الجمعة، 28 فبراير 2025

( جديد السياحة الداخلية .. سياحة ما قبل التاريخ !! )

 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1446/5/7

 في عام 1878م قامت الرحالة الإنجليزية المشهورة باسم (الليدي آن بلنت) هي وزجها ويلفرد بمغامرة السفر من دمشق إلى حائل تلك المدينة التي عشقها زوجها الدبلوماسي قبل أن يراها لدرجة قوله بأنه (لا يمانع أن يقطع رأسه بعد أن يزور مدينة حائل !!). وقبل الوصول إلى مدينة حائل من جهة الشمال كان يجب المرور أولا على قرية جبة التي يقال إن الليدي آن بنت وصفتها بأنها (من أغرب الأماكن في العالم وإنها إحدى مباهج نفود الصحراء) وفي الواقع أستغرب البدو والعرب المرافقين لها عندما طلبت أن تزور موقع جبل أم سنمان لكي تشاهد الرسومات الصخرية المنقوشة من فترة ما قبل التاريخ. في ذلك الزمن أي نهاية القرن التاسع عشر نجد أن عددا قليلا من غير أبناء منطقة حائل كان قد سمع بوجود تلك النقوش المذهلة للحيوانات على الصخور بل إن الرحالة والجغرافي الكبير الهمداني عندما ذكر قرية جبه في كتابه (صفة جزيرة العرب) أهتم فقط بذكر أنها موقع ماء في وسط الرمال.  على كل من المحتمل أن الليدي آن بلنت وزوجها قد علموا بوجود هذه النقوش الصخرية بعد اطلاعهم على وصف الرحالة الإنجليزي ويليم بلغريف لمدينة حائل والتي زارها عام 1865 ميلادي.

ما أود الوصول إليه من هذه المقدمة هو درجة الوعي العالية لبعض الرحالة والمغامرين بالتخطيط الدقيق لتفاصيل رحلة سفرهم مع التحلي بصفة حب الاستطلاع والرغبة الجامحة في اكتساب المعرفة والاستكشاف. ولهذا ونحن اليوم ومع بداية إجازة الشتاء في نهاية الفصل الدراسي الأول وحيث من المحتمل أن تقوم العديد من الأسر والأفراد بالسفر إلى مختلف مناطق المملكة نظرا لأن الأجواء الباردة والفترة القصيرة للإجازة المدرسية هي محفز كبير للسياحة الداخلية. من الجميل أن نلاحظ أنه في العقود الأخيرة بدأنا نشهد في مجتمعنا المحلي ظهور أنواع متقدمة ورفيعة المستوى من أنشطة السياحة الاستكشافية مثل سياحة الكهوف وسياحة رياضة الغوص والسياحة الجيولوجية والسياحة الرياضية والسياحة الأدبية والسياحة الدينية. ومع ذلك نحن ما زلنا بحاجة لجهود إضافية للتنشيط السياحي والتعريف بمواقع ومزارات سياحية متخصصة ذات طابع ثقافي ومعرفي فريد ترتبط بالزمن والعصور التاريخية السحيقة.

من الرائع أن يحرص بعضنا على زيارة القلاع الأثرية في مدننا المختلفة (قلعة وادرين بتبوك وقلعة تاروت بالقطيف وقلعة مارد بدومة الجندل وقلعة القشلة بحائل) ولكن هذه معالم تاريخية حديثة نسبيا ولهذا من الرائع أن تزيد درجة الوعي لمستوى أعلى ونهتم بزيارة المواقع التاريخية المرتبطة بالحضارة الإسلامية. تتمتع المملكة بسبب بعدها الديني وموقعها الجغرافي بميزة كونها ممر قوافل الحجيج ولذا تكثر بها محطات دروب الحجاج فمثلا من مظاهر السياحة التاريخية في طريق الحج العراقي زيارة مدينة فيد الأثرية جنوب مدينة حائل والتي هي أكبر وأهم محطات (درب زبيدة) بينما نجد أن الموقع الأثري لمدينة السرين في محافظة الليث هي أهم محطة قديمة في طريق الحاج اليمني في الفرع الملقب بطريق الحرير البحري.

الوعي السياحي بجدارة بعض المواقع الأثرية بالزيارة ربما يصل مداه لو سافر الواحد منا من مدينة الرياض واتجه جنوبا لمسافة حوالي 700 كيلومتر ليصل للموقع الأثري لقرية الفاو التي كانت عاصمة مملكة كندة إحدى أعرق الممالك العربية قبل الإسلام. بلا شك أن سياحة التاريخ القديم في واقعنا المحلي أبرز موقعها هي مدائن صالح والتي يعود تاريخها للقرن الأول قبل الميلاد زمن مملكة اللحيانيين القديمة ومع ذلك قد يكون من الشيق والمثير زيارة مواقع أثرية أخرى في المملكة تعود لحضارات أخرى عريقة رومانية أو فارسية بل حتى فرعونية. قد لا يعرف البعض أنه توجد أطلال معبد روماني جنوب مدينة تبوك يسمى (معبد روافة) من المرجح أنه بني في منتصف القرن الثاني الميلادي تكريما للإمبراطور الروماني ماركوس أورليوس (الإمبراطور الفيلسوف صاحب كتاب التأملات). والجدير بالذكر أن هذا الموقع أكتشفه الرحالة والمستكشف النمساوي الويس موسل عام 1910م ومن تسبب في شهرته خارج المملكة الرحالة الإنجليزي عبدالله جون فيلبي والذي زار الموقع عام 1950ميلادي.

ومن الصفحات التاريخية المجهولة والمواقع الأثرية النادرة هو وجود بقايا أطلال كنيسة مسيحية قديمة بالقرب من مدينة الجبيل في المنطقة الشرقية ويتوقع أنها شيدت في القرن الرابع الميلادي. وبالمناسبة يذكر المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه (المسيحية في الجزيرة العربية قبل الإسلام) أن النصرانية دخلت لجزيرة العرب من جهة العراق ولهذا انتشرت في شرق الجزيرة وأنها كانت في جزيرة تاروت وجزيرة دارين في شرق المملكة. وإذا كان للمسيحية الوافدة من بلاد الرافدين تواجد في شرق جزيرة العرب قبل الإسلام فكذلك كان للإمبراطوريات البابلية والفارسية قبل ذلك نفوذ في غرب جزيرة العرب وبالتحديد في منطقة تيماء التي يقال إن الإمبراطور البابلي نابونيد أقام فيها لمدة عشر سنوات متواصلة. وحتى الآن يوجد جدال بين علماء التاريخ عن سبب تلك الإقامة الطويلة والمتواصلة للملك البابلي في واحة تيماء ولكن نتائج تلك العزلة الطويلة عن عاصمة الحكم في مدينة بابل لا يختلف عليها المؤرخون: لقد تجرأ الملك الفارسي قورش الكبير في توسيع ملكة لدرجة أن أسقط حكم مملكة بابل وبهذا شهدت تيماء آخر ملوك الإمبراطورية البابلية.

على كل حال ما يهمنا هنا أن بئر هداج الهائلة والعجيبة في وسط مدينة تيماء كان أول من حفرها هو الملك البابلي سالف الذكر نابونيد وذلك في منتصف القرن السادس قبل الميلاد وهي حتى اليوم ما زالت تفيض بالماء الغزير بعد 2500 من حفرها لدرجة أنها كانت مضربا للكرم لأنها كانت تسقي 100 جمل في نفس اللحظة.  وكما كان لآخر ملوك الحضارة البابلية العريقة ارتباط غريب بموقع مدينة تيماء نجد كذلك أن لها ارتباط فريد بآخر ملوك الرعامسة الكبار ونقصد بذلك الفراعنة الذين حكموا مصر وما حولها في الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين (عصر الرعامسة) وهم كل فرعون حمل اسم: رمسيس أو رعمسيس. تجدر الإشارة إلى أنه في زمن قريب أي في عام 2010م عثر على نقش هيروغليفي عبارة عن خرطوش لاسم رمسيس الثالث على صخرة في منطقة تيماء وهذا الفرعون هو من حكم أرض مصر في نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وبحكم أن واحة تيماء كانت منذ الأزل محطة مهمة على طريق القوافل التجارية لذا من المحتمل أن أحد الرحالة من أرض الفراعنة هو من سجل ذكرياته وولائه لملكة على تلك الصخور ولهذا تعتقد هيئة التراث السعودية احتمالية وجود مزيد من الاثار الفرعونية في منطقة القوافل التجارية القديمة في شمال المملكة وقد أعلنت تدشين مشروع تنقيب للآثار في ذلك المكان الذي أصبح يعرف باسم: موقع رمسيس الثالث.

 من سياحة الكهوف إلى سياحة الأحافير المتحجرة

بمناسبة الحديث السابق عن النقش الفرعوني في واحة تيماء والذي أُكتشف في شهر نوفمبر من عام 2010م وبحكم أننا في بداية هذا الشهر ومع إجازة الشتاء المدرسية وبسبب عشق شرائح واسعة من مجتمعنا للتخييم في البر أثناء البرد لعل من الملائم كذلك جعل واحة تيماء وجهة سياحية داخلية تحقق عشق العيش في الطبيعة مع استكشاف المناطق حول موقع رمسيس الثالث فربما ظفر أحدنا بمزيد من الاكتشافات الأثرية المذهلة. وأثناء البحث الميداني الأثري والسياحة الثقافية لما قبل التاريخ أنصح القارئ (أو الباحث عن الآثار) الكريم أن ينقب ويفتش كذلك في تلك الواحة التيميه عن النقوش الصخرية التي تحتوي الرسومات الحيوانية علما بأن النقش الهيروغليفي لخرطوش الفرعون رمسيس الثالث ملاصق تماما لنقش بديع لحيوان الوعل. وهذا يقودنا إلى أن واحة تيماء هي موقع مثالي مذهل لسياحة ما قبل التاريخ فجبالها وصخورها تحتوي على آلاف النقوش الحيوانية من أشهرها موقع جبال النصلة التي بقربها حصاة النصلة وهي صخرة كبيرة مقسومة إلى نصفين متماثلين وبشق مستوي تماما في منتصفها. ولشكلها المميز حظيت تلك الصخرة منذ الأزل باهتمام كل من شاهدها لدرجة أنه منقوش عليها كتابات ثمودية وكذلك نقوش حيوانية. وعلى ذكر النقوش في منطقة تيماء فبالإضافة للنقوش الفرعونية والثمودية من الغريب أنها تحتوي كذلك على نقوش باللغة اللاتينية (نقوش سرمداء) هذا طبعا غير النقوش الآرامية والنبطية والعربية والنقوش الإسلامية.

في بداية المقال أشرنا إلى خبر إعجاب الرحالة الأوروبيين المتكرر بمنطقة جبة شمال حائل وأنها جنة الباحثين عن النقوش الحيوانية الصخرية (يحتوي جبل أم سمنان لوحدة على أكثر من ألفي نقش لحيوانات مختلفة بأحجام وأشكال متعددة) ولهذا تم في عام 2015م تسجيل الفن الصخري في مدينة جبة في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو. وبالمناسبة على مستوى العالم تعتبر منطقة طاسيلي في جنوب دولة الجزائر الشقيقة هي أشهر موقع دولي في كثرة نقوش الصخرية والتي قد تزيد على 15 ألف نقش ورسم لحيوانات وبشر ما قبل التاريخ ولهذا هذا الموقع الساحر مسجل منذ عام 1982م ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. ولكن في المقابل ومن وجهة نظري أن إحدى أبرز الميزات الفريدة للمواقع الأثرية في منطقة حائل أنها المكان الملائم للمزج بين سياحة ما قبل التاريخ وسياحة الكهوف وهذه نقطة جذب ووسيلة فعالة لتنشيط السياحة الداخلية. على سبيل المثال يمكن الاستمتاع بمغامرة استكشاف كهف جانين شرق حائل وهو كهف يبلغ طوله حوالي 100 متر وبالقطع سوف يستمتع السائح/المغامر بمشاهدة التشكيلة المتنوعة من نقوش الحيوانات وبعض الرسومات الآدمية وبالخصوص طبعات الأيدي البشرية المتكررة والمنقوشة باحترافية عجيبة. هذه الكفوف وطبعات الأيدي المنقوشة على الصخر قد تفوق في دقتها وصعوبة تنفيذها تلك الكفوف الجميلة وطبعات الأيدي الملونة والتي نالت شهر عالمية منقطعة النظير وهي الموجودة بكهف دي لاس مانوس (كهف الكهوف) في جنوب الأرجنتين. 

والحديث عن الكهوف والرسومات والنقوش الحيوانية يسوقنا للإشارة مرة أخرى إلى تميز واحة تيماء بكل فريد ففيها كذلك العديد من الكهوف التي أصبحت قبلة عشاق مغامرات سياحة الكهوف ونذكر هنا بالذات (غار منيفة) الذي يقع جنوب تيماء ويشتهر مدخلة برسومات صخرية عديدة من أغربها نقش للأرنب البري. ولعلنا نختم الحديث عن سياحة ما قبل التاريخ في منطقة تيماء وأنها تتميز عن جميع مناطق المملكة من حيث إمكانية أن تكون كذلك وجهة سياحية واعدة لما يمكن تسمية (سياحة الأحافير) فبعد ما تميزت تيماء بموقع بئر الملك البابلي ونقش الفرعون رمسيس الثالث فهي أصبحت كذلك موقع (الفيل الأحفوري). وما أود الوصول إليه أنه في واحة تيماء ليس فقط يمكن مشاهدة (نقوش) حيوانات ما قبل التاريخ ولكن أيضا يمكن الاطلاع على الأحافير المتحجرة وعظام حيوانات الزمن السحيق جدا. في عام 2015م أعلنت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية عن العثور على بقايا أحافير لأنياب وعظام فيل يتوقع أنه عاش قبل حوالي نصف مليون سنة. ويبدو أن موقع واحة تيماء كانت (ما قبل التاريخ) عبارة عن بحيرة مياه عذبة عاشت حولها العديد من أصناف الحيوانات البرية وبالفعل وجدت أحافير في تلك المنطقة لفرس النهر والنمور والجواميس البرية بل اكتشفت أحافير تماسيح في مناطق أخرى.

والأغرب من ذلك أن منطقة تيماء اكتشفت فيها (الأحفورة البشرية) الأقدم في الجزيرة العربية حيث توصلت البعثة السعودية الألمانية المشتركة للتنقيب الأثري (التي تعمل في موقع تيماء منذ عام 2004م) إلى اكتشاف جزء من عظام الكف لإنسان من المحتمل أنه توفي في ذلك الموقع قبل حوالي 85 ألف سنة وبالمقارنة فإن أقدم عظام بشرية وجدت في أوروبا ترجع فقط لتاريخ 47 ألف سنة وحوالي 70 ألف سنة في جنوب آسيا.

أما وقد وصل بنا سياق الحديث إلى عراقة وقدم التواجد البشري في شمال الجزيرة العربية وأن ذلك يعود لأحقاب ودهور نسيها الزمن لعلنا نختم هذه الجولة السياحية والمسيرة التاريخية والتنشيط الدعائي لسياحة ما قبل التاريخ ومجاهل الماضي بأن نقف أخيرا عند معالم أثرية غريبة ومحيرة وتستحق الزيارة والاستكشاف. من أغرب المعالم الأثرية في المملكة تلك التي تسمى (أعمدة الرجاجيل) والبعض يسميها (رجاجيل الجوف) وهي عباره عن أعمدة حجرية بطول ثلاثة أمتار مبعثرة في سهل رملي يقع جنوب مدينة سكاكا وتشير دراسات علماء الآثار أنها قد تعود في الزمن إلى ما يزيد من 6 آلاف سنة !!. حتى الآن من غير المعروف ما هو الهدف الأساسي لنصب هذه الأعمدة والتي تتطلب جهد بشري كبير وتخصيص موارد هائلة في بيئة شحيحة أصلا وإن كانت ظاهرة نصب الأعمدة الحجرية منتشرة بالذات في القارة الأوروبية وأقرب تشكيل يشبه نسبيا أعمدة (رجاجيل الجوف) نجده في تجمع لأعمدة حجرية عمرها 5 آلاف سنة موجود في جزيرة نائية في شمال أسكوتلندا.

ومن أسكوتلندا نرحل مع سياحة ما قبل التاريخ إلى دولة البيرو في أمريكا الجنوبية فقبل حوالي مئة عام وفي بدايات استخدام الطائرات رصد طيار مدني يحلق فوق جنوب البيرو وجود تشكيلات من الحجارة على شكل حيوانات ضخمة وأشكال هندسية أخرى يعتقد أن تاريخها يعود لأكثر من ألفي سنة. وبفضل هذا الموقع الأثري الصحراوي الذي يعرف اليوم بموقع (خطوط النازكا) وكذلك بسبب آثار حضارة الأنكا في قمم جبال الأنديز (مثل مدينة ماتشو بيتشو) أصبح لدولة البيرو تواجد على خارطة السياحة العالمية حيث يفد إليها سنويا حوالي ثلاثة ملايين سائح أجنبي. وهذا يقودنا لاحتمالية تنمي السياحة الداخلية والخارجية ليس لخطوط النازكا ولكن لخطوط الجوف وهي تشكيلات لتجمعات من الأحجار على شكل دوائر ضخمة أو أشكال مستطيلة مسورة بالصخور. تاريخ هذه المسورات الحجرية مذهل جدا فقد ترجع إلى 9 آلاف سنة من عمر الزمن وأفضل مكان للزيارة السياحية لها هو موقع جبل الظلّيات بمنطقة الجوف. الجدير بالذكر أن العديد من هذه الخطوط الصخرية لم تكتشف إلا في الزمن المعاصر وبفضل استخدام صور الأقمار الفضائية حيث بدأ البعض ينتبه لوجودها بعد تفحص صور خرائط قوقل المقربة وبهذا أسهمت التقنية في السماء (طائرات البيرو والأقمار الصناعية) وليس التنقيب الأثري المباشر على الأرض في صناعة سياحة جديدة تربط بشكل أو آخر ما بين خطوط النازكا وخطوط الجوف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق