د. أحمد بن حامد الغامدي
تشتهر الولايات المتحدة الأمريكية بكونها تمتلك أكبر مبنى برلمان في العالم من حيث الحجم كما إنها تحتوي أكبر عدد من السجون والمساجين ولهذا كان يتم السخرية من الديمقراطية المنقوصة في بلاد العم سام بأنها ربما ينطبق عليها المقولة المشهورة (البلد الذي له برلمان ضخم لديه سجون ممتلئة). الديمقراطية الحقة ممارسة وليست مظاهر ومباني وبهرجة إعلامية وربما بسبب هشاشة المنظومة الديمقراطية في أمريكا حصلت فضيحة اجتياح مبنى الكونجرس يوم الأربعاء الماضي. في العديد من الدول والحضارات منظومة الحكم تكون راسخة وقائمة على عدد من الدعائم وفي حال خُلخلت إحدى هذه الدعائم تسقط منظومة الحكم تلك أو تضعف بشكل حاد. ومن أبرز هذه الدعائم المجالس التشريعية التي تعرف بالبرلمان أو مجلس النواب وعبر التاريخ حصلت العديد من الأحداث والشواهد التي تدل على أن من يحاول الاعتداء أو الاستنقاص أو التعطيل لهذه المجالس التشريعية والرقابية يتعرض لنكبة و (لعنة) خسارته لمقاليد الحكم والسلطة.
ولنبدأ بالقصة العجيبة للإمبراطور الروماني
غريب الأطوار كاليجولا والذي حكم الإمبراطورية الرومانية لمدة أربعة سنوات بطريقة
مجنونة وبديكتاتورية وطغيان شنيع. وعندما لم يكتفي باغتصاب زوجات كبار رجالات الدولة
قام بتعمد ازدراء أعضاء مجلس الشيوخ الروماني عندما أصدر أوامره بجعل حصانه المفضل
إينسيتاتوس عضوا في البرلمان وأقام حفلة عشاء كبرى بمناسبة تعيين حصانه في البرلمان
وقدم للضيوف فيها وجبة مكونة فقط من الشعير والتبن. وبعد هذه الإهانة الشنيعة حصلت
عدد من محاولات الاغتيال لذلك الإمبراطور المجنون التي دبرها بعض أعضاء مجلس
الشيوخ وأخيرا حلت عليه لعنة البرلمان وتم قتله في الرابع والعشرين من يناير لعام
41 ميلادي.
حاكم
وسلطان آخر فقد حياته ومملكته من جراء (لعنة البرلمان) الذي تعمد إهانة أعضائه
والاستبداد بهم وكان ذلكم الملك الإنجليزي تشارلز الأول الذي تهور باقتحام
البرلمان البريطاني عام 1629م بهدف اعتقال خمسة من أعضاء البرلمان المعارضين له.
كان هذا الفعل المتعجرف من الإمبراطور الإنجليزي سبباً في إحداث قلاقل سياسية في
مملكته تدرجت من حل البرلمان إلى اندلاع حرب أهلية تم في نهايته خلع الملك والحكم
عليه بالإعدام مما أضعف مكانة الحكم التاج لملكي البريطاني وتحويله لاحقا لمجرد
ملكية دستورية تملك ولا تحكم.
زلازل سياسي هائل ثالث نتج من العلاقة
المضطربة مع البرلمان والمجلس التشريعي هو ما حصل في نهاية الخلافة العثمانية مع
السلطان عبد الحميد الثاني وقضيته مع البرلمان التركي المسمى مجلس المبعوثان. كحال
أسلافه من قبله كان السلطان عبد الحميد يحكم بشكل شبه مطلق وبالرغم من أنه استطاع
تعطيل البرلمان لمدة ثلاثين سنة إلا إنه بمجرد إن أعاد النشاط النيابي وفتح مجلس
المبعوثان عام 1908م بدأت المشاكل مع أعضاء البرلمان الذين استطاعوا ليس فقط خلعه
من الحكم ولكن التآمر لاحقا للقضاء النهائي على الخلافة الإسلامية.
سقوط آخر لإمبراطورية دولية عظمى تزامن مع الصراع
مع البرلمان والاعتداء عليه وهذا ما حصل في ختام الاتحاد السوفيتي والذي سقط بشكل
شبه فعلي من لحظة حصار الدبابات العسكرية لمبنى البرلمان الروسي (مجلس الدوما) أثناء
المحاولة الانقلابية عام 1991م ضد الرئيس ميخائيل غورباتشوف. وفي الواقع كانت
اللحظة الكاشفة للانقسام الحاد في المجتمع الروسي حصلت بعد ذلك بسنتين فقط عندما
لم يتردد المستبد الرئيس الروسي بوريس يلتسين في إصدار الأوامر بالاعتداء على مجلس
البرلمان بالقوة المسلحة بقذائف الدبابات مما تسبب في احتراق الأدوار العليا من
مجلس الدوما. وكما حصل مع الروماني كاليجولا والإنجليزي تشارلز حدث في عصر حكم
يلتسين أن أصابت لعنة البرلمان الأمة الروسية وانهارت من إمبراطورية عظمى إلى مجرد
دولة ممزقة سياسيا ومفلسة اقتصادياً.
وبالعودة بعد هذه الجولة التاريخية
والسياسية إلى الصراع السياسي والانقسام المجتمعي المعاصر في الأمة الأمريكية يصعب
أن نقول إن (لعنة البرلمان) سوف تصيب الإمبراطورية الأمريكية الحالية بالانحدار السريع
والتمزيق الأكيد. فمن الواضح أنه بالرغم من الخلل السياسي الكبير في النظام
الأمريكي إلا أن آليات وأدوات (التصحيح الذاتي) في الديمقراطية الغربية ما زالت
تستطيع كبح ظهور نظام ديكتاتوري منفلت. بسبب التخبط السياسي المشاهد الآن في أمريكا
نستطيع أن نقول إن أمريكا (أمه في ضرر) ولكن ليست (أمة في خطر). ومع ذلك أعتقد أن
(لعنة البرلمان) سوف تصيب في أدنى مستوياتها الطموح السياسي المستقبلي للرئيس الأمريكي
غريب الأطوار دونالد ترامب وأبنائه وصهره. تهور ترامب الأهوج في دفع الجموع
الحاشدة من مناصريه لاقتحام مبنى الكونجرس سوف يضعف بشكل مؤكد فرصته للترشح مرة
إضافية للانتخابات الرئاسية إن لم يتسبب في المحاسبة القانونية له.
إلا على طاري المحاسبة القانونية لأفعال الرئيس
نجد في المقابلة الشهيرة بين الرئيس الأمريكي المتعجرف ريتشارد نيكسون والمذيع
التلفزيوني البريطاني المعروف السير ديفيد فروست عندما سأله عن جريمة تجسسه على
خصومه السياسيين (فضيحة ووترغيت) فكان رد نيكسون الغريب (عندما يفعلها الرئيس فهذا
يعني أن هذا الفعل قانوني). توقع الرئيس نيكسون أنه بإمكانه أن يفعل أي شي بحكم أن
السلطة في يده هو بالضبط عين ما قصده المؤرخ الأمريكي هنري آدمز (من عائلة آدمز
التي حكم منها اثنين من رؤساء أمريكا) عندما قال: السلطة سم وتأثيرها على الرؤساء
دائما مأساوي. بالفعل فقد تسمم الرئيس دونالد ترامب حتى الثمالة بسموم ونشوة
السلطة ولذا نحن ننتظر النهاية المأساوية والمفجعة له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق