الخوف من أبراج الجيل الخامس هل له شواهد في التاريخ
د/ أحمد بن حامد
الغامدي
تحذير .. تحذير في
المرة القادمة التي ترغب فيها بشراء زجاجة مشروب أو قطعة بسكويت من أجهزة ثلاجات
البيع الذاتي vending
machine أعلم أنه على مستوى العالم يقتل سنويا حوالي 60 شخص بسبب أخطار
هذه الأجهزة. أرجو ألا أكون أفزعتك أيها القارئ العزيز من تناول علبة كولا مثلجة
لكن أن رغبت أن تستعيض عن ذلك بتناول فنجان من القهوة الرائقة فالحذر الحذر فمنظمة
الصحة العالمية وعلى موقعها الرسمي تنبه من وجود احتمالية أن القهوة الساخنة يمكن
أن تتسبب في حصول سرطان المريء.
للغالبية العظمى
منا يعتبر ما جاء من التحذير في الفقرة السابقة محض هراء وتخوف زائد عن الحد وأعراض
رهاب نفسي حاد بالتحسس من الاخطار المتوهمة والتي لا تخلو منها الحياة حتى ولو في
تجرع شربة ماء أو أخذ غفوة نوم على أريكة المنزل. بالرغم من أننا في القرن الحادي
والعشرين إلا أن البعض ما زال لديه (جاهلية علمية) فيما يتعلق بالموقف من التقنية
والاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة. لا بأس من القلق والتحوط من الاخطار
المحتملة لكن غير المقبول (الرِدة العلمية) والنكوص عن الايمان بفائدة العلم
والتقنية والمتمثلة بالرفض العام والمنع التام للأفكار العلمية الجديدة
والاختراعات التقنية المطورة. في الفترة الأخيرة على سبيل المثال تم اثارة غبش كثير
حول الاضرار المتوهمة لاستخدام التطعيمات الطبية على الأطفال ولكن فرق كبير وجوهري
بين القلق من سلامة هذه التطعيمات وفائدتها وبين المنع التام لها والتحذير الهستيري
منها. وقل نفس الشي مع الموقف من التقنيات الحديثة مثل تقنية النانو والتقنية
الحيوية والهندسة الوراثية والاستنساخ وما شابه ذلك من المجالات الحديثة التي يثير
البعض الخوف والفزع منها وبذا يصح وصف أحمد شوقي فيهم:
والناس في عداوة
الجديدِ وقبضة الأوهام من
حديدِ
وهذا يقودنا إلى
سياق الظاهرة الجديدة والمتمثلة ليس فقط في الخوف والقلق من تقنية الاتصالات
الجديدة (شبكة الجيل الخامس 5G) ولكن الممانعة والعداء العنيف لها لدرجة قادت
إلى اتلاف واحراق أبراج البث لهذه التقنية المتطورة. لهؤلاء الأشخاص اضطراب نفسي
ورهاب وجداني للأشياء الجديدة والغريبة يدفعهم لتبني أفكار ومسلمات خاطئة تجاهها
ومن ثم المعارضة العنيفة لها ولو بالحرق والتدمير وكأنهم بذلك هم من قصدهم
الفيلسوف والعام البريطاني الشهير روجر باكون بقوله (إنه من السهل على رجل أن يحرق
منزله أكثر من أن يتخلص من آرائه المسبقة). الغريب في الامر أن حالة الهستيريا ضد
تقنية الاتصالات الحديثة أشد ما تكون في الدول الأوروبية وبالذات في بريطانيا
وهولندا وبلجيكا وألمانيا وروسيا وهو ما يعكس تعقيد هذه الظاهرة النفسية الغريبة
التي تستحق توصيف (جاهلية القرن الواحد والعشرين). ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن
هذه (الجاهلية العلمية) تكررت كثيرا في تاريخ تطور العلوم لدرجة أن هذه (البدعة)
قد شملت العديد من المجتمعات وكان الدافع والمحرك لتبني هذا الموقف الجاحد
بالتقنية متنوع ومتعدد بين مؤثرات دينية أو اقتصادية أو نفسية.
ومن الأمثلة على
ممانعة ومصادمة التقنية العلمية لأسباب دينية مزعومة ما حصل في منتصف القرن الثامن
عشر عندما تمكن قسيس مسيحي من بلد التشيك من اختراع أول مانعة صواعق في التاريخ.
وهنا أعترض عليه كبار رجال الكنيسة لدرجة أن أحدهم قال له (إذا كان الله يريد أن
يعاقب إنسانا آثما بتصويب صاعقة إلى بيته فكيف يجرؤ البعض على التدخل بين الله وخلقه).
وبعد ذلك بقرن من الزمن عندما توصل الطبيب الأسكتلندي جيمس سمبسون لفكرة استخدام
مخدر الكلوروفورم لتخفيف آلام الوضع والولادة لدى النساء حاجج بعض رجال الكنيسة
بأن (مشيئة الخالق اقتضت ان تلد النساء حال الألم ولا يجوز مخافة ذلك). حسب
المفاهيم الدينية المسيحية أن الله سبحانه وتعالى عاقب حواء وبناتها بالحيض وأن يتعرضن
لمعاناة آلام الحمل والولادة لأن حواء كانت هي من أغوى آدم بالأكل من الشجرة
المحرمة. وفي نفس ذلك السياق عندما نشر الجراح الإيطالي أندرياس فيزاليوس كتابه
الشهير عن تشريح جسم الانسان رد البعض على اكتشافه الطبي بأن عدد اضلاع القفص الصدري
للرجل والمرأة متساوية ورفضوا هذا الأمر لأنه يخالف اعتقاداتهم الدينية التي تنص
على أن المرأة مخلوقة من ضلع الرجل ولهذا يجب أن تكون أضلاع الرجل اقل من اضلاع
المرأة.
مرة أخرى نجد أنه
في العقائد المسيحية يذكر أن الله خلق الانسان على صورته عزّ وجلّ ولهذا في منتصف
القرن التاسع عشر عندما تم اختراع الصور الفوتوغرافية اعتبر البعض أن انتاج هذه
الصور نوع من التجديف والكفر. لأنه إذا كان الانسان على صورة الخالق فلهذا لا يمكن
أن توجد أي آلة أو جهاز يقدر على رسم صورة الاله وبهذا وصف بعض القسس آلة التصوير بأنها
من اختراع الشيطان. ومن الأمثلة الإضافية لوقوف المفاهيم الدينية المغلوطة حجر
عثرة في سبيل التقدم التقني أنه عندما أعلن المخترع الالماني كارل بنز في السبعينات من القرن
التاسع عشر عن انتاجه لأول سيارة ذات محرك ذاتي. أعترض علية بعض المتعصبين الدينيين
بحجة أن هذا الاختراع يخالف طبيعة وحكمة خلق الله للخيول والدواب المستخدمة في ذلك
الحين لجر العربات.
وربما يتوقع البعض
أن مصادمة الدين بالعلم والتقنية كان محصورا فقط في العصور القديمة ولكن للأسف ما
زال رجال الدين الكاثوليك حتى اليوم يحرمون لأسباب دينية مزعومة استخدام حبوب منع
الحمل أو استخدام تقنية التلقيح الاصطناعي المشهورة باسم أطفال الانابيب. ولا نريد
أن ننكأ الجراح باستذكار بعض الفتوى الدينية للفقهاء المسلمين المصادمة للعلم
والتقنية بسبب عدم التفعيل الكامل للاجتهاد الفقهي أو توسيع فقه النوازل وإن كان
الأمر آخذ في التحسن في مجال الطب بالذات مع انتشار المجامع الفقهية المعاصرة.
في
هجاء القطارات والكهرباء !!
أما الخوف من
التقنية من منظور اقتصادي فهو أمر للوهلة الأولى يبدو غريبا إلا أنه من زاوية ما
قد يكون موقف مفهوم وإن كان غير مبرر ولا مقبول. جميع الاختراعات التقنية الحديثة
تكون مصحوبة بفرص اقتصادية مربحة ولكن بحكم أن منظومة الاقتصاد قائمة على التنافسية
الشديدة فما تربحه أنت أخسره أنا ومن هنا يظهر مأزق أن الخاسر لا يتحلى دائما
بالروح الرياضية ولربما سعى لتغيير قواعد اللعبة. الإمبراطورية البريطانية التي كانت
لا تغيب الشمس عن مستعمراتها توصلت لهذه المكانة الفريدة في التاريخ بسبب الرخاء
الاقتصادي الباذخ الذي نتج عن الثورة العلمية والثورة الصناعية التي ظهرت إرهاصاتها
في الجزر الإنجليزية. ومع أول مواليد الثورة الصناعية المتمثل في جهاز غزل القطن المخترع
على يد السير البريطاني ريتشارد أركروايت ظهرت بواكير الخوف والنفور من التقنية
التي قد تسبب في الاستغناء عن الايدي العاملة البشرية. ولهذا منذ فجر عصر الثورة
الصناعية هاجت وماجت فئام من الناس ضد التقنية والأجهزة الحديثة وحاربتها وتعمدت
تدميرها وحرقها ومن ذلك قيام عدد من الغوغاء في نهاية القرن الثامن عشر بتدمير
مصنع غزل القطن الذي يملكه أركروايت في مدينة مانشيستر. وحذو القذة بالقذة تعرضت
كذلك مصانع وماكينات المخترع الإنجليزي إدموند كارترايت
مخترع آلة النسيج المطورة للحرق والتدمير وهو نفس مصير المخترع الفرنسي جاك دي
فوكانسون الذي بعد اختراعه لنول النسيج الأتوماتيكي نال سخط عمال الغزل في مدينة
ليون الفرنسية ولهذا كما تسبب في عطالتهم عن العمل تسببوا هم في طرده من مدينتهم.
الجدير بالذكر أن هذه الحركة الاحتجاجية الثورية في صفوف العمال في بداية القرن
التاسع عشر امتدت إلى عدد من الدول الأوروبية وانخرط فيها الآلاف من العمال الذين
اصابتهم البطالة ومن ثم كانت وسيلة احتجاجهم الفجة هي تدمير عشرات المصانع ومئات
الماكينات والآلات الصناعية الحديثة.
الجوانب
الاقتصادية الخفية كثيرا ما تكون وراء العداء والرهاب النفسي والممانعة ضد
المخترعات التقنية الجديدة وقد تكون بعض الأطراف الاقتصادية الخاسرة من ظهور
التقنية الحديثة هي من يذكي ويأجج نار الرهاب من التقنية. في الموجه الهستيرية
الحالية ضد شبكة الاتصالات المطورة وأبراج الجيل الخامس يقال إن بعض الشركات
الأوروبية التي خسرت عقود إقامة هذه الشبكة هي من تبث الشائعات في أوساط الجمهور
ولهذا نجد هذه الهوجة والموجة العجيبة
تنتشر بشكل حاد في الدول الأوروبية دون بقية بلدان العالم. الغريب أننا يمكن أن
نجد (شواهد تاريخية) لمثل هذه الظاهرة مع التقنيات القديمة فمثلا في السابق كان
نقل البضائع (المنسوجات في الغالب) بين مدينة مانشستر الصناعية وميناء مدينة
ليفربول يتم عبر القوارب في القنوات المائية. ولهذا عندما تم طرح فكرة إقامة سكة
حديد بين مانشيستر وليفربول عارض بعض الاقطاعيين والمتنفذين تلك الفكرة الرائدة لخشيتهم
أن تنافس السكة الحديدية أعمالهم ومكاسبهم المالية ولهذا قاموا بدفع بعض الأهالي
والفلاحين والعمال لمعارضة انشاء سكة وسيلة المواصلات الجديدة.
نسمع
هذه الأيام هستيريا عجيبة تبالغ في التحذير الصحي والبيئي من أخطار أبراج شبكة
اتصالات الجيل الخامس وكأنه بالفعل التاريخ يعيد نفسه فعين وذات هذه الهستيريا
النفسية المعارضة للتقنية وظفت لمقاومة انشاء خطوط السكك الحديدية ببريطانيا في
بداية القرن التاسع عشر. وصل الأمر إلى أنه انتشرت شائعات تقول أن المنظر البشع
للقطار وهو ينطلق مسرعا بجلبته الصوتية العالية سوف يثير الرعب لدرجة تتسبب في
اجهاض النساء الحوامل وتوقف الابقار عن در الحليب والدجاج عن وضع البيض !!!. كما
زعم البعض في زمن الجاهلية العلمية للقرن التاسع عشر أن الدخان المتصاعد من مدخنة
القطار سوف يخنق البهائم وسيفتك بالطيور فوق الأشجار وكذلك فإن الشرر المتطاير من
مدخنة القطار سيتسبب في احتراق المنازل على طول سكة القطار. وعليه كما تتردد اليوم
أخبار المخابيل والمتعصبين الذين يتلفون ويحرقون أبراج الجيل الخامس فكذلك في ذلك
الزمن ترددت أخبار قيام بعض المزارعين بسطاء التفكير بإطلاق النار على المساحين والعمال
الذين يجهزن لإنشاء سكة الخطوط الحديدية.
الاغرب
من ذلك أنه في مثل هذه الأجواء الهستيرية المسمومة بالرهاب من التقنية قد ينجرف
حتى الأطباء في التنظير لهذا العبث فبالعودة إلى مسلسل التخويف من القطارات قال بعض
الاطباء إن ركوب القطار قد يسبب مشكال صحية لأن جسم الانسان لا يستحمل سرعة تزيد
عن 15 كيلومتر في الساعة وربما يختنق من قوة اندفاع الهواء إلى جوفه. ولاحقا عند
بدأ العمل في إدخال سكة القطار إلى ألمانيا حذرت هيئة كبار الأطباء في مدينة ميونخ
من تأثير سرعة القطار الضارة على العين وقوة الابصار!!. ولا غرابة أن التخوف
والممانعة لكل جديد استمرت في جميع القرون ففي منتصف القرن العشرين ومع بدايات التجارب
التقنية لإطلاق صواريخ الفضاء حذر طبيب بريطاني من أن التسارع الكبير الذي تسببه
الصواريخ من الممكن أن تؤدي لحدوث تلف خطير في الدماغ. وبكل جدية أخذ علماء الفضاء
في مطلع عصر غزو الفضاء التحذيرات التي كانت تزعم أن البشر قد لا يستطيعون أن
يعيشوا في أجواء انعدام الجاذبية لأن الدم لن يتدفق في الأوردة لكي يعود للقلب ولهذا
كان (أول رائد فضاء) من غير البشر وهنا خلد التاريخ الكلبة لايكا والقرد ألبرت.
وفي
الختام قبل أن نغادر موضوع معارضة الدهماء من البشر لأي شي جديد وغير مألوف تجدر
الإشارة إلى أنه في نهاية القرن التاسع عشر وعندما كانت الكهرباء شيئا جديد في
حياة الناس واجه المهندسون الذين أقاموا أول محطة توليد للكهرباء في لندن العديد
من العقبات بسبب المشاكل النفسية والتعقيدات البيروقراطية الممانعة لإنشاء المحطة
الكهربائية. (الخوف من الكهرباء) أنتقل لاحقا من بريطانيا إلى ألمانيا سنة 1891م
عندما عارض العديد إقامة أول محطة توليد الكهرباء في مدينة فرانكفورت.
وإذا
كانت الكهرباء أهم الاختراعات البشرية على الاطلاق قد واجهت الممانعة والخوف
والتشكيك من أخطارها الصحية وتعقيداتها الاجتماعية فهذا يجعلنا بدرجة ما نكون على
استعداد (لتوقع وتفهم) لماذا شرائح متزايدة حتى من المجتمعات المتقدمة والمتحضرة
يمكن أن تتردد كثيرا في تقبل المستجدات التقنية الحديثة. ولهذا لا غرابة أن تجد
بعض المفكرين والمتعلمين يعارضون لأسباب فلسفية وبيئية وأخلاقية انتشار بعض مظاهر
التقنية مثل طغيان الروبوتات أو الكومبيوترات في عمليات التصنيع. في حين أن البعض
يعارض بشراسة إهدار مليارات الدولارات على برامج اكتشاف الفضاء والكواكب أو أبحاث
الجسيمات الأولية الأصغر من الذرة وما شابه ذلك من المجالات البحثية التي تدعى )بالعلوم الضخمة Big
Science).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق