الجمعة، 28 فبراير 2025

( وأخيرا في القرن 21 .. منازل بلا تلفزيونات !! )

 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1446/5/21

 في يومي 21 و22 نوفمبر من عام 1996م عقدت الأمم المتحدة أول منتدى عالم للتلفزيون لمناقشة الأهمية (المتزايدة) للتلفزيون وتوقيت هذا التجمع الدولي كان يتزامن مع ذروة عصر (القنوات الفضائية) وعليه لم يكن من المستغرب بعد ذلك بشهر واحد أن يصدر قرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة باعتبار يوم: 21 من نوفمبر (اليوم العالمي للتلفزيون) وذلك كوسيلة للاعتراف بدور هذا الجهاز في عملية صنع القرار الفكري والاقتصادي بل وحتى السياسي. الطريف في الأمر أن الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة المحدث هذه الأيام وفي الصفحة الخاصة باليوم العالمي للتلفزيون يطرح التساؤل التالي: في القرن الواحد والعشرين، ما هو الغرض من التلفزيون؟ وهذا ربما يشير ويكشف عن الأهمية (المتناقصة) للتلفزيون في واقعنا المعاصر.

خلال فقط عقدين من الزمن تراجعت كثيرا أهمية الشاشة الفضية كنتيجة حتمية للمنافسة الهائلة مع (الشاشات الرقمية) للأجهزة الحديثة مثل الجوالات الذكية وأجهزة الآيباد ومزاحمة قنوات التواصل الحديثة مثل موقع اليوتيوب على شبكة الإنترنت. لذا من سخرية الواقع أن البعض قد يحتفل باليوم العالمي للتلفزيون ليس بمشاهدة برامج الشاشة الفضية، ولكن بمتابعة فعاليات هذا اليوم على منصة تويتر أو حسابات الفيسبوك. بالنسبة لشباب اليوم أو ما يسمى جيل الألفية (جيل زد Generation Z) هو منذ نعومة أضافره ومنذ مراحل طفولته المبكرة وثيق الصلة بشبكة الإنترنت والأجهزة الذكية ولهذا علاقته مع جهاز التلفزيون محدودة أو ربما مقطوعة على خلاف جيل الطيبين أو جيل التلفزيون. الجيل القديم الذي نشأ في ذروة انتشار وشعبية جهاز التلفزيون البعض يسميه جيل أكس X أو الجيل العاشر Generation X أي الجيل الذي ولد أفراده بين فترة الستينيات إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي. وبحكم أن أفراد هذا الجيل القديم لم يكن لهم وسيلة للتسلية داخل المنزل إلا (مشاهدة) شاشات التلفزيون لهذا منذ البداية ارتفعت أصوات التحذير من أضرار (جلوس الأطفال أمام التلفزيون) بل وخطورة الإفراط في مشاهدة التلفزيون على صحة ونفسية الطفل وتقدمه التعليمي وعلاقاته الأسرية والاجتماعية.

والجدير بالذكر أنه في نفس الفترة التي وجدت فيها اتجاهات دينية في مجتمعنا تحرم مشاهدة التلفزيون وإدخاله للمنزل نجد في تلك الحقبة الزمنية بقايا بعض التيارات المعارضة للتلفزيون في المجتمعات الغربية. فمثلا بعض الطوائف المسيحية المحافظة (الإنجيلية والمعمدانية واللوثرية) كانت تمنع وتحذر أتباعها من مشاهدة جميع برامج التلفزيون وتأكد بشكل خاص على تجنيب الأطفال التعلق بجهاز التلفاز وفي عام 1975 أصدر مجموعة من الحاخامات اليهود في أمريكا تحذيرا أشبه بفتوى دينية مطولة موجهة للجماعات اليهودية تنبهم فيها على أضرار التلفزيون. وفي سياق ذي صله ففي منتصف القرن العشرين كتب رئيس جامعة بوسطن مقالا في مجلة التايم الأمريكية يحذر فيه من تأثير برامج التلفزيون حيث قال (إذا قدر للهوس التلفزيوني أن يستمر بهذا النوع من البرامج سوف تتحول أمريكا إلى أمه من الأغبياء). وبعد ذلك بسنوات وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي انتشرت حملات دعائية في بعض الدول الأوروبية حملت عنوان (أنقذوا القراءة) وكان سبب ذلك الهلع الكبير من أن التلفزيون يصرف الناس عن المعرفة الجادة وتسبب في أزمة القراءة والعزوف عنها. وفي نفس تلك الفترة وبالتحديد في عام 1982م تعاقد المعهد الوطني للصحة العقلية ووزارة الصحة الأمريكية مع كبار الباحثين في مجال التلفزيون من مختلف الجامعات الأمريكية العريقة (مثل هارفارد وستانفورد وييل وبنسلفانيا) لتلخيص الرأي العلمي حول الأثر السلبي للتلفزيون وقد أصدروا تقريرا ضخما من مجلدين في تقييم مخاطر ذلك الجهاز.

ومن الواضح أن فترة الثمانينيات المتوافقة مع أواخر زمن الطيبين وخواتيم العصر الذهبي للتلفزيون تزايدت خلالها حدة الانتقادات لجهاز التلفزيون وبعد آلاف الأبحاث العلمية المنشورة عن آثار وأضرار الشاشة الفضية على الأطفال خصوصا ظهر النقاش حول (المسألة التلفازية TV question). وأذكر أنه في نهاية التسعينيات واثناء الدراسة في بريطانيا وبعد النقاش مع مشرفي على رسالة الدكتوراه حول نتائج أبحاثي الكيميائية كان يحصل أحينا حوار وسواليف عامة كان أحدها عن برامج التلفزيون البريطاني. وعندما أبديته له استغرابي أن بعض البرامج الفكاهية البريطانية تسخر من نبي الله عيسى الذي هو عندهم ابن الله كان رد مشرفي وهو رجل مسيحي متدين أن ذكر لي أنه لمثل هذا السبب توجد عوائل وأسر وخصوصا في أسكوتلندا لا تسمح بدخول التلفزيون لمنازلهم !!.

 الشاشات الرقمية أضرار ومحاذير

وبعد هذه المقدمة المطولة عن تاريخ تيار القطيعة مع جهاز التلفاز شرقا وغربا لا بعد أن أصارح وأعترف للقارئ الكريم أنني كنت ولا أزال من عشاق شاشة التلفاز حيث إنني أدين بعد الله سبحانه وتعالى بالفضل في مخزوني الثقافي بأن ثاني مورد له (بعد الكتب وقبل السفر) هو مشاهدة تلك الشاشة السحرية والمطالعة الشغوفة بالذات لبرامجها الثقافية والوثائقية وحواراتها الأدبية والفكرية. ومع ذلك سوف ننطلق من (موروث) الانتقاد والتحذير من أخطار وأضرار التلفزيون إلى التحذير والتنبيه لأضرار وأخطار الشاشات الرقمية ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا فيما يتعلق بالاستخدام المفرط والخاطئ لها من قبل للأطفال.

في الأمثال الشعبية عند إرادة ضرب المثل على أن مصيبة جديدة أكبر من مصيبة قديمة كثيرا ما يقال (الله يحلل الحجاج عند ولده) وبالعربي الفصيح يستشهد البعض بشطر بيت شعر طرفة بن العبد (حنانيكَ بعضُ الشر أهونُ من بعض). والمقصود أننا في الزمن القديم ربما بالغنا في التحذير من أضرار شاشة جهاز التلفزيون وإذا بنا اليوم نترحم على ذلك الزمن الجميل والبسيط عندما نقارن أخطار وأضرار أجهزة الهواتف الذكية والألواح الرقمية Tablets على الأطفال بأضرار التلفزيون. ولنبدأ المقارنة بما يسمى زمن التعرض للشاشة screen time فقديما كانت متوسط الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام شاشات التلفزيون نادرا ما يزيد عن ثلاث ساعات وكل أبناء جيلي يعرفون انه لم يكن يجذبنا ونحن صغار إلا الساعات الأولى من الإرسال التلفزيوني عندما كانت تعرض برامج الرسوم المتحركة. لكن للأسف في الوقت الحالي تشير أغلب الدراسات والاستقراءات أن متوسط (وقت الشاشة) زاد للضعف فمثلا في الولايات المتحدة يقضي الأطفال في سن 8-12 كل يوم حوالي ست ساعات وهم أمام شاشات الجولات والآيباد وتزداد المشكلة مع المراهقين الذين قد يصل لديهم وقت التعرض للشاشة لمدة تسع ساعات يوميا !!. 

الله يحلّل شاشة التلفزيون عند بنتها شاشة الهاتف الذكي أو أختها شاشة اللوح الرقمي وذلك لأن شاشات جهز التلفزيون التقليدي كانت في الغالب بعيدة عن عين ووجه المشاهدة حيث كانت الحكمة السائدة ترشد أن تكون المسافة بين (الرائي) أي التلفاز وبين المشاهدة حوالي ثلاثة أمتار. طبعا كان من المناظر المشهورة في الزمن الجميل في عصر التلفزيون الذهبي أن (يتحلق) الأطفال الصغار حول شاشة التلفاز ولذا عندما يقتربون كثيرا منه يحصل في الغالب أن يتم نهرهم من قبل الآباء أو الأخوة الكبار. وللقارئ الكريم أن يقارن حال أطفالنا اليوم بحال أطفال الجيل القديم فالغالبية العظمى من أطفال اليوم لا يكاد جهاز الجوال أو الآيباد يفارق وجيههم وليس فقط أيديهم والله المستعان. وبالجملة يفضل ألا تقل المسافة بين العين وبين الشاشات المضيئة للأجهزة الذكية عن 30 سنتيمترا ولكن كما هو مشاهدة فإن بعض أطفال جيل اليوم يشاهدون محتوى شاشاتهم من (المسافة صفر). وعليه إذا كان الآباء قديما كانوا يعبرون عن معارضتهم لجهاز التلفاز بتحوير اسمه من (التلفزيون) إلى (تلف العيون) فإن أطباء العيون في زمننا الحالي يحذرون من مشاكل صحة النظر التي تنتج لدى الأطفال من التحديق لساعات طويلة في الشاشات المشعة للأجهزة الذكية من مسافة قصيرة. وبالجملة للصغار والكبار توجد احتمالية كبيرة للإصابة بمشكلة تضرر العين بسبب التعرض المفرط لأضواء شاشات الجولات وأجهزة الكمبيوتر وهي الحالة الصحية التي أصبحت تسمى (متلازمة رؤية الحاسب الآلي computer vision syndrome). بسبب طول النظر لشاشات الكمبيوتر تصاب العين بحالة (إجهاد العين الرقمي) وهي تشكيلة من المشاكل الصحية التي تصاب بها العين مثل الاحمرار والحكة وجفاف العين والرؤية الباهتة بل الإصابة ببعض حالات الصداع بالإضافة طبعا لبعض حالات تصلب الرقبة وآلام الظهر.

وفي الختام نصل إلى ثالثة الأثافي والطامة الرقمية الكبرى التي ترقق ما قبلها من أضرار سواء من طول وقت الشاشة أو تلف العيون بسبب التحدق من مسافة صفر ونقصد هنا أن (التفاعل مع الشاشة) بالرغم من أنه يحتوي إيجابيات هائلة إلا أنه مصدر أضرار وأخطار شنيعة. في السابق كان التعامل مع شاشة التلفزيون (سلبي) بمعنى أن المشاهدة يتلقى فقط ما يصل إليه من المرسل وبالرغم من أنه في زمن الطيبين كان القلق عاليا لدى البعض من (محتوى) برامج التلفزيون إلا أن أضرار محتوى الشاشات الرقمية أخطر بما لا يقارن. قديما كانت الجهات الرسمية المشرفة على البث التلفزيون لا تسمح بعرض محتوى مخالف بشكل فج للقيم الأخلاقية والمبادئ الدينية أما الآن وفي زمن فضاء الإنترنت شبه المفتوح فكل زبالات الأفكار وسماجات السلوك تصل للمتلقي صغيرا كان أو كبيرا.

في الزمن الجميل وفي العصر الذهبي للتلفزيون كان لا يسمح أن (يطل) على المشاهدين إلا كل شخصية محترمة ومميزة في الغالب وذلك لأن حراس البوابة (gatekeepers) وفق مصطلحات علوم الاتصال والصحافة والإعلام يقومون بوظيفة (الرقابة) على محتوى البرامج التلفزيونية وبالتالي كانوا يصدون الرعاع من اقتحام منازل الأسر المحترمة. بينما في زمن منظومة (التواصل الاجتماعي) الرقمية مثل منصات التيك توك والإنستجرام وسناب شات ومن لف لفها تم كسر البوابة وإزاحة الحراس وفتح بوابات السد لكي تدفق سيل هادر وسام من السخافات والسذاجات من عشرات الآلاف ممن يطلق عليها بالزور والبهتان (صناع المحتوى).

حقا وصدقا (الله يحلل الحجاج عند ولده) في زمن الاستقبال غير التفاعلي مع البث التلفزيوني كانت الأسرة تأمن من بقاء الأطفال متحلقين أمام شاشة التلفزيون وأقصى ما كانت تخشى عليهم هو أن تصاب أعينهم ببعض الضرر من طول التحديق في الشاشة الفضية من مسافة قريبة. ولكن في عصر (التفاعل عن بعد online interaction) من خلال شبكة الإنترنت أصبح الطفل ليس معزولا في المنزل ويمكن أن يتداخل ويتفاعل ويتواصل مع أشخاص آخرين خارج المنزل. ومن هنا قد يتعرض الطفل لأضرار وأخطار متعددة مثل التحرش والابتزاز الرقمي أو التلاعب النفسي به من خلال الألعاب الإلكترونية والتي قد تؤدي به إلى الانتحار مثل لعبة (تحدي الحوت الأزرق) وغيرها من الألعاب الانتحارية مثل (لعبة مومو) التي قد تدفع الأطفال لمحاولة الانتحار أو إيذاء الآخرين أو على الأقل تسبب لهم ضرار ودمار هائل في صحتهم النفسية وترابطهم الاجتماعي داخل الأسرة.

قبل عقود من الزمن كان البعض منا يحاول أن يقنع الآخرين بجعل منازلنا خالية من أجهزة التلفزيون وفي الوقت الحالي بالفعل بدأت بعض المنازل ظاهريا لا يوجد فيها ذلك الجهاز، ولكن للأسف ليس قناعة بالجدال حول أضراره، ولكن نتيجة للاستسلام والرضوخ التام للتقنية الجديدة (الشاشات الرقمية) التي أخيرا جعلت منازل القرن الواحد العشرين (بيوت بلا تلفزيونات).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق