الأربعاء، 27 يناير 2021

( معاناة ترامب .. من منظور الأساطير الإغريقية )


 حتى أبسط الاشياء قد لا يستطيع الملوك والرؤساء أدائها

د/ أحمد بن حامد الغامدي


يوجد لدى الإغريق القدامى ولع عجيب بسرد قصص وأحداث المعاناة والشقاء لدرجة أنه قادهم خيالهم لاختلاق آلهة خاصة للألم والمعاناة وربة للحزن والنحيب تسمى (الجوس Algos).  الدراسات الاستقرائية في مجال علم الأساطير تشير إلى أن العديد من الأساطير لدى مختلف الحضارات والشعوب هي عبارة عن رحلة أو مغامرة كثيرا ما تنتهي بمرحلة (الانحلال) ولهذا الضعف والسقوط والشقاء ركن أساسي في حياة البشر وعالم الأساطير على حداً سواء. الصعود للقمة والمجد ثم الانحدار لدرك الخزي والمعاناة هو مصير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كما هو مصير العديد من الشخصيات الأسطورية في دنيا الميثولوجيا الإغريقية.

صحيح أن رجل الأعمال ترامب تعرض في حياته لبعض الإخفاقات الاقتصادية لدرجة إعلان الإفلاس المالي وبالرغم من تكرار (دورة) الصعود والسقوط الاقتصادي في حياته إلا أن تشبيه مسيرة حياته بقصة حياة رمز العذاب الأبدي الملك سيزيف تشبيه مع الفارق كمال يقال. في الأساطير الإغريقية القديمة نجد أن سيزيف اشتغل بالتجارة والنقل البحري ولكنه كان مخادعا وجشعا ومثال للخبث والمكر ولهذا عاقبه كبير الآلهة زيوس بالعذاب السرمدي المتمثل في قيام سيزيف بدحرجة صخرة ضخمة على سفح جبل شاهق. وكلما بلغ سيزيف أعلى القمة تفلت الصخرة منه وهوت إلى أسفل المنحدر ويكون مصير سيزيف أن يدحرجها مرة ثانية إلى القمة وهكذا دواليك. كما ذكرت تشبيه عذاب ترامب بمعاناة وشقاء سيزيف هو تشبيه ناقص لأن ترامب في هذه اللحظة في قمة ثرائه المادي ولم تبدأ بعد دورته الجديدة في الإفلاس والانحدار الاقتصادي. ما ينطبق بالفعل على ترامب هذا الأسبوع هو تشبيه المعاناة والشقاء الذي هو فيه بما حصل مع أسطورة عذاب الملك الإغريقي تانتالوس. نوع العذاب الذي وقع على ذلك الملك البائس هو شقاء غريب حيث حكم عليه أن يقف في بركة ماء تقع فوقها شجرة فاكهة ذات أغصان منخفضة. وبالرغم من وجود الماء والطعام بالقرب من تانتالوس وفي متناول يده ومشهد نظره إلا أنه كلما حاول قطف الثمار المخفضة يرتفع الغصن بعيدا وكلما حاول ارتشاف الماء بيده ينحسر الماء عنه ولهذا يبقى في عذاب أبدي بالجوع والعطش. عذاب وشقاء الملك تانتالوس سببه أنه أزعج آلهة جبل الأولمب بزعمهم أنه سرق طعامهم وأفشى أسرارهم ولهذا شقائه تمثل في حرمانه حتى من الأشياء البسيطة في الحياة التي لا يستطيع تناولها بالرغم من قربها منه. وهذا إلى حدا ما الذي حصل مع الرئيس ترامب هذا الأسبوع فالجميع يستطيع فعل الأشياء اليومية الاعتيادية البسيطة مثل إرسال تغريدة تويتر أو نشر مقطع في السناب شات أو كتابة تعليق على موقع الفيسبوك بينما الرئيس الأكبر (مثل الملك تانتالوس) يتعذب قهرا ويهان جهرا بأنه محروم من فعل هذه الأشياء الشائعة والتي يقوم بها الجميع.

إن كل الثروة المالية الهائلة التي يملكها الرئيس ترامب (بلا جدال أغنى سياسي في التاريخ) في خاتمة المطاف لم تستطيع أن تجلب له السعادة وكانت بشكل ما هي مصدر تعاسته ومعاناته. لأنه بنقوده الذهبية ظن أنه يستطيع شراء كل شي في دنيا السياسة ثم سرعان ما تحول المال إلى طوق من ذهب يكبل حريته في التصرف. في دنيا التجارة والاستثمارات كان لرجل الأعمال ترامب (لمسة ذهبية) تحيل كل مشروع تجاري يدخل فيه إلى صفقة تجارية رابحة. وبهذا كان ترامب إلى حدا ما يشبه الملك الأسطوري ميداس في الحكايا الإغريقية القديمة والذي بحماقته طلب من الإله الإغريقي ديونيسوس أن يمنحه (لمسة ذهبية) تحيل كل شي يلمسه إلى ذهب خالص. وبعد تحقيق تلك الأمنية بدأ مشوار عذاب الملك ميداس كما حصل مع الملك تانتالوس حيث لم يستطع أداء أبسط الأشياء اليومية الاعتيادية مثل الأكل لأن الطعام الذي يلمسه يتحول إلى ذهب صلب وكذلك لم يستطع الاغتسال بالماء وعندما قام في لحظة إحباط من الحالة العجيبة التي تورط فيها بحضن ابنته الوحيدة تحولت لتمثال من الذهب.

 منذ اللحظات الأولى لمشواره السياسي (المفاجئ والسريع بشكل غريب) الجميع دون استثناء استشعر ضحالة القدرات السياسية لدى الرئيس ترامب وأنه لن يحلق بعيدا في سماء السياسة بل أنه سرعان ما سوف يقع على أم رأسه. السيد دونالد ترامب ماهر ومتمكن بامتياز في مجال الصفقات التجارية والمقاولات العقارية ولكنه ضحل في مجال السياسة وإدارة شؤون الدولة والحكم. وكمثل أي شاب طائش يعطي فجأة قيادة سيارة رياضية فاخرة وقوية سوف يتصرف بطيش ونزق في قيادتها وهذا بالضبط ما قام به ترامب في عالم السياسة الجديد كليا عليه. لم يقنع ترامب بالقيادة المتدرجة والمتأنية لعربة السياسة ولكنه اندفع بكل تهور وعنفوان للتحليق بعيدا بعيدا كما حصل مع الشاب الغر إيكاروس. في المثيولوجيا اليونانية نجد قصة الشاب إيكاروس الذي كان مسجونا هو ووالده دايدالوس في جزيرة كريت واستطاعا الفرار من سجنهما بعد أن استطاع والده العبقري في تأمين وسيلة هروبهما عن طريق تثبيت أجنحة لهما مصنوعة من الريش والصمغ. الشاب المتهور إيكاروس والمفتون بقدراته الجديدة على الطيران تجاهل تحذير والده من الطيران عاليا بالقرب من الشمس مما تسبب في إذابة الشمع وتفكك ريش أجنحته ومن ثم وقوع كارثة سقوطه المميت وغرقه في البحر. وهذا تقريبا ما حصل مع ترامب المتهور والذي حلق بعيدا في سماء السياسة وهو بعد حديث الخبرة بها وبهذا اقترب كثيرا من (أتون ونار) السياسة المحرقة والتي حرفيا (قصقصة) أجنحته ومن ثم أغرقته في أمواج المحيط السياسي الهادر.

تحليق ترامب المتهور والمندفع وغير المتدرج في سماء وأجواء السياسة ومن ثم سقوطه المحتوم يتشابه في جانب منه مع أسطورة إغريقية مشهورة أخرى هي تلك التي كان بطلها الأمير اليوناني بيليروفون. والذي يقال إنه أصابه الغرور عندما استطاع ترويض وامتطاء الحصان المجنح الأسطوري بيغاسوس وبدل أن يكتفي باستخدامه فقط لقتال أعدائه (مثل الوحش الكيميرا الرهيب) قاده اندفاعه وحماقته لاستخدام ذلك الحصان المجنح والتحليق عاليا وبعيدا في سماء المجد حتى يصل إلى جبل الأولمب لكي يقيم بين آلهة السماء. ووفق الأسطورة أغضبت هذه الرعونة والتحدي آلهة الأولمب وقام كبيرهم زيوس بإسقاط بيليروفون من فوق ظهر الحصان المجنح مما تسبب في وقوعه على الأرض وتعرضه للإصابة بالعمي والعرج وهكذا ظل منبوذا وذليلا لبقية حياته. وهذا تقريبا ما حصل مع الرئيس ترامب لقد امتطى حصان السياسة وحاول أن يحلق في سماء المجد وأن يحقق له مكانه مميزة في التاريخي السياسي الأمريكي بل وأن يحصل على تمثال أو لوحة فنية له تعلق داخل مبنى الكابتول (ربوة الأولمب الأمريكية) ولكن عندما أغضب دهاقنة وأرباب السياسة الأمريكية أسقطوه من عربته النارية المندفعة وأذاقوه الهوان والصغار.

الهوان والسخرية والاحتقار هو أصعب عذاب وأشنع عقاب لأي شخصية مغرورة وعاشقة لذاتها كشخصية الرئيس ترامب المغرق في النرجسية الذاتية. وهذا يقودنا إلى الشخصية الأسطورية في دنيا المثيولوجيا اليونانية التي تشابه تماما شخصية الرئيس ترامب ألا وهي الشاب ناركيسوس المغرور والفخور بنفسه وبجمال ملامحه. نجد في الأساطير الإغريقية أن ربة الجمال أفروديت عاقبت ناركيسوس على غروره بأن أشعلت في قلبه عشق صورته المنعكسة على صفح بركة ماء وبهذا ظل يحدق في صورته وعجز عن الإقلاع عن ذلك إلى أن مات وظهر مكان موته زهرة النرجس. ومن هنا تم تشخيص الظاهرة المشهورة في مجال علم النفس باسم (النرجسية narcissism) المشتقة من اسم ذلك المغرور والمتعالي ناركيسوس والذي ارتبط اسمه بزهرة النرجس. بكل سهولة يمكن لأي راصد أن يشخص الحالة النفسية للرئيس ترامب وأنه مصاب باضطراب الشخصية النرجسية من ملاحظة مشاكله في علاقته مع الآخرين ولغة الجسد المتعجرفة لديه والمفاخرة والمبالغة في مدح الذات وفرط الحساسية عنده لأي إهانات متخيلة (الغضب النرجسي).

حقا وصدقا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عجيب في صعوده للقمة وعجيب في طريقة وسرعة انحداره لدرك الخزي والعار.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق