السبت، 14 يناير 2017

( برودة الشتاء تؤجج زخم الابحاث العلمية !! )

حتى في الشتاء الكئيب .. المختبر العلمي لا يعدم الوسيلة للترفيه والمتعة
د/ أحمد بن حامد الغامدي
لطالما ارتبط الشتاء بالصيف كارتباط الليل بالنهار أو كتلاحم اليّن الاسود واليانغ الابيض في الفلسفة الصينية القديمة ولهذا جال في البال أن يتم تخصيص مقال عن قصص واخبار العلماء والمخترعين في الشتاء كما سبق وأن أشرنا لطرف عن أخبارهم في بداية الصيف الماضي عند الحديث عن (العلماء والاجازات). إن سياق الاخبار والقصص ولا شك دائما مسلي ومرغوب ولذا سوف نسير على خطى وليم شكسبير فبعد أن كتب أولاً مسرحية (حلم ليلة منتصف الصيف) ألحقها بعد ذلك بسنوات مسرحيته المقابلة (حكاية الشتاء)  ولهذا بعد أن كتبنا مقال (العلماء والصيف) لعلنا نستعرض هنا حال (العلماء في الشتاء).
في الثقافة الاسلامية يوصف الشتاء بأنه (غنيمة المؤمن الباردة) لأنه وقت مثالي للعبادات فنهاره بارد وقصير يسهل الصوم فيه بينما ليله طويل وهادئ وهي التوليفة المساعدة على قيام الليل والخشوع فيه. وبشيء من التجاوز يمكن أن نصف حال  بعض العلماء بأنهم كانوا يقومون الليل في محراب العلم ومن ذلك مثلا أن أبن سينا في أوائل شبابه طلب من سلطان مدينة بخارى أن يسمح له أن يتردد على مكتبة قصرة الضخمة وأن يسهر الليل فيها وهو يطالع مجلدات أمهات الكتب. العالم الكبير إسحاق نيوتن مشهور بأنه أحد أعظم علماء الفيزياء والرياضيات ولكن قلة من الناس من يعرف بأنه كان (خيميائي) شغوف بالبحث وإجراء التجارب الكيميائية لدرجة أنه لم يكن يأوي إلى فراشة قبل الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وعندما كان يستغرق في تجاربه الخيميائية كان موقد مختبره لا ينطفئ وتستمر بعض تفاعلاته لعدة اسابيع متواصلة. ومثل نيوتن الذي كان يتحنث طوال الليل في محراب العلم نجد أن اسطورة العلم مدام كوري قبل أن تنجح في اكتشاف وفصل عنصر الراديوم كانت تسهر الليالي الطوال وهي تحرك مزيج يغلي من المواد الكيميائية بواسطة قضيب طويل من الحديد وهذا العمل الشاق تسبب في انهاك صحتها لدرجة أنها لم تستطيع السفر بعد ذلك إلى السويد لتستلم جائزة نوبل في الفيزياء.
إذا كانت ليلي الصيف تمنح السمر فإن ليالي الشتاء تورث الحكمة حيث أن هدوء وسكون الليالي الشاتية يوفر الفرصة الكافية للتفكير والتدبر ولهذا لا عجب أن بعض أهم الاكتشافات العلمية تمت في سكون الليل وليس في ضجيج المعامل والمختبرات. خذ على سبيل المثال أهم اكتشاف علمي في القرن العشرين وهو تحديد التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA فحسب عالم الاحياء الامريكي جيمس واطسون الحاصل على جائزة نوبل الذي أشار في كتابه (اللولب المزدوج) والذي هو روايته الشخصية له عن قصة اكتشاف تركيب DNA أن بعض المراحل الجوهرية في ربط المعلومات للتوصل لهذا الاكتشاف العلمي التاريخ تمت في بعض ليالي الشتاء لشهر فبراير من عام 1953 ميلادي. وقبل ذلك تقريبا بقرن من الزمان أي في ليلة السابع عشر من شهر فبراير لعام 1869 توصل العالم الروسي الشهير ديمتري مندلييف لوضع تصور أولي للفكرة العلمية الثورية المتعلقة بالجدول الدوري للعناصر الكيميائية حيث كان تشغله قضية إيجاد طريقة علمية منضبطة يمكن من خلالها تصنيف وترتيب جميع العناصر الكيميائية بشكل سليم. الطريف في الأمر أن مندلييف نفسه قد أعترف أن فكرة الجدول الدوري للعناصر قد جاءته في حالة إلهام تمثلت في رؤية مناميه حلم بها تلك الليلة.  عادةً يقال أن (الشتاء أحلام) فظلامه الطويل وليليه الدافئة تحت دثار الكساء تغري بالنوم ولهذا تكثر أحلام العلماء كغيرهم من البشر خلال فصل الشتاء. 
ومن الأمثلة الإضافية لأحلام العلماء في الشتاء أن أحد أهم علماء الكيمياء في القرن التاسع عشر وهو العالم الألماني أوغيست كيكوليه تمكن من حل أحد أصعب المعضلات في الكيمياء العضوية والمتعلقة بفهم تركيب جزيء البنزين من خلال حلم عجيب شاهده في المنام في إحدى ليالي شهر ديسمبر لعام 1855 ميلادي. تقول القصة أنه عندما استرخى كيكوليه في منزله أمام المدفأة وهو مشغول البال بالتفكير في أحجية تركيب جزيء البنزين غلبه النوم وشاهد في الحلم سلاسل من ذرات الكربون تمثلت على شكل الافاعي والتي كانت  تتذبذب و تهتز  امام عينية و فجأة عضت إحدى هذه الافاعي بفمها على ذيلها مكونة شكل حلقة المتصلة. و عندما استيقظ كيكوليه من منامه قضى بقية تلك الليلة الشهيرة وهو يسجل فكرة هذا الحلم و يختبر احتمالية الشكل الحلقي لمركب البنزين.
لفهم سياق تاريخ العلم .. فتش عن الشتاء
من صور الترابط بين فصل الشتاء والاكتشافات العلمية أن بعض هذه الاكتشافات كان للبعد الزمني الشتوي دور حاسم في التوصل لها ومن ذلك مثلا أن اكتشاف ظاهرة النشاط الاشعاعي للعناصر كثيرا ما توصف بأنها اكتشفت (بالصدفة serendipitously) علي يد عالم الفيزياء الفرنسي هنري بيكريل ومع ذلك لم يكن من الصدفة ان هذا الاكتشاف العلمي المميز حصل في زمن الشتاء. السبب في ذلك أنه أثناء شهر فبراير من عام 1896 كان بيكريل يجري تجربة على أحد مركبات اليورانيوم والتي كان يعتقد (بشكل خاطئ) أنها إذا تعرضت لضوء الشمس يمكن أن تصدر اشعة مشابه بصورة ما لأشعة إكس. ولكن كما هي عادة الطقس في مدينة باريس أثناء شهر فبراير لم تشرق الشمس لعدة أيام ولهذا قام بيكريل بوضع بلورة مركب اليورانيوم في درج مختبره وبالقرب من لوح زجاجي لأفلام التصوير وطبعا بقية قصة الاكتشاف مشهورة ومعلومة. وكذلك أعتقد أن لفصل الشتاء دور حاسم في نجاح التجربة المشهورة للفيزيائي والسياسي الأمريكي بنجامين فرانكلين الذي حاول في عام 1752 اثبات أن البرق هو عبارة عن شرارة كهربائية هائلة وذلك من خلال تجربته الشهيرة في إطلاق طائرة ورقية مزودة بحافة حادة وجعلها تحلق في عمق سحابة رعدية عاصفة وماطرة. 
بالرغم من أن اكتشاف مركب النايلون كثيرا ما يوصف بأنه تم عن طريق الصدفة  في عام 1934 إلا إننا لا نستطيع أن نغفل مرة أخرى أنه من غير الصدفة أن يتم هذا الاكتشاف في فصل الشتاء. السبب في ذلك أن الفريق البحثي للمخترع الامريكي الكيميائي والاس كاروثرز فشل لمدة طويلة في تصنيع خيوط حريرية صناعية وكل ما توصل له كان فقط مادة بولمرية لزجة وذائبة في دورق زجاجي. وفي إحدى أيام شهر فبراير الباردة من تلك السنة أخذ أحد الباحثين في المختبر (يلعب) بتلك المادة اللزجة عندما لاحظ أنه يمكن أن يتم سحبها باستخدام قضيب زجاجي ومطها على شكل خيوط رفيعة من النايلون. وبهذا تتضح البصمة الثلجية للشتاء في اختراع النايلون من خلال اكتشاف ظاهرة وتقنية السحب على البارد cold drawing لخيوط النايلون والتي ربما لم تكن لتكتشف في فصل الصيف مثلا. 
الجدير بالذكر أن للشتاء دور حاسم ليس فقط في التوصل للاكتشافات العلمية ولكن أحيانا حتى في وقوع (الكوارث العلمية) ومن أبرز ما يمكن ذكره في هذا السياق أنه لأمراً ما وقعت كارثة انفجار ماكوك الفضاء تشالنجر في فصل الشتاء بالذات. سبب هذه الكارثة العلمية الاليمة أنه في عام 1986 تمت عملية الاطلاق الأخيرة لمركبة الفضاء هذه في يوم 28 يناير والذي صادف أن يوم كان شديد البرودة مما تسبب في ضعف وتشقق الحلقات المطاطية التي تربط بعض أجزاء خزانات الوقود الضخمة للماكوك وبتسرب وقود الصواريخ للخارج حصلت الكارثة المريعة في كبد السماء.
الشتاء .. موسم حصاد الاختراعات العلمية
العلماء والمخترعون لا يعانون من ظاهرة (البيات الشتوي) ولهذا على خلاف المتوقع قد يكون موسم الشتاء من أكثر فصول سنة إنتاجية علمية بسبب التفرغ شبه الكامل (لأجواء) البحث العلمي. وبعد قيامي باستقراء وحصر للاكتشافات العلمية الكبرى والاختراعات التكنولوجية التاريخية تبين لي أن عدد كبير منها تمت خلال فصل الشتاء ولولا خشية الاطالة لتم سرد تفاصيل تاريخ كل اكتشاف علمي باليوم والشهر والسنة. ما يستحق التنويه له بجدارة أن ليالي الشتاء الملبدة بالغيوم لم تحل دون حصول عدد كبير من الاكتشافات الفلكية واختراعات علم الفضاء خلال اشهر الشتاء. فهذا جاليليو الذي كان أول عالم يستخدم التلسكوب لدراسة الاجرام السماوية مكتشفا بذلك أقمار كوكب المشتري وتضاريس سطح القمر وقد كان ذلك في شتاء عام1610 وقبله بحوالي اربعين سنه رصد عالم الفلك الدنماركي المعروف تايكو براهي في ليله شاتيه ظاهرة نجوم السوبر نوفا أما في شتاء عام 1930 وفي ليله 18 فبراير أكتشف الفلكي الامريكي كلايد تومباو كوكب بلوتو في حين في شهر فبراير من عام 1967 أكتشف لأول  مره ما تسمى النجوم النابضة pulsar تلك الظاهرة الفلكية العجيبة. أما الاختراعات التقنية التاريخية التي تم تدشينها خلال الشتاء والمتعلقة بعلوم الفضاء فهي إطلاق أول قمر صناعي في التاريخ (القمر الصناعي الروسي سبوتنك) وذلك عام 1957 وكذلك تم إطلاق محطة الفضاء الروسية مير أثناء شتاء عام 1986ميلادي.
وبالانتقال الآن لأبرز الاكتشافات الطبية والاختراعات العلمية المرتبطة بتقدم وتطور الطب يمكن أن نشير إلى أن أوقات الشتاء الباردة عبر السنين المختلفة صاحبت فصل واكتشاف فيروس شلل الاطفال وأول استخدام طبي للأدوية الانسولين ومواد التخدير وإصدار براءة اختراع الاسبرين. أما في جانب إجراء العمليات الجراحية التاريخية فمثلا شهد شهر ديسمبر في سنوات مختلفة أول عملية زراعة قلب (1967) وأول  عملية زراعة ونقل كلية (1954) كما حصل في الثالث من ديسمبر لعام 1982 أول عملية زراعة قلب اصطناعي. 
وفيما يتعلق بالاختراعات التقنية المفصلية في تاريخ البشرية نجد أنه في بداية اشهر الشتاء من عام 1821 أخترع العلم البريطاني المعروف مايكل فاراداي أول محرك كهربائي وبعد ذلك بحوالي نصف قرن وفي شهر ديسمبر استعرض المخترع الاسطورة توماس أديسون أول مصباح كهربائي. ويبدو أن شهر ديسمبر كان دائما مع موعد مع تاريخ الاختراعات الكبرى ففيه شهد عام 1903 قيام الاخوين رايت بأول محاولة طيران ناجحة وفيه حلقت أول طائرة كونكورد كما شهد هذا الشهر الثلجي اختراع الترانسيستور وتم فيه عرض أول جهاز راديو. ولا تقل أهمية وإسهام شهر يناير في إضرام وإشعال زخم الاختراعات العلمية المفصلية ففيه قام المخترع الأمريكي صمويل مورس عام 1838 بإرسال أول برقية بجهاز التلغراف وفية تم اخترع الفولاذ وإصدار براءة اختراع الميكروويف والأهم من ذلك أن يوم 22 يناير لعام 1939 شهد بداية تجارب الانشطار النووي والتي سوف تقود لاحقا لتصنيع القنبلة الذرية. 
أما نصيب شهر فبراير من الاختراعات التقنية التي غيرت وجه العالم ففيه أصدر المخترع الامريكي جراهام بيل براءة اختراع الهاتف وفي شهر فبراير تم إجراء أول تجربة للبث التلفزيوني وفيه ايضا تم أول استخدام لجهاز الرادار وتشغيل أول جهاز كومبيوتر واختراع النايلون وإصدار براءة اختراع أول محرك ديزل واختراع آلة الخياطة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق