الخميس، 30 أبريل 2020

العودة إلى ( رمضان خارج المألوف )

الصيام في زمن الكورونا 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

قبل عدة سنوت كتبت مقال بعنوان (رمضان خارج المألوف) رغبت فيه التطرق والنظر لهذا الشهر الفضيل من زاوية مختلفة ونافذه محتجبة مثل صعوبة الصيام في الفضاء والجدل الفقهي حول ذلك أو محاولة حصر من صام في القطب المتجمد أو من مر عليه شهر الصيام وهو على قمة افريست بجبال الهملايا. في ذلك الوقت لم يخطر في بالي على الاطلاق أن الصيام والانفراد بشهر الخير في المنزل سوف يكون يوما ما من أغرب الأمور وأكثر حالات رمضان خروجاً عن المألوف. لم يحصل قط في التاريخ الإسلامي في مثل هذا الشهر أن رابط الصوّام وتهجد القوّام في مشارق الأرض ومغاربها في دورهم وحجزوا أهاليهم بأنفسهم في بيوتهم.
ولحكمة ما يشاء الحكيم العليم سبحانه أن يغير من أحوال هذا الشهر من الرخاء إلى الشدة ومن النصر إلى الهزيمة ومن الرحمة إلى العقاب. شهر رمضان (شهر الانتصارات) والمعارك الإسلامية الخالدة كغزوة بدر وفتح مكة والقادسية وحطين وعين جالوت ولكن حصل في رمضان كذلك هزيمة المسلمين الكبرى في معركة بلاط الشهداء عام 114 هـ والتي سقط فيها أكثر من عشرة آلاف شهيد بالقرب من مدينة بواتييه الفرنسية. فاجعة هذه المقتلة العظيمة ليس لأنها أوقفت التقدم الإسلامي لقلب أوروبا ولكن لأنها كانت باكورة الهزائم المرة التي سوف نتجرعها بشكل متواصل من يد ذلك العدو الصليبي الشرس.
رمضان (شهر الخير والبركة) وفي الغالب هو موسم النماء والوفرة ولكنه قد يوافق امتحانا للأمة الإسلامية بسبب ذنوبها فيصيبها الله بالجوع والخوف والقحط كما حصل لأرض مصر في سنة 595 هـ عندما اشتدت المجاعة على الخلق في شهر رمضان بسبب نقصان مياه النيل. وبلغ بالناس المسغبة وشدة الجوع لدرجة أن المؤرخ عبد اللطيف البغدادي ذكر أن الجياع (ولا أدري هل كانوا يصومون أو لا) أكلوا الكلاب والجيف وروث البهائم والجثث بل وحتى الأطفال.
في شهر رمضان تعم (السكينة والطمأنينة) ولكن قد يحدث أحيانا أن تفزع القلوب الوجلة بسبب كارثة طبيعية حصلت فجأة كما كان شعور أهل مدينة أغادير المغربية في فجر اليوم الثالث من رمضان لعام 1960م عندما دك مدينتهم زلزال مدمر خلف حوالي خمسة عشر ألف قتيل. وفي الجزر الأندونيسية لطالما كان بركان كاراكاتوا مصدر قلق لسكان البلاد بسبب نشاطه البركاني المتجدد حيث تسبب في عام 1883م بمقتل 35 ألف نسمه. وفي هذه الأيام بالذات يدخل شهر الصوم وفوهة الحميم هذه ما زالت نشطة علما بأن هذا البركان ثار آخر مره قبل أسبوعين فقط وخلف موجات تسونامي بحرية تسببت في مقتل عدة مئات من الضحايا.
(الأجواء الروحانية) من أبرز معالم شهر رمضان المبارك لكن قد يقع في بعض السنين أن تكون تلك الأجواء مفعمة بالأعاصير وصاخبة بالعواصف الرعدية. وهذا ما مر به أهل سلطنة عمان في يوم الثاني عشر من شهر رمضان قبل سنتين حيث عاشوا ساعات عصيبة عندما ضرب إعصار مدمر سواحل السلطنة بسرعة هائلة بلغت 170 كيلومتر مما خلف خسائر كبيرة وهلع من غضب الرحمن الذي أصابهم في عصر يوم الجمعة.
وفي يوم الثاني عشر من شهر رمضان تذكر كتب التاريخ كذلك حادثة مناخية فريدة أصابت هذه المرة المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم عندما تعرضت لعواصف رعدية شديدة نتج عنها إصابة إحدى الصواعق لمئذنة المسجد النبوي وذلك في عام 886 هجري. وقد نتج عن ذلك مصرع رئيس المؤذنين الشيخ شمس الدين بن الخطيب كما انشق سقف منارة المسجد واشتعلت النيران في بعض أجزاء الحرم النبوي وتوفي في هذا الحريق عدة أشخاص. وبسبب الاضرار البالغة في سقف المسجد النبوي وسقوط حوالي 120 عامود من أعمدته ففي الغالب أن الصلوات الجامعة وصلاة التراويح ربما تغير نمطها في رمضان تلك السنة. والجدير بالذكر أن تلك الأجواء الغائمة في شهر رمضان قد شهدها المسجد الحرام في مكة المكرمة وذلك في سنة 883 هـ عندما تسببت الامطار الغزيرة في منتصف شهر رمضان بدخول السيول المتدفقة للمسجد الحرام من أغلب أبوابه بل وحتى بعض نوافذ الحرم. وتكرر هذا الأمر مرة أخرى بعد ذلك بأسبوع عندما دخل السيل في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان. ومن المحتمل أن هذه السيول الغزيرة والمتكررة على المسجد الحرام أثرت على صلاة الناس للجمعة والتراويح واعتكافهم في الشهر الكريم.

وأخيرا لا يجدر ختام ذكر النكبات والكوارث التي توافقت مع الشهر الفضيل دون التعريج على ما نحن فيه هذه الأيام من انتشار الوباء والبلاء وكما هو متوقع حصل في التاريخ الإسلامي عدد كبير من الأوبئة والطواعين التي تزامن انتشار بعضها مع شهر رمضان. ومن ذلك مثلا الطاعون الخطير الذي وقع بالعراق عام 131 هـ وساهم بشكل أو بآخر في تعجيل سقوط الخلافة الأموية بعد ذلك بسنة وتذكر كتب التاريخ أن شدة ذلك الوباء كانت في شهر رمضان من تلك السنة. وكذلك الطاعون الأسود الشهير والوباء الاعظم الذي عمّ العالم كله عام 749 هـ وقتل عشرات الاف من المسلمين في الشام ومصر وكان من جملتهم عدد كبير من مشاهير العلماء والادباء الذين توفى بعضهم في شهر رمضان مثل صلاح الدين الصفدي وابن الوردي.
وبعد فإن ما سبق كان سردا للأخبار والقصص عن النكبات والمصائب الجسام التي أصابت المسلمين أثناء شهر الصيام ثم ما أسرع أن انجلت بفضل الله وأصبحت (حديث الذكريات) وخبر السنين الغابرات وهو ما سوف يحصل بمشيئة الله مع هذه الجائحة الحالية فهي أزمة وتنجرف وغمة وتنكشف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق