منذ زمن الاغريق .. هروب الفتاة خطيئة لا تغتفر
د/
أحمد بن حامد الغامدي
تعتبر
الروائية الانجليزية جين أوستن إحدى أبرز الرموز الأدبية عبر العصور لريادتها في
مجال الأدب النسوي وطرحها لقضايا المرأة المهيضة الجناح ولهذا تشتهر مقولة جين
أوستن التي وردت على لسان بطلة روايتها كبرياء وهوى (إيلزابيث بينيت) : من لا
يتذمر ويعترض لا يؤسف عليه. حالة الشكوى والاعتراض مفهومة ومتوقعة في دنيا المرأة
لكن فرق شاسع (وغير مقبول) بين التذمر والتنمر. التنمر سلوك عدواني وعنف وأذى نفسي
هو في أصله ردة فعل غير سوية حيال إساءة اجتماعية أو نفسية. ومن أشنع افرازات
العنف الاسري وثمرته التنمر الاجتماعي تنامي كارثة هروب الفتيات والتمرد الاخلاقي.
فحتى جين أوستين نصيرة المرأة وحاملة لواء الدفاع عنها نجد في نفس الرواية السابقة
الذكر (كبرياء وهوى) ترسم صورة غاية في التنفير للفتاة الطائشة واللعوب ليديا
بينيت البنت الصغرى التي تهرب من اسرتها المحافظة للزواج من ضابط عسكري محتال غرر
بها.
المأساة
تتجذر أكثر أن أغلب المجتمعات البشرية قد تتقبل على ممض: عودة الأبن الضال (كما في
رواية الاديب الفرنسي هنري بوردو بنفس العنوان تقريبا) لكن قل ما يحصل ذلك مع فتيات
الخطيئة الاتي يختفين و(يأخذهن الوباء) كحال هنادي في رواية دعاء الكروان لطه
حسين. الجدير بالذكر أن الوعي الجمعي
للبشرية منذ الأزل لا يقبل إلا مصير واحد لأي فتاة أو سيدة تتنمر وتنشق عن اسرتها
وهذا ما نجده ليس فقط في أحوال الناس الواقعية المشاهدة بل حتى في توهمات عالم
الاساطير. في الميثولوجيا الإغريقية نجد في أسطورة جاسون ومحاولته استرجاع عرشه أنه
لم يتمكن من سرقة الصوف الذهبي من بلاط ملك أيتس إلا بعد أن وقعت ابنة الملك
المسماة ميديا في حبه وهنا خانت والدها وقتلت أخاها ثم هربت مع عشيقها (من ميديا
الاغريقية إلى ليديا الانجليزية تستمر المأساة النسوية). ولهذا لا عجب أن نجد
المستقبل الأسود لهذه المتنمرة والفتاه الهاربة حيث تصاب ميديا لاحقا بجنون الغيرة
ضد عشيقها جاسون لدرجة أنها تقول بقتل طفليها البريئين للانتقام منه.
الفتاة
المتنمرة والخائنة لأسرتها ومجتمعها مصيرها أن تكون منبوذة ومهملة وهو مصير الفتاة
المدللة أردياني أبنة مينوس ملك جزيرة كريت. وفق الاساطير الاغريقية القديمة ساعدت
أردياني الملك اليوناني ثيسيوس على قتل الرجل الثور المعروف بالمينوتور والهروب من
متاهة قصر التيه الذي أنشأه والدها الملك ودلت أردياني ثيسيوس على فكرة مد الخيط
خلال المتاهة مما سوف يساعده لمعرفة طريق الخروج. وبعد رومانسية الفتاة أردياني
الهاربة مع حبيبها ثيسيوس تبدأ الدراما والتراجيديا حيث تذكر الاساطير الاغريقية
أن حبيبها ذاك الذي ضحت بأسرتها من أجله هجرها بطريقة غريبة حيث تركها وحيدة عندما كانت نائمة على جزيرة
ناكسوس.
أما
اشهر (سيدة هاربة) من بيت الزوجية فهي ولا شك الاميرة هيلين تلك التي خلد قصتها
الدرامية الشاعر الأغريقي البارز هوميروس في ملحته الشعرية التراجيدية (الإلياذة)
والتي تحكي هروب الفتاة المغرر بها هيلين زوجة مينلاوس ملك اسبارطة. فيما أحسب فإن
القصة معروقة للجميع فبسبب هروب الزوجة هيلين مع الشاب اللعوب باريس اندلعت إحدى
أكبر الحروب الاغريقية والتي بعد حصار طويل لمدينة طروادة الاسطورية انتهت الدراما
باجتياح المدينة وحرقها بالكامل. القصة مشهورة كما ذكرت لكن الأمر غير المعروف
بالضبط ماذا كان مصير تلك الأميرة الهاربة فحسب الشاعر الاغريقي ستيسكوروس الذي
وصف بدوره هو الاخر قصة حصار طروادة فقد ذكر أنه بعد سقوط المدينة تجمع الإغريق
الغزاة مع أهل طروادة لرجم وقتل تلك المرأة المشؤومة. البعض يذكر أن مصيرها كان كما
هو متوقع القتل بالسيف على يد زوجها المغدور الملك مينلاوس في حين أن البعض الاخر
وأن كان وافق على الاحتمال الاخر من وصف الاحداث أنها نجت وعادة للحياة مع زوجها
الملك إلا أن شؤم أفعالها الشنيعة لاحقتها في آخر حياتها فحسب رواية المؤرخ
الاغريقي باوسانياس أنه قام أهل جزيرة رودوس بشنقها من فوق شجرة.
صحيح
أن ما سبق هو مجرد أساطير من نسج الخيال ولكن الذاكرة الجمعية للبشرية عبر القرون
الطويلة سجلت مئات الاحداث والقصص الحقيقة التي وجدت طريقها في كل الثقافات
الانسانية وبكل اللغات المحكية وفي أغلب الاقاليم الجغرافية والتي كلها رسخت
الحقيقة الصاعقة: من يتنمر يتدمر. وفي مجال الرواية والأدب يمكن كتابة مجلدات
متواصلة من ذكر الامثلة التي ناقشت شؤم العاقبة وسوء الخاتمة للمرأة المتحررة أو
الفتاة المتنمرة ويكفينا هنا سرد أبرز تلك الاعمال الادبية العالمية بالغة
الانتشار والشهرة من مثل رواية (مدام بوفاري) للأديب الفرنسي غوستاف فلوبير أو
رواية (فتاة من روما) للكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا أو رواية (آنا كارينينا)
لأديب روسيا تولستوي أو رواية (نعومي) للروائي الياباني تانيزاكي أو رواية (صورة
سيدة) للكاتب الامريكي هنري جيمس أو رواية (بيت الأرواح) للكاتبة البارزة في
أمريكا اللاتينية إيزابيل أيندي أو رواية (ونسيت أنني امرأة) للروائي المصري إحسان
عبدالقدوس أو في واقعنا المحلي رواية (أنثى تشطر القبيلة) لإبراهيم شحبي.
لماذا
كل هذا الزخم المتدفق من الاعمال الادبية العالمية والافلام السينمائية الأوسكارية
لتجسيد مأساة ودراما دوامة التشرد والاستغلال والانتحار التي تقع فيه الفتاة
المتنمرة أو المرأة المتذمرة، لأن قصتها في غالب هي الحبكة الروائية المثالية
لإبراز الدراما والتراجيديا في أعلى تجلياتها. وهذا بكل بساطة هو بالفعل ما حصل
ويحصل وسوف يحصل لأكثر حالات هروب النساء من رمضاء العنف الاسري إلى جحيم ونار المجتمع
الطاحن للفريسة الشاردة من القطيع. ولو تتبع المرء منا محور أي رواية ادبية أو فلم
سينمائي أو أغنية فنية تدور عن (الفتاة الهاربة) أو (الأنثى المتحررة) أو (السيدة
المستقلة) فلا شك أنه سوف يجد أغلب هذه الاعمال والمنتجات الفنية والادبية سوف
تركز في النهاية على الجانب الدرامي المأساوي لحياة لتلك الفتاة الساذجة وكيف سوف
يتم تحطيم مشاعرها واستغلال جسدها واحتقار رعونتها وبساطة تفكيرها في عاقبة ومألات
الأمور.
في
الآونة الغيرة بدأت أخبار الفتيات الهاربات والنساء المتنمرات بالتزايد في مجتمعنا
المحلي وبطبيعة الحال يمكن محاولة التصدي لهذه الظاهرة الكارثية بأسلوب الوعظ
الديني أو استثارة بقايا الحياء القبلي لدى المرأة أو استعراض الإحصائيات
الاجتماعية أو سرد الدراسات النفسية والسلوكية. ولكنني فظلت توظيف جانب حب الشغف
بالروايات والقصص لدى الفتيات والنساء إجمالا لكي أحذرهن منذ (البداية) بأن
(نهاية) قصتهن الشخصية واضحة المعالم ومكررة المأتم إذا أصررن على سلوك ذلك الطريق
الموحش واتخاذ ذلك المصير البائس وأن الأمر لن يختلف كثيرا عما توقعه يوما ما رئيس
الوزراء الانجليزي ونستون تشرشل (لا أعدكم إلا بالدم والدموع والبكاء والألم).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق