الجمعة، 6 يناير 2017

( في زمن الحرب .. اللوحة الفنية أقوى من ألف خطبة )

لوحة جرونيكا لبيكاسو .. ما مدى تطابق مأساة حلب مع مأساة مدينة جرونيكا الاسبانية
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في الاوضاع الاعتيادية يقال أن (الصورة أبلغ من ألف كلمة) لكن في حالة الهرج والمرج والاهوال المصاحبة للحروب والقتال والدمار يكون الواقع المر عدسة مكبرة تُبرز حقيقة الاشياء ولهذا الصورة الضوئية أو اللوحة الفنية ليست أبلغ من ألف كلمة بل أبلغ من الف خطبة. بدون جدال يعتبر الرسام الاسباني بابلو بيكاسو أحد اشهر الرسامين في جميع العصور لكن هل من قبيل المصادفة أن تكون لوحته المسماة (جورينكا Guernica) والتي هي أهم وأبرز لوحاته التشكيلية على الاطلاق وأكثرها تأثيراً هي لوحة عن الحرب والدمار. الجدير بالذكر أن أجواء وملابسات ودوافع بيكاسو للقيام برسم هذه اللوحة الشهيرة تتطابق تماما مع حالة المأساة الانسانية الشنيعة في مدينة حلب السورية التي تعرضت لقصف جوي أثيم ومروع. جورينكا هي مدينة بائسة في إقليم الباسك شمال اسبانيا وأثناء الحرب الاسبانية الاهلية قامت طائرات حربية ألمانية وإيطالية مساندة لقوات القوميين الاسبان بقصف المدينة عام 1937 مما تسبب في مجاز رهيبة للمدنيين ودمار شامل لهذه المدينة وقد كانت شدة القصف مقصودة بهدف إحداث صدمة الرعب لغرض ترويع وإجبار الحكومة الجمهورية الاسبانية على الاستسلام وهو ما حصل لاحقا. ما يهمنا هنا أن بيكاسو قام برسم هذه اللوحة المميزة والتي تعرض مأساة الحرب والدمار والمعاناة التي تتسبب فيها الحروب للشعوب والبشر. الغريب في الامر أن هذه اللوحة التي قصد منها دعاية سياسية في الاصل (لأنها كانت بطلب من الحكومة) تحولت إلى أيقونة (لوحة الحرب التي أشاعت السلام). حيث طافت هذه اللوحة العالم بالرغم من أنها لوحة جدارية ضخمة في جولة هدفت هذه لنشر السلام والتحذير من الحرب ولهذا لا غرابة أن نسخة طبق الأصل منها كانت معلقة أمام مدخل قاعة مجلس الامن في الامم المتحدة. لكن ما أصابني بالذهول غير المتوقع أنني كنت أعتقد أن تلك اللوحة في الامم المتحدة هي اللوحة الاصلية ولذلك قبل عدة سنوات عندما كنت أتتبع لوحات بيكاسو في المركز الوطني للفنون (متحف الملكة صوفيا) في مدريد إذا بي اشاهد تجمع كبير للجمهور أما لوحة ضخمة كانت هي عينها لوحة جورينكا ولذا أخذت أتمتم بيني وبين نفسي شعر نزار قباني عن غرناطة (ما أطيب اللقيا بلا ميعادِ).
وبالعودة لموضوع ارتباط الحرب والقتال بالحركة الفنية التشكيلية وتسبب أهوال وويلات الحرب في إلهام أشهر واهم اللوحات الفنية الخالدة يعلم الجميع أن أبرز وأشهر الرسامين العالميين بعد بيكاسو هو مواطنه الرسام الاسباني المعروف سلفادور دالي والذي كان هو الآخر بعض أهم أعماله الفنية على الاطلاق مرتبطة بالحروب ومآسيها مثل لوحته الفنية الشهيرة التي سماها (وجه الحرب) والتي رسمها عام 1940 ميلادي أي في بدايات الحرب العالمية الثانية. هذه اللوحة البشعة تمثل رسمة وجه بلا جسد في صحراء قاحلة حيث أن الوجه الذابل والكئيب يعطي (ملامح) بؤس الحرب ودوامتها الفظيعة. في واقع الامر تجدر الاشارة إلى أن سلفادور دالي كان مهموس وحساس جدا لفظائع ومشاكل الحروب والقتال لدرجة أنه كان يفخر بأنه تنبأ بحصول الحرب الاهلية الاسبانية قبل وقعها بفترة من الزمن وبسبب هذا الحس الداخلي أو الهاجس premonition قام سلفادور دالي برسم لوحته الذائعة الصيت (هاجس الحرب الاهلية premonition of civil war) قبل اندلاع الحرب الفعلية بستة أشهر. وفي هذه اللوحة يصور سلفادور دالي العنف والهلاك الناتج من الحرب الاهلية في صورة وحش بشري يتصارع مع نفسه مما يؤدي إلى (انشطاره الداخلي) بحيث تصبح اليد في جزء منه في حالة نزاع وتدافع مع الرجل في الشطر الآخر من الجسم.
وبالجملة ينبغي ان لا نستغرب (هوس وهاجس) الرسامين التشكيليين اتباع المدرسة الفنية السريالية وخوفهم من الحرب وكثرة اعمالهم الفنية والتشكيلية المرتبطة بالحروب والدمار فكما هو معلوم فإن أصل ظهور وانتشار المذهب والاتجاه السيريالي في الفنون كان أثناء الحرب العالمية الكبرى (الحرب العالمية الاولى) والتي لم يسبق للبشرية أن تعرضت لمثل هذه الدرجة والبشاعة للفظائع والجرائم المتعلقة بالحروب.    
بشاعة وقسوة الحرب الاهلية وانعكاسها على الاعمال الفنية الشهيرة نلتقي بها مرة ثالثة مع ثالث أشهر رسام اسباني وهو الفنان التشكيلي الكلاسيكي فرانسيسكو جويا Goya أحد أهم الرسامين التشكيلين في عصر الأنوار والرسام الملكي في بلاط الملك الاسباني تشارلز الرابع. وكما كانت أشهر وأهم اللوحات الفنية لبيكاسو وسلفادور دالي مرتبطة بشكل اساسي بمآسي وأهوال الحرب والقتال نجد كذلك أن الرسام جويا اشتهر بسلسلة لوحاته التي تعرف باسم (كوارث الحرب) والتي هي في غالبها انعكاس لانطباعات هذا الرسام عن تعرض بلده اسبانيا للاحتلال الاجنبي على يد جيوش نابليون بونابرت في عام 1807م. ومع ذلك تعتبر لوحة فرانسيسكو جويا المسماة : الثالث من مايو 1808 (البعض يسميها لوحة الإعدام أو المُعدَمين) أكثر لوحاته شهرة على الاطلاق وهي التي رسمها بهدف تخليد بطولة المقاومة الاسبانية في تصديها للاحتلال الجيش الفرنسي. وتُظهر هذه اللوحة فضائع وجرائم الحرب من خلال تمثيل قيام فرقة إعدام فرنسية بإطلاق النار وتصفية عدد من المدنيين العزل حيث تتم عملية الاعدام على شكل دفعات ففئات من أعدمت بالفعل وفئات أمام فوهات البنادق بينما دفعة ثالثة تنتظر مصيرها وهي في ذروة الحزن والفزع. بقي أن أقول أنه إذا كان لوحات بيكاسو هي أبرز ما في متحف المركز الوطني للفنون (متحف الملكة صوفيا) في مدريد فقد لاحظت أن الرسام فرانسيسكو جويا هو الملك المتوج بلا منازع في متحف برادو في مدريد وهو أحد أهم المتاحف الفنية على الاطلاق في أوروبا في حين لم أجد ولا لوحة واحدة لبيكاسو في هذا المتحف الراقي.
من حلب السورية إلى جورينكا الاسبانية .. يا أخت أندلسٍ عليكِ سلام
ما أود التأكيد عليه أنه توجد محاور تطابق متعددة بين مأساة حلب السورية المعاصرة وبين مأساة جورينكا الاسبانية الغابرة فكلاهما كانت نتائج حرب أهلية طاحنة تسببت في انشطار وانقسام حاد للمجتمع السوري والاسباني وكلا المدينتين تعرضتا لعدوان خارجي إجرامي من دول مساندة للطغيان والقهر. فكما دعم الشيوعي الروسي والشيعي الايراني نظام الاسد المجرم في حلب دعمت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية النظام العميل الاسباني المعروف زورا وبهتانا بحركة القوميين الاسبان. وعلى الرغم من أن أسم هذه النزاع الدموي (الحرب الاهلية) إلا أنها في واقع الامر كانت أبعد من  تكون محصورة في نطاقها المحلي فهي كانت بالفعل حرب بالوكالة بين الالمان والايطاليين الذين يدعمون المنشقين الفاشيين من القوميين الاسبان بينما كان الاتحاد السوفيتي وفرنسا وبريطانيا وأمريكا يدعمون حكومة الجمهورية الاسبانية. التكتيك الحربي الشنيع المسمى (الصدمة والترويع shock and awe ) استخدم كثيرا في ساحات القتال والذي يهدف إلى بث الرعب والخوف في صفوف الخصم مما يدفعه للاستسلام أو التهجير والاخلاء وهذا ما حدث مع عصابات الهجناه الاسرائيلية وترويع الفلسطينيين في حرب 1948 وترويع حزب الكتائب المسيحي للمسلمين السنة في بيروت الغربية في الحرب الاهلية اللبنانية وكذلك في القصف المجرم والاثيم للروس على مدينة جروزني الشيشانية عام 1994 واستخدمه الصرب في قصف مدينة سراييفو عام 1992 ويستخدمه الروس اليوم بقصف مدينة حلب وهو نفس ما حصل عام 1937 في القصف الشنيع والمجرم لمدينة جورينكا الاسبانية كما سبق ذكره. يبقى أن نقول أن الظلم والطغيان والقهر مهما طال وانتشى وتسيد لابد أن يزول يوما ما فبعد ذلك القصف الرعيب انتصرت قوات القوميين الاسبان الفاشيين بقيادة الطاغية الاسباني اللعين فرانسيسكو فرانكو والذي وإن استمر حكمه الديكتاتوري والاستبدادي لمدة 36 إلا أن الامة الاسبانية في خاتمت المطاف تنسمت هواء الحرية وعادت أخيرا لصفوف الدول والشعوب الحرة والغنية والمستقرة.
وختاما واقعنا العربي مرير للغاية وركيك في جميع نواحيه السياسية والعلمية والادبية وحتى الفنية ولهذا لا يتوقع أن تصدر لوحات فنية تشكيلية ذات مستوى عالي تلفت الانظار لمآسي الشعوب العربية كما حصل من نجاح الفنانين والرسامين الاسبان عبر العصور في تخليد مشاعر وأحاسيس شعوبهم حيال القتال والدمار. الشعوب العربية لم تحسن إلا السخرية والاستهزاء وهو ما أنعكس في انتشار فن رسم الكاريكاتير السياسي ومع ذلك لم يتحمل الطغاة العرب حتى هذه الشخبطات الهزلية فقد تم اغتيال أشهر رسام عربي معاصر وهو الفلسطيني المناضل بالريشة ناجي العلي (مبدع شخصية حنظلة) بينما رسام الكاريكاتير السوري المعروف على فرزات وبالرغم من أنه كان يوما ما صديقاً مقرباً من الطاغية بشار الاسد إلا أن هذا لم يحميه من أن يتم ضربه والاعتداء عليه وتعمد كسر أصابعه. وعلى كل حال إن كان الرجال الشرفاء من كل جنس ولون اهتزت ضمائرهم للوحات بيكاسو حول دمار وخراب جورينكا فإن كل من في قلبه ذره من انسانية ورحمة صُدم للصور الفوتوغرافية الصاعقة لمعاناة أطفال سوريا كمثل صورة الطفل السوري الغريق إيلان كردي أو صورة الطفل السوري المصدوم والمذهول عمران أو عشرات صور الاطفال السوريين الذين أبكوا العالم لمناظرهم وهم قتلى جراء الغازات السامة أو تحت الانقاض.
وقبل أن نغادر لعل من الملائم التذكير بكارثة وقعت على مدينة أخرى من مدن الاسلام السليبة (فكلنا في الهم شرقُ) والتي تعرضت للدمار والخراب فأصبحت مدينة فقدها الاسلام وسلبت منه وتلك كانت مدينة أضنه التركية التي وقعت تحت الاحتلال البلغاري في عام 1912 بعد أن أبلت مقاومتها بلاءً حسناً كحال رجال مقاومة حلب اليوم. ولهذا رثى أمير الشعراء أحمد شوقي مدينة اضنة بقصيدة أطلق عليها أسم (الاندلس الجديدة) فكما خسرنا الاندلس خسر الشاعر في زمانه هذه المدينة الاسلامية الهامة تاريخيا والتي فيها قبور وآثار عدد كبير من سلاطين بني عثمان. في تاريخ المدن تنشر ظاهرة (التوأمة) بين المدن المتشابه نسبيا لذا سوف نستعين بقصيدة أحمد شوقي الاندلس الجديدة ونجعلها وكأنها خطاب ونداء من حلب الساليبه (الاندلس الثالثة) إلى أختها الاندلسية مدينة جورينكا الاسبانية:
يا أُخت أندلسٍ عليك سلامُ     هوت الخلافةُ عنك والاسلامُ
جُرحان تمضي الأمتان عليهما    هذا يسيل وذاك لا يلتامُ
ما بين مصرعها ومصرعكِ انقضت     فيما نحبُ ونكره الايامُ
والدهرُ لا يألو الممالكَ منذراً     فإذا غفلنَ فما عليه ملامُ
أخذَ المدائن والقُرى بخناقها    جيشٌ من المتحافلين لُهامُ
غطّت به الارض الفضاء وجوّها    وكست مناكبها به الآكامُ
تمشي المناكر بين أيدي خيلهِ      أنّي مشى والبغي والاجرامُ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق