيد ماكينزي لدى الامبراطورية البريطانية لدرجة أنه تم منح لقب سير في عام 1802 على يد الملك الانجليزي جورج الثالث.

 في واقع الأمر لم تتأثر كثيرا شركة الشمال الغربي الكندية التي تتاجر بالفراء والتي يعمل بها السيد ماكينزي من فشلة الجغرافي الفاضح ذلك ولكن حذاري فليس كل (مغامرة استثمارية) ذات رؤية استكشافية متخبطة تنتهي بسلام وهذا درس دفعت ثمنه شركة تجارية كبرى بكلفة باهضه جدا. قبل قرن ونصف من قصة (السير ماكينزي) الغريبة تلك وفي نهاية القرن السادس عشر حاولت الشركة الصينية البريطانية The Cathay Company أن تقلد النجاح التجاري الكبير لشركة الهند الشرقية (البريطانية) في توسيع تجارتها مع الشرق وكما حاول السير ماكينزي أن يجد طريق تجاري لإيصال تجارة الفراء إلى الصين مولت الشركة الصينية البريطانية المستكشف والملاح الانجليزي مارتن فروبيشر لكي يحاول أن يكتشف لها ممر ملاحي يمكن أن يربط اوروبا بأسيا عبر ما يسمى الممر البحري الشمالي الغربي northwest passage الذي يقع إلى الشمال من كندا. المشكلة أن المستكشف الجغرافي فروبيشر كان مبالغ جدا في متطلباته المادية لإجراء هذه الرحلة الاستكشافية حيث اصطحب معه في عام 1578 اسطول بحري مكون من خمسة عشر سفينة لها طواقم من عدة مئات من البحارة ولكن بسبب الضباب والجبال الجليدية لم يستطع هذا المستكشف إلى يحقق الهدف الاساسي للرحلة مما تسبب في النهاية إلى وقوع الشركة الصينية البريطانية في خسائر مالية ضخمة نتج عنها إفلاس تلك الشركة بالرغم من دعم الملكة إليزابيث الاولى لهذه الرحلة وثقتها الكبيرة في قدرات ورؤية السيد فروبيشر الاستكشافية.

بقي أن نختم بأن هذا الكتاب الشيق (أعظم سبعين رحلة في التاريخ)  نظرا لأنه مؤلف من قبل طائفة من العلماء والمؤرخين الغربيين فإنه (كما هو متوقع) ركز وبشكل طاغي على استعراض تاريخ الرحالة والمستكشفين الاوروبيين إلا أن الكتاب أشاد بشكل مشرف برحلات المستكشف العربي ابن بطوطة. كنت أعلم مسبقا أن الغربيين يعرفون وبشكل جيد الرحالة الكبير ابن بطوطة وقد قرأت عنه أكثر من مره في بعض الكتب الانجليزية ولكن ما فاجأني في هذا الكتاب أنه ليس فقط لم يذكر في مقدمة الكتاب إلا عدد محدود من أشهر الرحالة والمستكشفين مثل كولومبوس وماركو بولو لكن عندما ذكر ابن بطوطة في هذه المقدمة تم توصيفه بأنه (ربما كان ابن بطوطة اكثر الرحالة هوسا بالسفر وحتى اليوم عدد قليل من الرحالة بإمكانهم أن يجاروا المسافات التي قطعها).

من هذا وذاك ربما نؤكد بديهية أنه ليس فقط الرحالة العرب قد لا يقلون جودة وشهرة عن الرحالة الغربيين ولكن ايضا الأمة العربية والاسلامية فيها طاقات ذهنية محلية حكيمة ذات رؤية سليمة مشبعة بحرص حقيقي وصادق لنهضة وطنها وأمتها. المظاهر قد تخدع أحيانا ولهذا حذر الشاعر العربي الحكيم كُثير عزة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان من الاعتماد الكلي على المظهر العام لتقييم الشخص ما بأنه هل هو حكيم وذو رؤية نافذة أم لا :

ترى الرجل النحيف فتزدريهِ      وفي أثوابهِ أسدٌ هصورُ

ويعجبك الطريرُ إذ تراهُ       فيُخلف ظنّك الرجلُ الطريرُ



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق