السياحة الالكترونية والسفر الرقمي
د/ أحمد بن حامد
الغامدي
في السفر كما في أمور
الحياة الأخرى، أحيانا الأشياء ليست دائما كما تبدو فهذا مثلا الأمير البرتغالي المعروف
بلقب (هنري الملاح) Henry the Navigator والذي أطلق عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى
في القرن الخامس عشر الميلادي لم يكن بحارا ولا رحالة ولم يسافر بشكل حقيقي وإن كان
في المقابل قام (بتنظيم) الرحلات البحرية المحورية في تاريخ البشرية. وعلي ذكر
الاكتشافات الجغرافية فمن أغرب القصص التي يمكن الإشارة إليها أن عالمة الجيولوجيا
الأمريكية ماري ثارب توصلت لأهم اكتشاف علمي في العصر الحديث وهو إثبات نظرية حركة
الصفائح التكتونية عن طريق اكتشاف الأخدود الكبير في قاع المحيط الأطلسي علما
بأنها لم تغادر مختبرها بجامعة كولومبيا. يقول الأديب الفرنسي البارز مارسيل بروست
(رحلة الاكتشاف الحقيقة لا تنحصر في رؤية أرض جديدة بل في الحصول على رؤى مختلفة)
وهذا ما حصل بالتمام مع السيدة ماري ثارب ففي منتصف القرن العشرين لم يكن يسمح
للنساء بالمشاركة في الرحلات العلمية لاكتشاف المحيطات ولكن من تحليلها العلمي (ورؤيتها
الجديدة) لبيانات الهزات الأرضية وقياسات جهاز السونار توصلت لاكتشاف الأرض
الجديدة في قاع المحيط وهي بعد لم تمخر عباب البحر.
في الشرق والغرب يعتبر
الإيطالي ماركو بولو أحد أشهر الرحالة في جميع العصور ومع ذلك تتزايد الشكوك في
حقيقة أنه قد سافر بالفعل إلى الصين. يستند البعض في نفي وصول ماركو بولو للصين بأنه
وقع في كتابه بالعديد من الأخطاء الجغرافية الغريبة (وإن كان حتى ابن بطوطة خلط
بين النهر الأصفر الشهير في الصين وبين القنوات المائية الاصطناعية). بالإضافة إلى
أن ماركو بولو لم يذكر على الإطلاق أمور مشهورة في الصين مثل سور الصين العظيم
وعادة الصينيين في شرب الشاي كما لم يتطرق لصناعة الورق التي تفردت بها الصين. يقال
إن ماركو بولو لم يحصل على معلومات عن الصين بشكل مباشر ولكن عن طريق الكتب وحكايا
التجار وهذا ما وقع فيه أحد أهم (الجغرافيين العرب) إلا وهو أبو عبيد البكري صاحب
كتاب (المسالك والممالك) والكتاب الأكثر أهمية (مُعجم ما استعجم). تكمن أهمية
المعجم اللغوي الجغرافي (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) في كون أهم
وأول كتاب يلجأ إليه القراء العادي والباحث المتخصص على حدٍّ سواء في محاولة
الحصول على معرفة جغرافية أو تاريخية أو أدبية عن موقع أو مدينة أو جبل أو وادي في
كافة أنحاء بلاد الإسلام. الغريب في أمر أبي عبيد البكري أن هذا العلامة الأندلسي
الذي عاش في القرن الخامس الهجري لم يكن قد غادر بلاد الأندلس وأن خبرته الجغرافية
المذهلة على خلاف الجغرافيين العرب لم يكتسبها من رحلاته وسفرياته وإنما من مطالعة
كتب من سبقه من الرحالة العرب مثل الهمداني أو عبر المشافهة وتصيد أخبار ومعلومات
التجار والرحالة الذين يصلون إلى الأندلس.
والمقصود من هذا
المدخل المطول أن متعة السياحة والسفر بالاستكشاف والمعرفة يمكن الحصول عليها عن
طريق (السفر الافتراضي) والذي كان في سالف الأزمان يتم من خلال تصفح الكتب والأسْفَار
(جمع سِفر وهو الكتاب) أو سماع الأخبار عن الأمصار. ومع ذلك يوجد مصدر آخر للحصول
على متعة الارتحال وبهجة الانتقال إلا وهو الخيال القصصي عند رواد ما يسمى (أدب
الرحلات) ابتداءً من الأساطير الإغريقية كرحلة جاسون وبحارة السفينة الأرجو أو ملاحم
الساجا saga
لرحلات الفايكنغ أو غرائب رحلات السندباد السبع. ووصولا إلى روايات الخيال العلمي
في العصر الحديث التي تدور حول رحلات غزو الفضاء وحرب النجوم واكتشاف ما وراء
المجرات كما الرواية ذائعة الصيت (2001 أوديسا الفضاء).
وإذا كان بعض
الارتحال هو ضرب من الخيال المجنح والأساطير الموروثة فالبعض الآخر هو نوع من
الهلوسة الصِرفة كما نجده في طقوس سحرة الشامان لدى الشعوب البدائية والذي يتعاطى
بعضهم العقاقير المخدرة ثم يزعم أن أرواحهم تغادر أجسامهم وتسافر بعيدا لأرض الأسلاف
أو تحت الأرض. وقريب من ذلك في الدرجة وليس في النوع ما يزعمه أهل الرياضات
الروحية من أهل التصوف من أنهم عند الخلوة والجوع وعدم النوم تشف أرواحهم (وتخطوا)
وتغادر أبدانهم إلى بقاع الأرض. هذا ما كان من الزعم بإمكانية السفر والارتحال الافتراضي
في زمن الجهل والخرافة أما في زمن العلم والتقنية فتتجدد الدعوى بشكل جديد من خلال
تقنية السفر عبر الواقع الافتراضي (virtual-reality travel).
منذ بدايات انتشار شبكة الإنترنت الرقمية حرصت بعض كبريات المكتبات العامة
والمتاحف المشهورة على تعريف الجمهور العام بمقتنياتها المعرفية بتفعيل مفهوم
(المكتبة/المتحف الافتراضي). في مرحلة لاحقة حاولت وكالات السفر العالمية
الاستفادة من فكرة (التثقيف عن بعد) في تسويق منتجاتها السياحية بتجهيز نشرات
إعلانية تمنح (الزبون السياحي) تصور مرئي عن الأجواء المتوقعة لرحلته السياحية عن
طريق مشاهدة أفلام تصويرية بتقنية 3D للواقع الحقيقي الذي سوف يسافر له. وبعد
المزاوجة بين التطبيقات الإلكترونية المتقدمة لألعاب الفيديو الافتراضية وتقنيات
التصوير الرقمية عالية الجودة HD أصبح بالإمكان الآن إقناع
السائح بأنه بالإمكان الآن أن يزور أصقاع العالم وهو مسترخ على أريكة منزله. وفي الوقت
الحالي تقوم وكالة سفريات يابانية بتنظيم (رحلات سياحية افتراضية) تشمل استخدام
مقاعد الدرجة الأولى للطائرات كما يتم توظيف مضيفات طيران يشرفن على ربط أحزمة
المقاعد وتقديم إرشادات ما قبل إقلاع الطائرة. أما التقنية العلمية الذائع الانتشار
في سوق السفر الافتراضي فهي رحلات (التحليق الرقمي) حول أشهر المواقع السياحية في
العالم التي تم تصويرها بطائرات الدرون ثم عرض صورها عبر منصة متحركة يقف عليها
السائح وهو يهتز وكأنه يطير حول الأهرامات مثلا. ومن المتوقع في المستقبل أن تتطور أكثر خدمات
وواقع تلك الرحلات السياحية الافتراضية وألا تكون مقتصرة على استخدام سماعات
ونظارات الرأس (الخوذات الرقمية) ولكن تشمل أيضا تجهيز موقع متكامل يستشعر فيه
السائح الإلكتروني حرارة الصحاري أو رذاذ أمواج المحيط أو عبق المروج والغابات أو
زفيف الرياح على قمم الجبال. حدود الخيال في مستقبل التقنية ليس لها حدود ولهذا
منذ الأمس وليس اليوم بدأت مراكز الأبحاث ومعامل التطوير في اختراع (بدلة
اصطناعية) تحقق لمن يلبسها الشعور بجميع ما سبق من أجواء ووعثاء السفر من الحر والمطر
وهبوب الرياح وروائح الطرقات بل وحتى توفير التذوق الافتراضي للأطعمة والمشروبات
لعشاق السفر لأجل تجربة أكلات الشعوب.
كما هو معلوم أحد
أكثر القطاعات الاقتصادية تضررا من وباء الكورونا هو قطاع الطيران والسياحة والسفر
وبسبب المخاطر والقلق المحتمل من السفر ربما يكون مجال السفر الإلكتروني الافتراضي
والانتقال الرقمي المجازي هو الحل المتاح للبعض (إلى حين ميسرة). بينما للبعض الآخر
ربما تكون وسيلة تجديد متعة الارتباط بالسفر لا تعدو تصفح مطبوعات دليل المسافر أو
مطالعة كتب أدب الرحلات أو مشاهدة البرامج الوثائقية في مواقع الإنترنت والقنوات
الفضائية للسياحة والسفر أو التلصص على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لمشاهير
الرحالة ومهابيل السياحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق