الجمعة، 30 سبتمبر 2016

( السر الكيميائي للنهضة )

كتاب فكري عميق له أبعاد كيميائية مميزة
د/ أحمد بن حامد الغامدي
قبل عدة أيام انتهيت من قراءة كتاب فكري كلاسيكي هو كتاب (شروط النهضة) للمفكر الجزائري البارز مالك بن نبي رحمة الله وفي هذا الكتاب طرح مالك بن نبي معادلته المشهورة لتحقيق إنجاز ناتج حضاري لأي مجتمع:
الحضارة = إنسان + تراب + وقت
وبحكم أنني كيميائي من حيث المهنة فإن ما ابهجني حقا أنني كنت أتوقع أن تلك (المعادلة الحضارية) هي معادلة رياضية وإذا بها معادلة كيميائية بامتياز لدرجة أن مالك بن نبي يذكر بشكل صريح أنه إذا كان (العالم الاسلامي يريد إنجاز مهمة  - تركيب –  الحضارة في زمن معين، لذا يجب عليه أن يقتبس من الكيمياوي طريقته، فهو يحلل أولا المنتجات التي يريد أن يجري عليها بعد ذلك عملية التركيب).
من هذا نستشف إن (معادلة الحضارة) هي معادلة كيميائية وليست معادلة رياضية لأن هذه المعادلة تنتج (مركب جديد) هو أكثر تعقيدا من مجرد (الجمع الرياضي) المباشر (لمتغيرات) الحد الايسر من معادلة الحضارة. ومن جوانب الاقتباس و(التوظيف) الكيميائي التي استخدمها مالك بن نبي في معادلته أنه اشار بأن عملية الجمع الرياضية للعناصر الثلاثة السابقة (الانسان والتراب والوقت) لا تنتج بحد ذاتها الحضارة ما لم يضاف لها عنصر جديد هو ما سماه (مركب الحضارة) والذي وصفه في موقع آخر بأنه شبيه لمفهوم (الحفاز الكيميائي catalyst) إي وفق عبارات مالك بن نبي (العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض) وحسب نظرية مالك بن نبي أن هذا (المركب أو الحفاز) الذي أنشأ جميع الحضارات الكبرى في تاريخ البشرية هو (الفكرة الدينية) التي (وبلغة أهل الكيمياء) تنشط التفاعل الكيميائي الحيوي مما ينتج في النهاية مركب (الحضارة).
وبالانتقال من النهضة إلى (الثورة) فنجد إن للكيمياء نوع ارتباط بهذا الموضوع الشائك والملتهب وكما كان مالك بن نبي من أهم وأشهر المفكرين العرب بعد الحرب العالمية الثانية (نشر كتابه شروط النهضة عام 1948) فإن الفيلسوف والمفكر الانجليزي بيرتراند رسل كان أهم رجالات الفكر والثقافة الغربيين على الاطلاق بعد الحرب العالمية الاولى (والتي بالمناسبة تسمى حرب الكيميائيين) ويبدو أن لسمعة الكيميائيين (السلبية والايجابية على حدا سواء) في تلك الفترة الزمنية دورها في لفت نظر بيرتراند رسل لها لدرجة أننا نجده في كتابه الهام (النظرة العلمية)عندما كان يتحدث عن دور العلم في تغيير النظم السياسة والاجتماعية ودوره في خلق وانشاء مجتمعات صناعية وبعد أن ذكر بيرتراند رسل ان اقامة ثورة سياسية ضد مركز الدولة الحديثة امر صعب وإن إقامة الثورة أمر عسير:( ما لم يؤيدها رجال الطيران والكيمياء وأن أي حكومة أريبة لتعمل على إرضاء هاتين الطائفتين ولا تألوا جهدا في كفالة ولائهما لها). وكأنه بهذا كما كانت الكيمياء مصدر إلهام لتحقيق شروط النهضة إذا بها هنا (عنصر) اساسي في تركيب معادلة الثورة السياسية الناجحة.
ربما بعد هذا التطواف في أثر الكيمياء في (النهضة) و (الثورة) يداخلنا نحن أهل صنعة الكيمياء شيء من الغرور لكن الاصطدام بجدار الواقع المرير جاء اسرع مما كنت أتوقع ففي بداية الاسبوع الماضي عندما شرعت في قراءة كتاب (شروط النهضة) بدأت ايضا في قراءة رواية (سمرقند) للكاتب اللبناني المعروف أمين معلوف وسبب اختيار لهذه الرواية بالذات ربما لأنني أرتب لزيارة سياحية لمدينة سمرقند الاسطورية مع بعض الاحباب بعد اجازة العيد بمشيئة الله. في الواقع هذه الرواية تدور بشكل محوري عن العالم والشاعر المسلم الشهير عمر الخيام والذي في بداية الرواية يزور مدينة سمرقند وهنا تحصل رابطة شنيعة بين عمر الخيام والكيمياء.
 ما حصل أنه عند دخول الشاب عمر الخيام لمدينة سمرقند تعرض لهجوم مجوعة من اللصوص والاشرار لكن تم انقاذه بواسطة دورية من العسكر المسلحين ولهذا كانت ردة الفعل المباشرة من هؤلاء الاشرار أن أرادوا أن يبينوا أنهم كانوا في الواقع يريدون أن يحموا مدينتهم من (شر) عمر الخيام الذي أتهموه بأنه كيميائي حيث أنهم كما ورد في الرواية:
 (أخذوا يصيحون مستشهدين بالجمهور تبريرا لمسلكهم:
كيميائي كيميائي
ولأن يكون المرء فيلسوفا فليس جريمة في نظر السلطات وأما تعاطي الكيمياء فجزاؤه الموت
كيميائي هذا الغريب كيميائي
ولكن لم يكن في نية رئيس الدورية أن يجادل وعلية فقد قرر قائلا:
إذا كان هذا الرجل كيميائيا حقا فإنه يجدر بنا أن نقوده إلى قاضي القضاة أبي طاهر).
أنه لمحزن حقا أن نعلم أن (السمعة والصورة النمطية) للكيميائيين (أو الخيميائيين بمعنى أصح) كانت بالغة السوء في فترة التي عاش فيها عمر الخيام قبل حوالي ألف سنة من الآن وذلك لأن (صنعة الكيمياء) شابها الكثير من الغش والاحتيال ومن هذا نعلم لماذا أصدر بعض علماء السلف مثل شيخ الاسلام ابن تيمية فتاوى مشهورة في تحريم صنعة الكيمياء ولم يقف الأمر عند الفقهاء بل تعداه حتى للمفكرين والفلاسفة فهذا الفيلسوف العربي المعروف الكندي يؤلف (كتاب التنبيه على خدع الكيميائيين) بينما اشتهر عن ابن سينا أنه ناقش هذه الموضع في كتابه (إبطال الكيمياء).أما أسوء من شنع على الكيميائيين فهو بلا منازع شاعر وأديب مدينة فلورنسا البارز دانتي حيث أنه في كتابه المشهور الكوميديا الالهية الذي يدور موضوعه الاساسي عن الجحيم نجده يصنف الكيميائيين (مع المزورين والأنذال والأوغاد في الخليج العاشر من جهنم).
وختاما إذا قيل أن الرجل العظيم هو من تجد من يغالي في مدحة كما تجد من يغالي في ذمة فعلى نفس النسق فإن علم الكيمياء علم عظيم ولا شك لأنه (يتأرجح) بين أن يضمن لك نجاح نهضتك وثورتك السياسية أو أن يدخلك الجحيم.

 
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق