الثلاثاء، 9 يونيو 2020

( أزرار نابليون ومحاولة فهم الشغب الأمريكي )

الاحتجاج ضد العنصرية .. ما الجديد ؟

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بحكم الانتماء لعلم ومهنة الكيمياء قضيت قديما قبل سنوات لحظات ماتعه مع كتاب (أزرار نابليون .. كيف غيرت الجزئيات الكيميائية التاريخ) والذي يناقش دور وأثر علم الكيمياء في تشكيل مسيرة الحضارة الإنسانية. كما هو معلوم تعتبر سنة 1812م أهم سنة في تاريخ نابليون وذلك عندما فشل في احتلال روسيا ومن هنا بدأت سلسلة هزائمه الكبرى وتغير شكل المسرح السياسي في أوروبا والعالم أجمع. عندما شرع نابليون في تنفيذ خطة الغزو للديار الروسية تحرك معه (الجيش العظيم Grand Armee) لإمبراطورية الفرنسية والبالغ عدده حوالي 650 ألف جندي ولكن في رحلة العودة المهينة للجنرال بونابرت لم يتبق معه من فلول ذلك الجيش الجرار إلا 35 ألف جندي فقط. هذا الحدث السياسي الكبير والفشل العسكري المشين يمكن تأليف كتب ومجلدات في تفسير أسبابه ويمكن بكل بساطة اختزال التفسير في نقطة واحدة هي رداءة نوع الأزرار التي كان يستخدمها الجيش الفرنسي في ملابس جنوده. صحيح إن نابليون بونابرت نفسه أعترف أن من هزمه في روسيا هو (الجنرال الثلج) ولكن هذا لا يعني أن السبب الرئيس لتلك الهزيمة الشنيعة أن أزرار سبيكة القصدير التي كانت تغلق ملابس الجنود الفرنسيين كانت تتفتت في صقيع الزمهرير ولكن أيضا ذلك الجيش العرمرم كان يفتقد بشك حاد توفر الأحذية المناسبة للأجواء الباردة. وبحكم أن نابليون هو نفسه من قال إن (الجيوش تزحف على بطونها) ولهذا لا غرابة أن عشرات الألاف من الجيش الكبير الفرنسي قد قضت عليهم المجاعة قبل أن يصلوا أصلا لروسيا هذا فضلا عن فتك وباء التيفوئيد بمئات الألاف من الجنود. ومن الأخطاء القاتلة التي وقع فيها نابليون كذلك عدم حسن اختيار القادة العسكريين لهذه الحملة ومن ضمنهم قائد الفيلق الرابع الأمير يوجين الذي كان كل مؤهلاته العسكرية كونه أبن زوجة نابليون الإمبراطورة جوزفين.
وبعد، ليس المقصود من هذه المقدمة سرد موضوع في تاريخ السياسة والحروب العسكرية ولكن المراد التنويه إلى إن البعض قد يستسهل تفسير وتعليل الأمور التاريخية والسياسية الكبرى باختزالها في حدث واحد أو دافع منفرد. ومن ذلك ما يحصل هذه الأيام من ثورة كبرى تجري أحداثها على الديار الأمريكية ويحاول البعض اختزالها في (مشهد واحد) وهو اضطهاد السود في أرض الأحلام الأمريكية ومحاولة تعليل ذلك (بسبب وحيد) وهو تفشي العنصرية في أرض العم سام. في التاريخ الأمريكي تتكرر دائما أحداث الشغب والثورات الشعبية ومع ذلك هي متنوعة من ناحية الأسباب ومسار الأحداث فمثلا في عام 1992م اندلعت أحداث الشغب الشهيرة بسبب الاعتقال العنيف لرجال الشرطة ضد الأمريكي الأسود رودني كينغ. ولكن على حدة وعنف أحداث الشغب تلك إلا أنها كانت متركزة في ثورة السود والأشخاص من الأصول اللاتينية كما إن حدود هذه الثورة لم تتعد ضواحي مدينة لوس أنجلس. في الغالب أحداث الشغب والتخريب والنهب لا يحصل معها تعاطف كبير إلا إذا أصبح مجرى الأحداث في مساق (الاحتجاج العام) وليس ردة الفعل الغاضبة المؤقتة لفئة محدودة من نسيج المجتمع. وهذا ما يفسر إلى حد ما لماذا في فترة التسعينيات وعند الرخاء الاقتصادي الأمريكي لم يتعاطف البيض مع حركة الشغب السوداء بينما اليوم نجد أن مظاهرات الشغب ومسيرات التنديد تجوب أكثر من 150 مدينة أمريكية كبرى. ما استجد الآن هو انهيار الاقتصاد الأمريكي وتعرض عشرات الملايين للبطالة واختناق بقية مئات الملايين من كارثة وباء فيروس كورونا. وبالعودة لمثال أزرار نابليون لا يصح مرة أخرى تفسير الحديث بمسبب واحد وإلا كان وجدنا أن الشغب والاحتجاج يقوم به السود فقط ولنا في دروس التاريخ عبرة وشاهد ودليل. فمثلا (ثورة العبيد) في تاريخ الإمبراطورية الرومانية التي قادها المصارع الأسطورة سبارتكوس بدأت بهروب عدد من الرقيق والمجالدين gladiators من إحدى حلبات المصارعة الرومانية ولكن وصول عدد هؤلاء الثوار إلى حوالي 120 ألف شخص وهذا يحتم على قارئ التاريخ ألا يستبعد أن الأمر تحول من مجرد انشقاق عشرات العبيد إلى حركة احتجاج عامة تقوم بها شريحة واسعة من الشعب الروماني. وعلى نفس النسق نجد أن (ثورة الزنج) في التاريخ الإسلامي التي حدثت في منتصف القرن الثالث الهجري حول مدينة البصرة وإن كانت اندلعت بتمرد العشرات من الرقيق الأفارقة إلا أنها سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية عامة ضد الخلافة العباسية اشترك فيها عدة مئات الألوف من العرب والفرس والعبيد الذين حركهم واقع الظلم الاقتصادي والاجتماعي لهم حول مستنقعات وسبخات البصرة.

الشغب .. مناصرة أم فش غل
كما هو معلوم حدثت في تاريخ البشرية عشرات (الثورات revolutions) الكبرى التي شكلت ملامح التاريخ كما اندلعت آلاف لحظات هياج (الشغب riot) والانتفاضة العنيفة التي سرعان ما ينطفئ وهجها ورهجها. صحيح أن الهياج والشغب هو صوت من لا صوت له ولكنه في الواقع صوت غير مسموع لأنه بكل بساطة صوت (الغوغاء) وما أسهل ما يتم تسفيهه وشيطنته خصوصا إذا كان ذلك الشغب مصحوبا بالتخريب والسرقة ولهذا ينطبق عليه بحق وصف الرئيس المصري أنور السادات عن ثورة الخبز عام 1977م بأنها (انتفاضة الحرامية). في بداية الأمر لاقت ثورة العمال في فرنسا العام الماضي تعاطف محلي ودولي هائل لكن الأمر اختلف جذريا عندما تحولت الانتفاضة الاحتجاجية والإضراب السلمي إلى أعمال شعب وتدمير وسرقة ونهب. في الغالب أعمال الهياج والشغب riot تحدث بشكل عفوي كنوع من حركة احتجاجية حادة وآنية ولهذا بالفعل هذه الأعمال التخريبية لا قادة حقيقيين لها وتنتهي سريعا بالفشل. أما الثورات الكبرى فمن خلال استقراء التاريخ نجد أن في الغالب محركها ومولدها (الفكر) ولهذا تكون نتائجها أخطر وأدوم وليس سراً أن الثورة الفرنسية قامت على أفكار فولتير وجان جاك رسو والثورة الأمريكية شارك فيها أكبر المفكرين في تلك الحقبة من مثل توماس بين وفرانكلين وجيفرسون في حين أن الثورة الروسية تدين بالكثير إلى منظرها الأول الثائر تروتسكي وقل مثل ذلك على أثر المفكر الشيعي على شريعتي على الثورة الإيرانية.
قديما قيل (لا ثورة بدون نظرية ثورية) وإذا كان ذلك صحيحا فلا حاجة لمحاولة استشراف مستقبل حالة الشغب التي تجتاح الأراضي الأمريكية هذه الأيام فمصيرها إلى التلاشي كما حصل مع انتفاضة العمال العام الماضي وثورة الطلاب قبل خمسين سنة في فرنسا. وإن كان هذا لا يقلل على الإطلاق على الأبعاد والأثار السيئة لهذه الاحتجاجات الفوضوية في إذكاء مزيد من التشظي والانقسام العميق في المجتمع الغربي إجمالا وليس الأمريكي فقط فالعنصرية وعدم تقبل الثقافات والأعراق الأخرى متزايدة في الفترة الأخيرة في جميع الدول الغربية.
ومع ذلك يبقى سؤال المليون المهم جدا هو محاولة (تفسير) أسباب ما جرى وسوف يجري ويتكرر دوما وأبدا مع مثل هذا الهيجان الحاد والمؤقت. البعض يقرر أن الثورة أو الهيجان هي الأصل وليست الاستثناء لدرجة أن كارل ماركس في كتيّبه الصغير الحجم الهائل الأثر (البيان الشيوعي) طرح فكرة أن الثورة (حتمية الحدوث). بينما نجد في التراث العربي والإسلامي أن هذا الأمر له مسبباته ولوازمه وأهمها الطغيان وانتشار الظلم فهذا مفكرنا الأكبر ابن خلدون ينص صراحة بأن (الظلم مؤذن بخراب العمران) وبهذه النظرة الثاقبة من عالم الاجتماع وأبن تونس الأبرز لا غرابة أن نجد بعد ذلك بسنوات أن ثورة الربيع العربي انطلقت من قلب تونس بحادثة الشاب المظلوم محمد البوعزيزي. ومن تونس إلى سوريا نجد أن ابن حلب المناضل الكبير عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) يكرر ما قرره ابن خلون وينبه على إن (الحكم القائم على الظلم لا يدوم) وهذا يفسر لنا مرة أخرى لماذا لم تكن أرض الشام بمنأى عن الهيجان والثورات في حين أن في الأرضي الإيرانية ما زال حتى الآن كتاب المفكر علي شريعتي (بناء الذات الثورية) يؤجج مشاعر الاحتجاج على حكم الملالي الدموي.
والغريب في الأمر أننا في حين نجد أن بعض المفكرين والباحثين يحاولون دراسة الثورة والحركات الاحتجاجية ومعرفة أسبابها ومآلاتها مثل محاولة المؤرخ الأمريكي كرين برنتن في كتابه المؤثر (تشريح الثورة) نجد أن بعض المفكرين كان دورهم على العكس من ذلك تماما وهو محالة نشر الثورة والتنظير لأسباب نجاحها وانتشارها. في العالم الغربي ظهر العديد من مشاهير المفكرين والفلاسفة الذين بثوا أفكار الثورة على الاستبداد ومنهم أسماء لامعة مثل توماس مور وجون لوك وجون ستيورت ميل وتوماس بين. ومع ذلك يبقى حامل لواء تحريض الشعوب على الثورة هو المفكر الأمريكي هنري (ثورو) والذي له من اسمه نصيب عندما ألف كتابه الخطير (العصيان المدني) والذي يحث على شق عصا الطاعة ومقاومة سيادة الحكومة الأمريكية. ظهرت الأفكار الثورية لهنري ثورو قبل أكثر من قرن ونصف وما كاد يخبو وهجها في العصر الحديث حتى ظهر أستاذ العلوم السياسية الأمريكي جين شارب والذي يعتبر كتابه (التحرير الذاتي) بمثابة دليل إرشادي لكيفية إدارة وتوجيه الثورات السياسية المعارضة للحكومات.

وفي الختام عود على بدء لمحاولة فهم شغب الشارع الأمريكي المنفلت هذه الأيام فأحداث التخريب والسرقة لا يمارسها السود فقط وإنما غالبية من يقوم بها هم من البيض ولهذا يجب في أخذ الاعتبار عوامل ومؤثرات أخرى لمحاولة فهم ما يجري في بلد الحلم الأمريكي وأوهام الحرية. كما سبق الإشارة إليه أن حادثة الاعتداء على الرجل الأسود رودني كينغ قبل ثلاثين سنة أثارت فقط موجة عنيفة من الاحتجاج في مدينة لوس أنجلس فقط دون غيرها بينما الاعتداء على الرجل الأسود جورج فلويد هذا الأسبوع أثار العالم كله لدرجة أنه تنتشر اليوم مظاهرات مصحوبة بالعنف في عواصم ومدن دولية متعددة من ضمنها باريس ولندن فضلا عن جميع المدن الكبرى في الولايات المتحدة. صحيح أن الأحداث الأخيرة شرارتها ومحركها الأول الاعتراض على العنصرية المقيتة ضد السود ولكن في الواقع أن وقودها المسير من وجهة نظري هو الاحتجاج على الرأسمالية المتوحشة والقهر الاقتصادي وهو ما كان بارزا جدا زمن ثورات الربيع العربي حيث اندلعت فجأة حركة (احتلوا وول ستريت). تلك الحركة التي تحولت إلى حركة احتجاج اقتصادية واجتماعية وسياسية واسعة الانتشار حملت شعار (احتلوا Occupy) والتي تزعم أنه كان لها نشاط في 1500 مدينة حول العالم وأنها حاصرت أو تظاهرت أمام البنوك المركزية والبورصات الكبرى والمؤسسات المالية الدولية للاحتجاج على عدم العدالة الاقتصادية (الرأسمالية المتوحشة) وعدم وجود الديمقراطية الحقيقة. وبحكم أنه في الأشهر الأخيرة وبسبب الوباء حصل انهيار اقتصادي مريع في جميع بلدان العالم فهذا ما ساعد في تأجيج حركة الاحتجاج السلمي والعنيف على حدا سواء. بالطبع لا يمكن إغفال دور عوامل أخرى من مثل ثقافة العنف وحمل السلاح في المجتمع الأمريكي أو ظاهرة الميلشيات المسلحة المتطرفة والممانعة للانقياد الكلي للسلطة الحكومية في أمريكا. ومن المؤكد أن من الأسباب وجود عصابات أو أفراد استغلت الفرصة لممارسة السرقة والنهب والتخريب أو وجود أطراف سياسية داخلية أو خارجية ترغب في زعزعة مكانة وصورة الرئيس والحكومة الأمريكية الحالية.
الأمواج الهادرة في أمريكا بدأت كفزعة ونصرة للسود وانتهت كفرصة لفش الغل والتنفيس عن النفس ضد سوء الإدارة السياسية وتدهور المقومات الاقتصادية والقلق من تردى الأوضاع الصحية.
والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق