التجديد في العيد (عيد الكمامات)
د/ أحمد بن حامد الغامدي
قديما قيل (وبضدها تتبين الأشياء) والقائل
هو طيب الذكر المتنبي فهو وإن كان نبهنا إلى أن نقيض الشيء وضده يبين كمال صورة
الأصل فالليل يجلي جمال النهار والحزن يبين بهجة الفرح، إلا أن المتنبي بمخيلته
الأدبية النافذة عرفنا في سياق مختلف بنقص القاعدة التي يتشدق بها علماء المنطق
(الأضداد لا تجتمع). بهجة السرور قد تكون ممزوجة بمرارة الفجيعة فهذا المتنبي مرة
أخرى يصف حال وقع صدمة خبر وفاة والدة سيف الدولة على نساء وجواري القصر المنعمات
والضاحكات وكيف أنهن شرقن باجتماع دمع المرح بدمع الترح:
أتتهنّ المصيبةُ غافلاتٍ فدمع الحزن في دمع الدّلالِ
بشيء من التجوز ربما يصح أن يكون هذا وصف مآل
الحال لأغلبنا اليوم في هذا (العيد الفريد) فمن جانب نسح الدمع فرحا بالعيد وما
يمثله من إشراقة الحبور ولكن في (النقيض) والضد من ذلك قد تتحدر دموع الحزن وشهقات
الحنين لفقد اجتماع الأهل والأحباب والجيران بسبب احتياطات العزل المنزل. وبالعودة
مرة ثالثة لابي الطيب المتنبي فهل في (مستجدات) حال عيدنا الفريد هذه العام جزء من
الإجابة على سؤال المتنبي الشهير والمتكرر كل عيد عبر العصور عن (الجديد في
العيد):
عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ بما مضى أم بأمر فيك (تجديدُ)
صفحات التاريخ ووريقات دواوين الأدب تكشف
لنا عن تكرار وتجدد تماهي وتمازج الأضداد في أجواء العيد ما بين فرح وترح لدرجة الشيك
والحيرة كما قال شاعر الموصل ابن الدهان:
أمأتمٌ هذه الأيام أم عيدُ وذي الأغاني نوحٌ أم أغاريدُ
كانت مواسم أفراحٍ تجددها فاليوم هُنَ لفرط الوجد (تجديدُ)
وكعادة الشعراء يحوم بعضهم حول معنى واحد
مشترك ويكرر بعضهم النسج والغزل على غرز الأول فالمعنى التصويري لفجيعة الأفراح
(العيد الحزين) عند المتنبي الحلبي كرره بعده ابن الدهان الموصلي وأعاد سبكه لاحقا
الشاعر الدمشقي الأمير منجك الجركسي بقوله:
لا العيد من بعد سُكان الحِمى عيدُ ولا لصبري الذي أبليت (تجديدُ)
سيان عندي نوح بعد بينَهُم ومن بلابل دوح اللهو تغريدُ
قد أغرقت مُقلتي قلبي بأدمعها إن السرور الذي أبدية تقليدُ
هذا الجو الكئيب في قصائد هؤلاء الشعراء
وغيرهم كثر يرجع بكل بساطة يا سادة لفقد (مشاركة الأحباب) لأجواء وبهجة العيد فهذا
المتنبي يتمنى عدم حلول العيد واللقاء به لا لشيء إلا أنه بعيد عن أهله وعشيرته
(أما الأحبة فالبيداء دونهمُ). ينقل عن الحافظ ابن رجب رحمه الله قوله (ليس العيد
لمن لبس الجديد .. إنما العيد لمن طاعته تزيد) وهذه مقياس شرعي صحيح ومن جانب
المقياس العاطفي والوجداني للعيد نجد الطبيب والشاعر الأندلسي ابن زهر الحفيد يشخص
حقيقة العيد بأقصر عبارة موشحة (العيد أنتم):
ما العيدُ في حلَة وطاق وشمُّ طيبِ
وإنما العيد التلاقي مع الحبيبِ
وبالعودة للمرة الرابعة لحال المتنبي مع
العيد و (لواعج الذكريات) نفهم في هذا السياق عمق مأساته في العيد عندما كرر في
قصيدة ثانية وصف (العيد الحزين):
يضاحكُ في ذا العيد كُلٌّ حبيبهُ حِذائي
وأبكي مَنْ أحب وأندبُ
أحِنُّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم وأين من المشتاق عنقاءُ مُغربُ
لوعة المحب بفقدان الأهل وغصته في يوم العيد
جراء تعذر اللقاء بهم ألهبت مشاعر الشعراء وأذكت قرائح الأدباء ولهذا قَصدت هذا
المعنى القصائد وبُنيت أبيات الشعر حوله هذه الخاطرة الوجدانية. ومن ذلك قول الشاعر العراقي المعاصر مصطفى جمال
الدين:
هذا هو العيدُ ، أين الأهل والفرحُ ضاقت به النفسُ أم أودت به القُرحٌ
وأين أحبابنا ضاعت ملامحهم من في البلاد بقي منهم ومن نزحوا
وقديما قبل يشدو مصطفى جمال الدين قصيدته
قال بلدياته شاعر العراق الفحل صفي الدين الحلي ماذا ينفع العيد إذا كان الحبيب
بعيد؟:
العيدُ أتى ومن تعشقتُ بَعيد ما أصنعُ بعدَ منيّة القلب بِعيدِ
ومن مشاهير الشعراء الذين تجرعوا مرارة
الذكريات في العيد الحزين الشاعر السوري الكبير نزار قباني إذ يقول:
يا عيدُ عذراً فأهل الحيّ قد راحوا
واستوطنَ الأرض أغرابٌ وأشباحُ
يا عيدُ ماتت أزاهير الرّبى كمداً
وأُوصد الباب ما للباب مفتاحُ
وهذا شاعر سوري آخر (ابن ملك الحموي) يتجرع
قبل قرون طويلة نفس تلك الكأس المرة:
قالوا غداً العيد ماذا أنت لابسهٌ فقلت قد حاكت الأسقام لي بدنا
وهل يٌسر بعيد من أحبته عنه نأوا وبهم حادي السرى ظعنا
من البنى الأسلوبية في الشعر العربي توظيف
الشيء في نقيض وعكس سياقه الظاهر فالعيد فرحة قد يتم توظيفه لبث معاني الحزن
والتفجع وهذا كثير في شعر مآسي العرب والمسلمين وفي قصائد متعددة لعمر أبو ريشة وعمر
بهاء الدين الأميري وفدوى طوقان عل سبيل المثال. في واقعنا المحلي وفي صبيحة يوم
عيد من سنة 1408هـ نجد شاعرنا الكبير عبد الرحمن العشماوي ومن باب المشاركة الوجدانية
وبالرغم من أنه في ذلك العيد بين أهله وقرابته في مدينة الباحة إلا أنه يتمثل حال
المشردين جراء مآسي أهل الإسلام فيقول بلسان الحال في قصيدته الفريدة (عندما يحزن
العيد):
أصبحتُ في يوم عيدي والسؤال على ثغري يئنّ وفي الأحشاء نيـرانُ
أين الأحبّـةُ وارتـد السـؤال إلى صدري سهامًا لها في الطعن إمعانُ
أين الأحبّـةُ وارتـد السـؤال إلى صدري سهامًا لها في الطعن إمعانُ
العيد في مقام الذم !!
في الغالب العيد نشوة وفيض
المشاعر ولهذا ناسب توظيف الشعر في الكشف عن مكنون النفس البشرية وتفاعلها مع
أجواء العيد ولكن كما هو معلوم الشعر يُساق للمديح والثناء كما قد يُعتسف للهجاء والتنقص.
في بعض الحالات سبب سعادة من حولك هو نفسه عين ومصدر شقاوتك أنت ولهذا من عجائب
النفس البشرية المضطربة أن أجواء السعادة قد تكون هي ذاتها منغصة الروح. قديما
تمنى المتنبي ألا يأتي العيد لأنه (يجدد) أحزانه ومن هنا أطلقها مدوية وصاعقة في
النفرة من العيد (فليتَ دونك بِيداً دونها بِيدُ) وعلي نفس المنوال تمنى الشاعر الأندلسي
ابن الجنان الأنصاري أن تتباعد المسافات والأوقات بينه وبين (العيد الحزين):
دَنا العيدٌ ليت العيد لم يدنُ
وقته فقد هاج لي وجداً وزاد غراما
وذكرني إقباله بمواسم مضت كن بالشّمل النظيم كراما
وبالعودة لحديث (اجتماع الأضداد)
في العيد والتقلب بين البهجة والغصة لا عجب أن نجد أن البعض يتألم من عدم قدرته
مشاركة الآخرين مباهجهم وأفراحهم ولهذا يتخذ موقف أبي فراس الحمداني (إذا مت
ظمآناً فلا نزل القطرُ) فإذا حالت صروف الدهر أن ابتهج بالعيد فليته لا يأتي.
أشتهر عن الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي اصطفافه مع المعدمين والمعذبين في
الأرض كما في قصيدته الحزينة عن الأرملة الفقيرة بينما نجده في قصيدة (اليتيم في
العيد) يلخص ظاهرة (ذم العيد) والنفور منه:
ألا ليت يوم العيد لا كان إنه يجدّد للمحزون حزناً فيجزعُ
يُرينا سروراً بين حزن
وإنما به الحزن جَدٌ والسرور تصنعُ
ونبقى في بغداد ومع شاعر آخر انحاز
للمعذبين في الأرض وهو الشاعر العباسي الأحنف العكبري والذي وصفه شيخ الأدب
الثعالبي بأنه شاعر المكدين من أهل الاحتيال والتهميش ولهذا لم يتورع عن أن يذم
العيد في سياق الانتصار لقضايا المسحوقين:
قالوا أتى العيدُ قلت العيد
عادته غمّ الفقير وتفريج المياسيرِ
حظي من العيد بعد الأجر مع الغبار وأكل الخبز بالصيرِ
أغدو على العيد في أثواب
مضطهدٍ والناسُ في العيد في خزّ ومقصورِ
ومن الدفاع عن المهمشين
اجتماعيا لتبني قضايا المضطهدين في دنيا السياسة وبنفس درجة الاندفاع نجد أن العيد
لا يسلم من الذم والقدح فهذا الشاعر المعاصر الكبير أحمد محرم يتألم لحال الأمه في
زمن بهجة العيد:
لا مرحبا بالعيدِ أقبل رَكبهُ يطفو ويرسُبُ في عُبابٍ من دمِ
يا عيدُ جدّدت الهموم
بطلعةٍ أبلت
بشاشة عهدك المُتقدمِ
ماذا حملت من الكروب لأمةٍ رزحت بأعباء الخطوب الجُثّمِ
ونختم بذكر نكبة الأمير الأديب
المعتمد بن عباد فبعد عز المجد في إشبيلية تجرع ذل الهوان في سجن أغمات المغربي
ولهذا ربما أصابته لوثة نفسية (اضطراب ما بعد الصدمة) فإذا بنا نجده يتهجم على
العيد ويعتبره قدومه إساءة له وفترة كئيبة لا يرغب أن تتكرر عليه:
فيما مضى كُنت بالأعيادِ
مسرورا فساءك العيدُ في أغمات مأسورا
أفطرت في العيدِ لا عادَت إساءتُهُ فكان فطرك للأكباد تفطيرا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق