د. أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/6/5
مع مطلع الأسبوع الماضي عمّت وسائل التواصل الاجتماعي بالمملكة حالة من البهجة والفخر وشيء من الدعابة بمناسبة افتتاح مشروع (قطار الرياض) ومع توافد وتزاحم الأفراد والعوائل وحتى الأطفال وكبار السن على محطات ميترو الأنفاق كان البعض الآخر من بقية الشعب (يطقطق) ويمزح ببعض التعليقات الساخرة. حصل تبادل كثيف لمقطع من المسرحية الكويتية (حامي الداير) للفنان سعد الفرج والذي يدور عن التنبؤ بمستقبل مدينة الكويت وأنها سوف تصبح كلها قطارات (تطلع من بيتك .. بشتك تحت إبطك .. تركب قطارك). للتمدن والتحضر مؤشرات ومعالم متعددة وفيما يتعلق بالتقدم العمراني والتطور التقني لا شك أن وجود شبكة قطارات الأنفاق في أي مدينة كبرى دلالة على ضخامتها وتطورها ولهذا كلمة (ميترو Metro) هي اختصار لكلمة (metropolitan) التي تعني المدينة الكبرى أو العاصمة الحضرية. ولهذا كما توقع الفنان سعد الفرج أنه في المستقبل سوف يتفاخر أهل (المدن الكبرى) والحواضر العظمى أنهم على درجة من التطور والتميز لدرجة أنهم يذهبون إلى أعمالهم وهم يستخدمون رمز التقدم التقني: قطار الأنفاق.
حساسية البعض من تفوق الآخرين عليه بالتقدم العمراني تشابهها حساسية البعض الآخر من تميز الآخرين عليه بالنضج الفكري والثراء الثقافي. وهذا يقودنا للطرفة والتغريدة الفكاهية التي انتشرت انتشار النار في الهشيم مع تدشين قطار الرياض فقد كتب أحد الظرفاء تغريدة تقول (حقين الرياض ترا أعرفكم .. حركات إنك تقرأ رواية داخل الميترو ما نبيها .. من الحين أقولكم !!). نفور البعض من التباهي والاستعراض بالثقافة أمر متوقع ومفهوم فحتى في الدول الغربية يعتبر البعض أن قراءة الكتب في التجمعات العامة وليس في المنزل أو مكان معزول هو أمر فيه جانب من الاستعراض والتمثيل بأن الشخص مفكر ومثقف. صحيح أن المفكر والفيلسوف البريطاني برتراند راسل يقول (هناك دافعان لقراءة كتاب ما .. الأول الاستمتاع به والثاني التباهي بقراءته) ولكن في الواقع الحالي (ثقافة) جديدة بدأت تنتشر في المجتمعات الغربية وذلك أن شرائح متزايدة أصبحت تمتعض أو ربما قد تسخر من شخص يقرأ كتابا بالقرب منك في القطار أو على العشب في الحديقة العامة. ولهذا ولتشجيع القراء لتخطى عقبة أعين وأنظار الناس المتطفلة أو الساخرة لمن يقرأ كتابا في العلن، لم تكتف الدول المتقدمة بتخصيص (يوم القراءة الوطني). بل زاد على ذلك أن قامت جمعية الناشرين الأمريكيين بإطلاق حملة سنوية في شهر مايو من كل سنة تحمل شعار (دعهم يقبضوا عليك وأنت تقرأ Get Caught reading) بمعنى إنك لا تخجل من القراءة أمام الجميع ودعهم يكشفوك وأنت (ترتكب) فعل القراءة.
على كل حال كان المقصود الإشارة إلى أن العادة الحضارية في القراءة أمام الجميع والإمساك بالكتاب في القطارات والمطارات وفي الأماكن العامة بدأت تتلاشى في العديد من المجتمعات. أنا من الجيل الذي تعززت لدينا قناعة قديمة أن جميع أفراد المجتمعات الغربية يستفيدون من أوقاتهم ولهذا يكثرون من القراءة بالذات في عربات ميترو الأنفاق وهم ذاهبون لأعمالهم أو مدارسهم. وفي نهاية السنة الأولى لي في البعثة الدراسية في بريطانيا ركبت أول قطر ميترو في حياتي وذلك في بداية عام 1996م وحينها صدمت عندما وجدت أغلب ركاب (قطار الأنفاق Underground) في لندن لا يقرون فعدد قليل هو من يتصفح جريدة وأقل القليل هو من يقرأ في كتاب. ولاحقا عبر السنوات وبفضل من الله أتيحت لي زيارة عدد كبير من الدول وبحكم أنني دائما أوثق أغلب المعالم السياحية التي شاهدتها فأنا على يقين أنني استخدمت ميترو الأنفاق في 28 مدينة كبرى (من ميترو طوكيو شرقا إلى ميترو تورينتو الكندية غربا) ومع ذلك الغالبية العظمى من الناس لا تقرأ الكتب أو الروايات في عربات الميترو بل هم في الأعم الأغلب كما هو الحالي عندنا مشغولون بالنظر لشاشات جوالاتهم الذكية التي تنشر غباء وغثاء مواقع التواصل الاجتماعي.
الخريطة الثقافية لمحطات الميترو
بالرغم من أن عادة القراءة في عربات الميترو ومحطات القطارات ضعفت بشكل حاد في العقود الزمنية الأخيرة إلا أنه تجدر الإشارة لوجود علاقة وثيقة قديما بين صالات القطارات ومحطات الميترو وبين قراءة الكتب والثقافة بشكل عام. في الوقت الحالي تعتبر دار نشر الكتب الإنجليزية بنغوين/البطريق (Penguin Books) واحدة من أكبر وأشهر دور نشر الكتب في العالم حيث تبيع حوالي مليون كتاب سنويا بقيمة تقارب الخمسة مليار يورو. ومع ذلك فإن بداية دار النشر هذه حدثت في عام 1932م في محطة القطار لمدينة إكستر البريطانية الصغيرة عندما خطرت في بال السيد ألن لين (لاحقا تم تكريمه بمنحه لقب سير لإسهامه الكبير في نشر ثقافة القراءة) ان يتم إصدار طبعات روايات (شعبية) رخيصة الثمن وصغيرة الحجم (كتيب الجيب) يمكن قراءتها خلال رحلات القطار بين المدن أو داخل عربات الميترو أثناء التنقل اليوم من المنزل إلى العمل. وبحكم أن أغلب الكتب في السابق كانت كبيرة الحجم ولها غلاف سميك لذا لم تكن ملائمة كثيرا للقراءة في عربات الميترو المزدحمة غالبا وكذلك كان تصفح الجرائد وتقليب أوراقها الضخمة عملية محرجة أمام الآخرين لذا أكاد أجزم أن ظاهرة (قراءة الروايات) في الميترو انتشرت مع ظهور كتب الجيب الصغيرة ورخيصة الثمن التي تباع فقط بستة شلنات (Sixpence books).
ومن الصور الإضافية التي تعزز العلاقة بين استخدام الميترو وبين الثقافة والفكر والأدب أن مصطلح (محطات الثقافة) ينطبق بالفعل على محطات شبكة قطارات الأنفاق التي تم تسميتها على أسماء أدباء وشعراء كبار. عندما استخدمت شبكة ميترو مدينة موسكو كنت مع بعض الأحباب نستمتع بتنوع الجمال والفخامة في محطات المترو الأجمل والأشهر في العالم وبالرغم من كثرة المحطات التي نزلنا بها كنت أرغب في زيارة محطة خاصة مسماة على عالمة الفيزياء المشهورة مدام كوري ولكن لبعد تلك المحطة صرفت النظر حتى لا أشق على رفقاء السفر. ولاحقا عرفت أن توجد عدة محطات ميترو في موسكو تحمل أسماء أدباء وشعراء كبار فمثلا محطة بوشكنسكايا (Pushkinskaya) هي مسماة على عملاق الأدب الروسي ألكسندر بوشكين والغريب أن محطة الميترو هذه بالذات مرتبطة بمحطات مترو قريبه منها واحدة منها على اسم رائد المسرح الروسي أنطوان تشيخوف والأخرى على الروائي الشيوعي البارز مكسيم غوركي.
(محطات الثقافة والأدب) ظاهرة متكررة في العديد المدن الكبرى والعواصم الأدبية العظمى فمثلا شبكة محطات ميترو باريس تحتوي على محطات أطلق عليها أسماء مشاهير أدباء وكتاب الأمة الفرنسية مثل محطة ميترو فيكتور هوغو وإيميل زولا وألكسندر دوما وفولتير (ومرة أخرى توجد محطة ميترو مدام كوري في باريس). وفي واقعنا العربي نجد أن أقدم شبكة ميترو عربية هي تلك تتباهى بها مدينة القاهرة منذ عام 1987م ولكن لأسف لا يوجد إلا محطة واحدة تستحق لقب (محطة الثقافة) وهي محطة عباس العقاد. وفي ذات السياق أتمنى أن تتم إعادة تسمية محطة ميترو (منفوحة) في شبكة قطار الرياض إلى اسم (محطة الأعشى) حيث كما هو معلوم ذلك الشاعر الجاهلي الفحل وكثير الأسفار قضى أغلب حياته وتوفي منطقة حي منفوحة في جنوب الرياض. الشاعر الأموي الكبير جرير بن عطية ولد وعاش طفولته في قرية أثيفة في منطقة الوشم وبالقرب من مدينة ثرمداء وبحكم أن هذه القرية قد تبعد في حدود 150 كم عن مدينة الرياض لذا هي بشيء من التجاوز تعتبر من ضواحي العاصمة ولهذا يوجد نوع ترابط بين الشاعر جرير وبين الرياض ولذا أتمنى مرة ثانية أن يتم تعديل اسم محطة ميترو (شارع جرير) في قطار الرياض إلى محطة (جرير).
وقبل أن نغادر الحديث عن (محطات الثقافة) أود أن أشير إلى ظاهرة ثقافية وأدبية لطيفة ترتبط بخريطة محطات الميترو حيث يتم تصميم ما يسمى (الخارطة الأدبية لمحطات الميترو) فمثلا الخارطة الأدبية لمحطات ميترو نيويورك لا يتم عرض جميع المحطات التقليدية ولكن يتم عرض محطات الميترو التي يقع بالقرب منها معلم ثقافي مميز مثل متحف أو مسرح أو مكتبة أو معرض أو تمثال أو مجسم لشخصية أدبية مميزة. وبالرغم أنه توجد خارطة أدبية literary map لمحطات الميترو في أغلب العواصم الدولية الكبرى مثل برلين وروما وباريس وموسكو ومدريد إلا أن مدينة لندن تتميز عنها جميعا بالثراء الثقافي لتلك المدينة. فمثلا في عام 2019م تم طرح خريطة فريدة لمحطات ميترو لندن تم فيها استبدال أسماء جميع المحطات بأسماء روايات وكتب أدبية مشهورة وعملية الاستبدال لم تكن بشك اعتباطي بل يجب أن يوجد ترابط بين الاسم القديم لمحطة الميترو وبين اسم الكتاب البديل. خذ على سبيل المثال محطة ميترو (بيكر ستريت) في وسط لندن تم استبدالها باسم محطة (شارلوك هولمز) لأن الروائي الإنجليزي آرثر كومان دويل الذي أبتدع قصة مغامرات شارلوك هولمز ذكر من الصفحات الأولى للرواية أن الشخصية الخيالية شارلوك هولمز كان يقم في المنزل رقم 239 على شارع بيكر. وعلى نفس النسق نجد أنه في رواية (قصة مدينتين) لعملاق الأدب الإنجليزي تشارلز ديكنز يرد ذكر شارع توتنهام كورت ولهذا تقترح خارطة الأدبية لمحطات ميترو لندن استبدال اسم محطة ميترو (توتنهام كورت رود) باسم محطة (قصة مدينتين).
قطار الأنفاق من منظور الشعر
في الختام أود أن أعرج مرة أخيرة للظاهرة القديمة: قراءة الكتب في عربات الميترو حيث تجدر الإشارة إلى أنه توجد قوائم يتم تحديثها بشكل دوري لأفضل الكتب التي تكون ملائمة للقراءة في عربات قطار الميترو. هذه القائمة قد تقترحها بعض دور النشر أو بعض القراء المشتركين في المواقع الإلكترونية لأندية القراءة مثل (Goodreads). بل إن شركة ميترو مدينة موسكو دشنت في السنوات الأخيرة مكتبة افتراضية للأدب الكلاسيكي الروسي فمثلا عند المرور بمحطة ميترو تشيخوفسكايا يمكنك تحميل نسخة إلكترونية من مسرحية بستان الكرز للأديب الروسي أنطوان تشيخوف.
كما هو متوقع في الغالب البقاء في عربة قطار الأنفاق لا يكون لفترة طويلة فأحيانا يصل القطار بسرعة للمحطة التي ترغب في النزل بها أو أحيانا تحتاج أن تغير خط مسار القطار لمسار آخر (مثل التغيير من الخط الأزرق للخط الأحمر في ميترو الرياض) والمقصود أن فترة قراءة الكتب والروايات في عربات الميترو غالبا تكون متقطعة وقصيرة. ولهذا في السنوات الأخيرة ظهرت مجموعة من الكتب التي تحتوي فقرات قصيرة أو أعمال أدبية عبارة عن قصص قصيرة تكون ملائمة أكثر للقراءة في الزمن القصير المتاح أثناء استخدام الميترو على عكس الساعات الطويلة للسفر بالقطار بين المدن. من ذلك مثلا كتاب مطبوع من عدة أجزاء من تأليف الكاتب الأمريكي بلير هامبتون يحمل عنوان (سلسة ميترو الأنفاق) والمكتوب على الغلاف الخارج وتحت عنوان الكتاب العبارة التالية (قصص قصيرة للقراءة أثناء ركوب القطار).
وكما للقصة القصيرة والرواية الطويلة ارتباط وثيق مع القطارات ومع محطات الميترو فكذلك للشعر والقصيدة ارتباط متزايد مع (قطار القصائد) ومع (محطات الثقافة). في الواقع منذ عام 1986م قامت الشركة المشغلة لشبكة ميترو مدينة لندن باستغلال المساحات الإعلانية الصغيرة في داخل عربات القطار بوضع بعض القصائد الشعرية القصيرة كنوع من تثقيف الجمهور وإشغال أوقاتهم أثناء مسيرة رحلة قطار الأنفاق. وعبر السنوات تجمع عدد كبير من هذه الأبيات الشعرية المختارة بعناية لأدباء وشعراء بارزين قديما وحديثا إلى أن قام الأديب البريطاني جيرارد بنسون مع آخرين بانتقاء 300 قصيدة من العدد الضخم لهذه الأبيات الشعرية التي كانت تنشر داخل عربات الميترو وإخراجها في كتاب حمل عنوان (قصائد في ميترو لندن).
ولما للرحلة عبر قطار الميترو من رمزية أدبية وكثافة في المشاعر وتقلبات الحالة النفسية أصبحت رحلة الميترو ومحطات التوقف أو محطات تغيير المسار لها رمزية وكناية عن رحلة حياة الإنسان والمنعطفات التي تقابله في محطات الحياة. ولهذا صدرت العديد من الروايات الأدبية التي محورها الأساسي القطار ومحطات الميترو وكذلك بالطبع ظهرت قصائد ودواوين شعرية خاصة عن تجربة دروب الحياة من منظور قطار الميترو. على سبيل المثال يمكن الإشارة للديوان الشعري (قصائد مترو الأنفاق في مدينة نيويورك) للشاعر الأمريكي كارلوس أغواساكو وقريبا من ذلك كتاب (أشعار من رحلة الصباح) للكاتب الأمريكي فيليب جونستون والذي قام بتأليف مجموعة من القصائد هي من واقع استخدامه لقطار الميترو في العاصمة الأمريكية واشنطن.
والجدير بالذكر أنه في السنوات الأخيرة تعززت أكثر العلاقة بين الشعر وبين شبكة قطارات الميترو فبمناسبة يوم الشعر الوطني في بريطانيا تكرر في السنوات الأخيرة إعلان شركة قطارات ميترو مدينة نيوكاسل عن تنظيم مسابقة (شعر قطار الأنفاق). وفي العادة يتم تكريم الفائزين بتعليق قصائدهم في محطة ميترو لونقبنتون شمال مدينة نيوكاسل وهذه المحطة يمر عليها سنويا أكثر من مليون راكب وبهذا يتم تكريم الشعراء بنشر وإبراز قصائدهم في (محطة الثقافة) الفريدة هذه والتي يمكن مع المستقبل أن تصبح تعرف بمحطة ميترو الشعراء. وفي الوقت الحالي تنامت موجة نشر القصائد الشعرية داخل عرابات قطار الأنفاق وعلى جدران الإعلانات في محطات الميترو في عدد من المدن الكبرى مثل شبكة ميترو مدن شنغهاي وأثينا وبرشلونة وسان فرانسيسكو وسانت بطرس بيرغ فضلا عن لندن وباريس ونيويورك وموسكو.
وأتوقع أنه بمشيئة الله سوف تكتب وتنشر في الفترة القادمة العديد من القصائد عن (قطار الرياض) لذا أقترح لمن يهمه الأمر أن يتم جمع هذه القصائد وتعلق مؤقتا في محطة ميترو (منفوحة) وعلى أمل أن يغير اسم تلك المحطة إلى محطة (الأعشى) ولاحقا يتم تنظيم مسابقة شعرية سنوية ربما تحمل اسم (مسابقة الأعشى لشعر قطار الأنفاق).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق