الجمعة، 31 أغسطس 2018

( الصور الشعرية للحج .. وشح البدايات )

الشعر العربي القديم فقير في ذكر صور ومشاهد الحج والمناسك 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الشعر عاطفة تقتاد عاطفة كما قرر ذلك الشاعر العربي الكبير على الجارم ومن الحالة الوجدانية ودفق الاحاسيس وسمو الروح أثناء مناسك الحج أو حتى بمجرد التواجد على ثرى البلد الحرام، تنبثق أعذب القصائد الشعرية الخالدة. شواهد هذه القصائد الشعرية عن الحج في العصر الحديث تستعصي عن الحصر والرصد ولكن ما يصيب المرء بالحيرة أن نماذج هذه (القصائد الروحانية) في الشعر العربي القديم نادرة جدا بل تكاد تكون معدومة إلا من بعض الابيات المفردة والمبعثرة في ديوان العرب. الشاعر الداهية ابو العتاهية هو ولا شك ايقونة شعر الزهد والروحانيات وبالرغم من (عاطفته المتوقدة) وهو أيضا ممن حج البيت العتيق  ومع ذلك ربما انعكاس أرض المشاعر وشعائر الحج في ديوانه لا يتجاوز بيتين يتيمن من الشعر هما:
وأما ورب المسجدين كلاهما         وأما ورب منى والراقصاتْ
وأما ورب البيت ذي الاستار         والمسعى وزمزم والهدايا المشعراتْ

الغريب في الأمر أن المشاهد الشعرية عن الحج ومناسكه غابت كذلك عن قصائد من يعرفون باسم (شعراء الفقهاء) كمثل الامام الشافعي وعبدالله بن المبارك وعروة بن أذينه وابن حزم الاندلسي. وفي ديوان الامام الشافعي لم أجد إلا بيتن من الشعر تم فيهما توظيف (أجواء مناسك الحج) لتوصيف فيض محبة الشاعر للنبي الهاشمي عليه سلام الله وصلواته:
يا راكبا قف بالمحصب من مِنىً          واهتف بقاعد خِيفها والناهضِ
سحرا إذا فاض الحجيج إلى مِنىً         فيضا كملتطمِ الفراتِ الفائضِ
إن كان رفضا حُب آل محمدٍ              فليشهد الثقلان أني رافضي

وفي مقابل هذه البدايات الشحيحة نجد أن (شاعر الحج) الأديب المكي المعاصر أحمد إبراهيم الغزاوي تتضمن مجموعته الشعرية حوالي ثمانين قصيدة عن الحج توصف أحيانا بالحوليات حيث ألقيت أغلبها في المناسبات الرسمية أمام الملوك في الاحتفال السنوي الذي تحضره وفود الحجيج في منى. في حين ان شاعرنا الكبير أحمد قنديل أصدر مجموعة شعرية تحمل عنوان (مكتي قبلتي) ضمنها عشرات القصائد له ولكبار شعراء الحجاز. ولتعلم أيه القارئ العزيز غزارة القصائد المعاصرة عن الحج والمشاعر المقدسة تكفيك إطلاله خاطفة على الانتاج الشعري المنشور في مجلة رابطة الادب الاسلامي أو مجلة الحج أو حتى الملاحق الثقافية بالصحافة المحلية في موسم الحج.
وبعد هذا المدخل ليس من المستغرب أن نجد أن الانتاج الشعري في العصر الجاهلي شحيح هو الآخر في الصور الادبية عن الحج ومواضع النسك بالرغم من المفارقة الكبرى لحميمه الارتباط بين شعراء ذلك الزمن وبين أرض المشاعر المقدسة. ألم تكن قصائد الشعراء تعلق على أستار الكعبة (المعلقات) وألم يكن أغلب شعراء الجاهلية يشهدون موسم الحج كل سنة لكي يتنافسوا بينهم أيهم أجود شعرا في اجتماعاتهم الادبية في سوق عكاظ وسوق مجنه وسوق ذي المجاز قبل أن ييمموا مسيرهم إلى حج البيت العتيق. فلماذا اذا خفتت كثيرا انعكاسات أجواء الحج ومشاهده في شعر أهل الجاهلية.
النابغة الذبياني الخبير الشعري واللغوي كانت تعقد له قبة حمراء من أدم في سوق عكاظ فتأتية الشعراء وتعرض عليه اشعارها فيفاضل بينها وبهذا هو كثير التواجد في موسم الحج ومع ذلك لم يسجل عنه إلا ابيات ضبابية غير واضحة عن شعيرة الحج عندما أعتذر لتلك المرأة التي دعته في أشهر الحج للسمر عندها فرد عليها بانه لا يحل له لهو النساء وهو متوجه في طريقه للبيت الحرام يرجو بر الاله. وسبحان من غير حال النابغة الذبياني من حال مجون القول في أفحش أبيات جنسية قالتها العرب قديما في وصف عملية الجماع إلى حال التعفف عن اللهو والسمر مع النساء. ولأسباب متعددة (من ضمنها الوصف السابق الذكر لزوجة الملك النعمان المساه المتجردة) هرب النابغة من النعمان ملك الحيرة وقال فيه قصائده المشهورة (باعتذاريات النابغة) وهنا لا نكاد نجد في كامل ديوان النابغة الشعري إلا شطر بيت واحد فقط يتعلق بشكل صريح بالحج في صورة الطواف والتمسح بالبيت العتيق. إذ يقسم النابغة بالله الذي زار وطاف وتمسح ببيته الحرام مرارا أنه ما قال في النعمان قولا سيئا وإن كان كاذبا فأصاب الله يده بالشلل:
فلا لعمرُ الذي مسّحتُ كعبته             وما هريقَ على الانصاب من جسدِ
ما قلت من سيءٍ مما أتيت به           إذا فلا رفعت سوطي إلى يدي

وهذا الشاعر الجاهلي زهير بن ابي سلمى الذي قال فيه أبنه كعب (أنا ابن الذي قد عاش تسعين حجة) فهو قد عمّر وسأم من الحياة في سن الثمانين لطولها ومن المحتمل أنه خلال تلك السنوات (أو الحجج كما وصفها كعب) قد زار البيت الحرام حاجا ومع ذلك لم نجد في ديوانه هو الآخر إلا شطر بيت عن مظاهر التعبد حول الحرم:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله       رجالٌ بنوه من قريشٍ وجُرهمِ
لن نستطيع أن نسترسل في تقصي أحوال فحول شعراء المعلقات مع صور الحج ومشاهد أماكن النسك فطرفه بن العبد قتل في ريعان الشباب وأمرؤ القيس شغل بطلب الثأر والمجون وعنترة عبد مملوك والاعشى ربما شغلته اسفاره ورحلاته المتكررة لمدح الغساسنة والمناذرة واشراف اليمن.

أما فيما يخص الشعر والشعراء في صدر الاسلام فيبدو أن الوحدة الموضوعية في القصيدة الشعرية بدعة متأخرة بمعنى أن الشعراء المخضرمين الذين عاصروا الجاهلية وشهدوا بداية الدين الحنيف تأثروا بالأسلوب الشعري القديم القائم على تعدد وتشعب المواضيع في القصيدة الواحدة. ولهذا موضوع (الصور الشعرية للحج) لو وجد في أي قصيدة فسوف يكون نصيبه أبيات محدودة فقط. وربما هذا يفسر إلى حدا ما ندرة الابيات الشعرية عن الحج في شعر حسان بن ثابت وكعب بن زهير والخنساء والنابغة الجعدي (مادح الرسول) فضلا عن الشاعر الفحل لبيد بن ربيعة صاحب المعلقة والذي ترك الشعر بعدما أسلم ولم يقل بعد ذلك إلا بيتا واحدا من شعر. ولعل مع ذلك تحسن الاشارة الخاطفة لنماذج توظيف شعراء صدر الاسلام لمشاعر الحج في أغراضهم الشعرية مثل رثاء حسان بن ثابت للرسول الكريم:
وامست بلادُ الحَرم وحشاً بقاعها         لِغيبةِ ما كانت من الوحي تعهدُ
وبالجمرةِ الكبرى له ثمّ أوحشت          ديار وعرصات وربع ومولدُ
وعلى نفس النسق رثاء الخنساء لأخيها صخر:
حلفتُ بالبيت وزوّارهِ              إذ يُعملون العيس نحو الجِمارْ
لا أجزع الدهر على هالكٍ         بعدك ما حنّت  هوادي العِشارْ

مشاهد شعر الحج في العصر الأموي
بعد صدر الاسلام وكثرة الفتوحات تدفقت الاموال على الامة الاسلامية وبهذا تغيرت الحياة الاجتماعية في عهد الأمويين فعم الترف واللهو في المدن الكبرى بينما أنتشر الفخر بالأحساب والطعن في الانساب بين أهل البادية ولهذا نجد أن أجواء الحج ومشاهد أرض المشاعر المقدسة يوظفها الشعراء لأغراض شعرية ابعد ما تكون عن (الأدب) سواء في شعر المجون أو شعر المفاخرة والهجاء. الفطرة السليمة ترى في اجتماع الحجيج بمنى وعرفات سمو شعائر الاسلام وتوكيد أواصر الاخوة الايمانية بينما شعراء النقائض وقصائد الهجاء يرون تجمع الحجيج فرصة لتهديد خصومهم بالمفاخرة عليهم وتحقيرهم أمام الاشهاد. لم يكتفِ الفرزدق وجرير بسفههم المعهود بالتهارش الشعري فيما بينهما أمام الجموع في سوق المربد بالبصرة بل نقلوا نقائضهم ونقائصهم تلك للمحفل الأعظم في البلد الحرام. حدث وأن التقى الفرزدق وجرير في الحج فتوعد الفرزدق جرير بأنه سوف يفاخره في مشهد منى:
إنك لاقٍ بالمحصب من منى         فخاراً فخبرني بمن أنت فاخرُ
فإن كُليباً من تميم وإنما              غدا بك من قيس بن عيلان عاهرُ
ولقد كان جرير أحكم وأشرف في رده حيث عظم شعائر الله وأكتفى بالرد بأنه سوف يفخر (بلبيك اللهم لبيك). ومع ذلك لم يسلم جرير من تعمد هجاء الفرزدق وتوظيف اجتماع الحجيج في منى وعرفات وأنه مكان ملائم لكي يخزي الله عشيرة الفرزدق آل مجاشع ويتحدث أهل قريس بغدرهم:
ألم تر أن الله أخزى مجاشعاً              إذا ضم أفواج الحجيج المعرفٌ
ويوم منى نادت قريش بغدرهم          ويوم الهدايا في المشاعر عكّفُ
ويبغض ستر البيت آل مجاشعٍ           وحجابه والعابد المتطوفُ

الطامة الكبرى والعار المخزي أن بعض أهل المجون من الشعراء لم يجد في اجتماع الحجيج وتزاحمهم في أرض المشاعر إلا فرصة للفسوق والغزل والتهتك. فينقل عن بعض الشعراء أنه كان يبتهج ويسعد بموسم الحج لأنه فرصته للهو:
يا حبذا الموسمُ من موفدِ            وحبذا الكعبة من مشهدِ
وحبذا اللاتي يزاحمننا              عند استلام الحجر الاسودِ
وأما حامل لواء المجون والطيش والسفه في استغلال موسم النسك لتصيد النساء والتحرش بهن فهو بلا منازع عمر بن ابي ربيعة فهو كصاحبة السابق الذي أحب الطواف لمزاحمة النساء فهذا أيضا كان يطرب لموسم الحج لأنه اشبه (بموسم الصيد) لمغازلة نساء وبنات الحجيج ولهذا قال:
ليت ذا الدهر كان حتما علينا           كل يومين حِجةً واعتمارا
ولهذا وللأسف تحول صحن المطاف من موقع عبادة وخشوع إلى موعد للغرام والهيام والاعلان عن ذلك على رؤوس الاشهاد والعياذ بالله:
قف بالطواف ترى الغزال المحرما         حـج الحجيـج فعـاد يقصـد زمزمـا
عـنـد الـطـواف رأيـتـه متلـثـمـا              للـركـن والحـجـر المعـظـم يلـثـمـا
أقسمـت بالبيـت العتيـق لتخـبـري           ما الأسـم قالـت مــن سـلالـة آدمــا
الاســم سـلـمـى والـمـنـازل مـكــة          والـدار مـا بيـن الحجـول وغيلمـا
قلـت عدينـي مـوعـداً أحـظـى بــه          أقضي بــه ما قـد قضـاه المحرمـا
فتبسمـت خجـلاً و قالـت يــا فـتـى          أفســدت حجـك يـا مُحـل المُحـرمّـا

لقد تسبب شعراء الغزل الفاحش مثل عمر بن أبي ربيعة والشاعر العرجي وغيرهما بفتنة النساء وتأثرهم بأشعارهم فيذكر أن واعظ المدينة أبي حازم بن دينار شاهد امرأة حسناء في الحج قد شغلت الناس لفرط جمالها فقال لها: أمة الله خمري وجهك فقد فتنت الناس. فقالت له: إحرامي في وجهي أصلحك الله يا أبا حازم، وأنا من اللواتي عناهن العرجي بقوله:
أماطت كِساءَ الخزّ عن حر وجهها           وأدنت على الخدين بُرداً مهلهلا
من اللاّءِ لم يحجُجنً يبغين حِسبةً             ولكن ليقتلن البريءَ المغفلا
وفي مثل هذه الاجواء التي يعتريها بعض الغبش والخبث من تصرفات بعض الحجاج نحو النساء والجواري يمكن ان نلتمس العذر لأبي العلاء المعري في تهوره الكبير عندما اسقط (فرضية الحج) على النساء بقوله:
أقيمي لا أعُدُّ الحج فرضاً           على النساء ولا العذرى
ففي بطحاء مكة شرَّ قومٍ            وليسوا بالحماة ولا الغيارى

وللأسف يبدو انه تكرر في التاريخ انتهاك حرمة الحجاج والاعتداء على ارواحهم ونسائهم وهذا ما سبب قصيدة الهجاء التي خص بها أحمد شوقي الشريف حسين عندما أنفلت الأمن في زمن حكمه:
ضجًّ الحجيج وضجًّ البيت والحرمُ        واستصرخت ربها في مكة الأممُ
أهين فيها ضيوف الله واضطهدوا        إن أنت لم تنتقم فالله منتقمُ
أفي الضحى وعيون الجند ناظرةٌ         تسبى النساء ويؤذى الأهل والحشمُ

أدب الحج والمنظومات الشعرية المطولة
بعد أن كانت الصور الشعرية والمشاهد الادبية عن الحج شحيحة ونادرة في قصائد الشعر العربي القديم كما بينا سبقا أصبحت هذه الصور منتشرة بشكل ملحوظ في شعر الهجاء والفخر وشعر الغزل في العصر الأموي لكنها مع ذلك ما زالت من الأبيات ذات العدد في نسيج متشعب من المواضيع الشعرية في القصيدة الواحدة. وبالرغم من أن الوحدة الموضوعية (وحدة الغرض) هي بدعة حديثة نسبيا في الشعر العربي إلا أننا يمكن أن نجد لها بعض النماذج المتعلقة بالحج مع الرعيل الأول من شعراء العصر العباسي. فمثلا الوحدة العضوية المرتبطة بأحاسيس الشاعر اثناء أدائه مناسك الحج نجدها في قصيدة خاصة بالحج تنسب إلى الشاعر أبي نواس (وسبحان الهادي) يقول في تلبيته للحج في قصيدة من أثنى عشر بيتا منها:
إلهنا ما أعدلك             مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك           لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك      ما خاب عبد سألك
لبيك إن الحمد لك         أنت له حيث سلك
التعبير عن المشاعر الروحانية المتولدة أثناء الحج تعتبر طفرة في أدب الحج عما كان سابقا وبالإضافة لقصيدة التلبية لأبي نواس توجد قصيدة روحانية وفلسفية لجلال الدين الرومي عنوانها (آه ايها الذاهب للحج). تجديد شعري آخر في أدب الحج لم يكن منتشر قديما يتعلق بالتوصيف التفصيلي لما يحدث مع الشاعر اثناء تأديته لمناسك الحج واقدم الابيات في هذا الامر حسب ما وجدته هي سبعة ابيات ضمن مقصورة أبن دريد يصف فيها مراحل أدائه للحج والعمرة والتنقل بين المشاعر المقدسة. مقصورة أبن دريد عدد ابيتها حوالي مائتين وأربعين بيتا وتخصيص سبعة أبيات لوصف مناسك الحج أمر شبه معقول ولكن منذ مطلع القرن الثامن الهجري يمكن أن نتتبع بدايات ظهور ما يمكن وصفه (بالمطولات الشعرية) عن أدب الحج. فمثلا في القصيدة الميمية لأبن القيم الجوزية (وهي قصيدة وعظيه اشتهرت باسم: رحلة إلى بلاد الأشواق) نجد أن هذه القصيدة الطويلة ذات 181 بيتا شعريا خصص لموضوع مشاهد الحجيج وتنقلهم واشواقهم ومشاعرهم حوالي خمسين بيتا من الشعر ومطلع الجزء الخاص بأشواق الحج:
أما والذي حج المحبون بيته                 ولبّوا له عند المَهَلّ وأحرموا
يُهلون بالبيداء لبيك ربنا                      لك الملك والحمد الذي أنت تعلمُ
تراهم على الانضاءِ شعثاً رؤوسهم         وغبرا وهم فيها أسرُ وأنعمُ

مشاعر الاشواق ومشاهد ألم الفراق بعد انتهاء مناسك الحج سطرها العلامة ابن حجر العسقلاني في قصيدة جميلة وطويلة نسبيا من أربعة واربعين بيتا تدور عن يوميات رحلة الحج. ومن صور ومشاهد أدب الحج (القصيدة الذهبية والحَجة المكية والزورة المحمدية) للواعظ والفقيه الشافعي محمد بن رشيد البغدادي المتوفي في منتصف القرن العاشر الهجري وتنسب هذه القصيدة بشكل خاطئ للإمام اليمني المعروف محمد بن اسماعيل الأمير كما حقق ذلك الشيخ حسن بن محمد المشاط من كبار علماء الحرم المكي الشريف. وبعد أن كانت دواوين الشعر لمشاهير الشعراء لا يوجد بها إلا أبيات شعرية محدودة العدد عن مشاهد ومشاعر الحج نجد هذه القصيدة المفرطة الطول تشتمل على 283 بيتا من  الشعر. ومع ذلك الجودة الأدبية لمثل هذه المطولات الشعرية عن مناسك الحج منخفضة لأنه فرق بين الشعر التعليمي والتوثيقي وبين شعر بث المشاعر والاحاسيس.

وفي الختام قد يصعب أيجاد تفسير أدبي وتاريخي حاسم في تعليل (شح البدايات) للصور والمشاهد الشعرية للحج ومع تلك الندرة للأبيات المتناثرة عن الحج والبلد الحرام إلا أنها لصدق عاطفتها وابداعها الأدب ما زالت أكثر تواجد في الذاكرة الشعرية من مئات القصائد الحديثة عن الحج. مئات الشعراء دبجوا القصائد عن الشوق للبلد الأمين والحرم الشريف ومع ذلك المهم صدق المشاعر لأن بيت من الشعر لأبن عمرو الجرهمي فاقها شهرة وترددا على الألسن:
كأن لم يكن بين الحَجونِ إلى الصفا        أنيسٌ ولم يَسمر بمكة سامرُ
منذ الفترة الأدبية الموصوفة بعصر الجمود والخمول (يعترض الباحث الكبير الدكتور عمر فروخ على توصيف هذه الفترة بعصر الانحطاط) تدهورت جودة الشعر العربي وربما من ضمن أسباب ذلك ظهور بدعة (شعر المناسبات). أهم ركيزة في الشعر العاطفة الصادقة وهذا مقتل القصائد والاشعار التي تقال فقط كنوع من (أداء الواجب) لحلول مناسبة معينة. الغالبية العظمى من قصائد المناسبات الدينية أو الوطنية أو القومية أو الاجتماعية سرعان من تتلاشى من الذاكرة. كلنا نعلم قصيدة البردة في مدح الرسول الكريم للبوصيري وهي قصيدة كتب لها  الذيوع والخلود ولكن نتيجة لأن البوصيري أوقف شعره في مدح الرسول الكريم لهذا ألزم نفسه أن يكتب قصيدة في في كل موعد ذكرى للمولد النبوي الشريف ولكن للأسف خفت جذوة شعر المناسبات هذه كما خفتت وتلاشت عشرات القصائد للشاعر أحمد الغزاوي التي ألقها في موسم الحج.
المشكلة أن الشعراء مولعون بالتقليد ومتابعة اللاحق للسابق فما أن يسير شاعر في فج معين إلا تبعه بقية الشعراء منذ زمن تقليد الوقوف على الاطلال في مستهل أي قصيدة. ولهذا بعض الشعراء ومن دافع التقليد تجده يكون مأسور بشعر المناسبات ويندفع أحيانا بغير شعور لكتابة قصائد قد ينقصها الروح أو العاطفة الصادقة. وربما هذا يفسر لنا الظاهرة العجيبة في منتصف القرن الماضي عندما كتب بعض الشعراء من نصارى العرب عدد من القصائد عن مكة المرمة والكعبة ومشاعر الحج !!.  فهذا الشاعر المسيحي السوري جاك صبري شماس ينشر قصيدة عنوانها (مكة الحبيبة) والشاعر والسياسي اللبناني جبران تويني الجد يكتب قصيدة كان عنوانها (مناسك الحج) في حين الشاعر السوري جورج ميخائيل صيدح له قصيدة اسمها (الحجيج) وبهذا تكون هذه القصائد المسيحية هي بكل بساطة أمثلة ونماذج لما نسميه أدب الحج. للشعراء النصارى العرب أثر بارز في الأدب العربي منذ زمن أمية بن أبي الصلت والاخطل وحتى جبران خليل جبران وخليل مطران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وآخر من توفي من هؤلاء الرواد الكبار قبل ثلاث سنوات الشاعر المسيحي اللبناني سعيد عقل وما يهمنا هنا هو ذكر قصيدته الشهيرة (والبعض يعرفها بأغنية فيروز) التي يمدح فيها مكة وأهلها وحجيجها:
غنّيتُ مكة أهلها الصيدا             والعيدُ يملأُ أضلعي عيدا
ضج الحجيجُ هناك فاشتبكي        بفمي هنا يغر تغريدا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق