الجمعة، 28 فبراير 2025

( الانتخابات الرئاسية الأمريكية .. تاريخ متكرر )

 

 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1446/4/30

 الأجواء السياسية للانتخابات الرئاسية الأمريكية في نهاية سنة 1956م كان يشوبها شيء من التوتر بسبب تزامنها مع اندلاع العدوان الثلاثي على مصر (حرب 56) وما تلى ذلك من حالة الضبابية في حسم أزمة السويس وهجوم إسرائيل وبريطانيا وفرنسا وهل انتهى ذلك العدوان بالهزيمة أو النصر. وما يهم هنا أنه أثناء حملته الانتخابية في تلك السنة وفي تلك الأجواء المحتقنة بالصراع العربي الإسرائيلي وعد المرشح الرئاسي الأمريكي دوايت أيزنهاور أنه في حال فوزه بتلك الانتخابات سوف يتدخل وينشر السلام في منطقة الشرق الأوسط. طبعا من نافلة القول إنه بعد تلك (الوعود الانتخابية الكاذبة) التي مر عليها حوالي ثلثي قرن من الزمن لم يتحقق أي سلام في منطقتنا العربية واليوم القضية الفلسطينية هي والله المستعان في أسوأ حالة لها.

بعد يومين فقط سوف تقام الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024م وكوسيلة منه لضمان الأصوات الانتخابية للجالية العربية في ولاية ميتشيغن (البعض يلقبها ولاية العرب في أمريكا) أطلق المرشح الرئاسي دونالد ترامب وعودا انتخابية مثيرة للجدل حيث منح مؤيدوه من العرب الأمريكان وعده بأنه سوف ينهي الصراع في الشرق الأوسط وسوف يحقق السلام في المنطقة العربية. وما يثير السخرية في جدية هذه (الوعود الانتخابية) أنه في أثناء تلك التصريحات الجوفاء أعلن داعية يمني هو إمام أحد المساجد في ولاية ميتشيغن أنه (انتزع) وعدا من المرشح الجمهوري ترامب ليس فقط بإنهاء حرب غزة، بل كذلك بمحاربة الإسلامافوبيا ومعاداة المسلمين. والجميع يعلم أن من أسباب شعبية ترامب في حملته الأولى للانتخابات في عام 2016 أنه وعد ناخبيه من البيض العنصريين بأنه سوف يمنع هجرة العرب والمسلمين إلى وسوف يحظر بالذات بعض الجنسيات العربية ومن ضمنها القادمون من اليمن.

قبل أربع سنوات بالضبط وفي مثل هذه الأجواء المشبعة بأخبار الحملات الانتخابية الرئاسية الأمريكية كتبت مقال حمل عنوان (الانتخابات .. بعيدا عن السياسة) ناقشت فيه بشكل مطول علاقة الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية بالشعر والشعراء وعالم الأدب والأدباء وذلك كمحاولة للبعد عن مهازل السياسة (المتكررة). وبحكم أنني لست محللا سياسيا ولكني عاشق للتاريخ فسوف أكمل مقال اليوم بإجراء مقارنة بعض الأحداث البارزة في الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي دونالد ترامب مع الأحداث المشابه للعديد من المرشحين لمنصب رئاسة الولايات المتحدة عبر العصور.

المقارنة الأولى كانت بين أيزنهاور وبين ترامب فيما يخص الوعد الانتخابية الزائفة بينما المقارنة الثانية سوف تكون في أبرز ما تعرض له ترامب أثناء حملته الانتخابية وهو محاولة اغتياله بإطلاق النار عليه وإن كان ترامب قد حالفه الحظ ونجى بخدش سطحي في أذنه فإن المرشح الرئاسي من الحزب الديمقراطي وهو روبرت كيندي قد اغتيل عندما أطلق عليه النار في أثناء حملته الانتخابية لمنصب الرئاسة في عام 1968 ميلادي. بينما الرئيس الأمريكي البارز ثيودور روزفلت تعرض هو الآخر أثناء حملته لإعادة انتخابه لمنصب الرئيس للمرة الثالثة، تعرض لمحاولة اغتيال وأصيب بطلق ناري مباشر في صدره قبل أشهر قليلة من موعد انتخابات عام 1912م ولكن هذا المرشح الجمهوري أخفق في إعادة الانتخاب بالرغم من اكتسابه لبعض التعاطف بسبب محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها.

المقارنة الثالثة بين ترامب ومن سبقه عبر التاريخ فيما يتعلق بخوض الانتخابات الرئاسية الأمريكية تتمثل في احتمالية دخول الانتخابات والمرشح الرئاسي قيد الاعتقال والسجن. فيما يخص السيد ترامب وبحكم أنه رئيس (سابق) للولايات المتحدة فهو يمتلك نوعا من (الحصانة) القانونية تجعل عملية سجنه أمرا معقدا نسبيا. ولهذا بالرغم من أن ترامب قد صدرت عليه بالفعل أحكام بالإدانة في 34 تهمة إلا أنه لم يتم تنفيذ هذه الأحكام وإيداعه السجن ومع ذلك، حتى لو تم تنفيذ حكم الحبس فهذا لا يمنعه من حقه الدستوري في الترشح للانتخابات الرئاسية. وهذا ما حصل بالفعل قبل قرن من الزمن وبالتحديد في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1920م عندما حصل مرشح الحزب الاشتراكي الأمريكي (نعم كان من المسموح قديما وجود أحزاب يسارية في أمريكا قبل حقبة مكارثي الكارثية) ورئيس اتحاد العمال الأمريكي يوجين دبس والذي حل في المرتبة الثالثة في الانتخابات بعدما حصل على أكثر من 914 ألف صوت انتخابي. ما تجدر الإشارة إليه أن يوجين دبس كان يدير حملته الانتخابية من السجن حيث كان محكوم عليه بالسجن لمدة سنتين بسبب نشاطه الثوري الاشتراكي الذي قاده لمخالفة قانون خاص يحضر انتقاد الجيش والحكومة أثناء الحرب العالمية الثانية. والطريف في الأمر أن يويجن دبس كان يأمل أنه إذا فاز في تلك الانتخابات وأصبح الرئيس المنتخب فإنه سوف يمنح نفسه (إعفاء رئاسي) وبهذا سوف يخرج مباشر من غرفة السجن إلى غرفة المكتب البيضاوي في البيت الأبيض !!.

 تكرار التنافس بين الأبيض والأسود والرجل والمرأة

الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وطوال تاريخه مع وسائل الإعلام وانخراطه في السنوات الأخيرة في الشأن السياسي كان من أبرز صفاته الشخصية أنه رجل سليط اللسان وعنيف في ردود أفعاله ولا يراعي قواعد اللباقة الاجتماعية وضوابط الدبلوماسية السياسية. وبحكم أننا في أجواء الانتخابات الرئاسية الأميركية ومحاولة استقراء الظواهر الانتخابية التي تكررت في التاريخ القديم ففيما يخص سلاطة اللسان والحدة في التعابير للمرشح الانتخابي دونالد ترامب فهو يبدو أنه يسير على خطى سلفه الجمهوري الرئيس ريتشارد نيكسون الذي كان له تصريحات حادة وغير موفقة في حملته الانتخابية لعام 1968ميلادي. وكردة فعل على الهجوم الذي تعرض له نيكسون من الصحافة ووسائل الإعلام بسبب بذاءة ألفاظه هذا ما دفعه لاحقا لإطلاق مقولته المشهورة (يقول الناس أن لغتي سيئة، يا إلهي عليك أن تسمع كلام ليندون جونسون) وهو بهذا يلمز من بذاءة كلام الرئيس الذي سبقه وخصمه في سباق الانتخابات الرئاسية لعام 1968م الرئيس/ المرشح ليندون جونسن قبل أن ينسحب من السباق الرئاسي.

من أبرز الأمور المتعلقة بالانتخابات الرئاسية التي اشترك فيها المرشح ترامب أن المنافس له من الحزب الديمقراطي كان من الجنس اللطيف ممثلا في هيلاري كلينتون البيضاء في انتخابات عام 2016م وكمالا هاريس السمراء في الانتخابات الحالية. وللوهلة الأولى قد يظن البعض أن هذه أول مرة في التاريخ تترشح سيدة أمريكية سوداء للانتخابات الرئاسية بينما في الواقع قبل نصف قرن نجد بالفعل أن سيدة أمريكية سوداء سبقت كمالا بهذه المحاولة الجريئة. وهذا ما حصل في الانتخابات الرئاسية لعام 1972م التي خاضتها السيدة ذات البشرة السوداء شيرلي تشيشولم والتي حاولت أن تكسب ترشيح الحزب الديمقراطي لها لمنافسة المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون لكنها أخفقت. وبما أن الشيء بالشيء يذكر فإن أول امرأة (بيضاء) شاركت في سباق الرئاسة الأمريكية كانت السيدة فيكتوريا وودهل التي سبقت زميلتها السمراء شيرلي بقرن كامل بالتمام وذلك عندما دخلت في عام 1872م في منافسة لمنصب الرئاسة أمام الجنرال يوليسيس جرانت الذي انتصر في الحرب الأهلية الأمريكية ولهذا لم تشكل له تلك السيدة أي عائق حقيقي في الوصول للبيت الأبيض.

وفي مقابل النصر السهل للرئيس يوليسيس جرانت في الانتخابات الرئاسية لعام 1872م واجهات الأمة الأمريكية بأكملها أزمة سياسية وانقسام مجتمعي حاد في الانتخابات التالية والتي أقيمت في نهاية عام 1876م حيث كان السباق الرئاسي متقاربا جدا بين المرشح الجمهوري رذرفورد هايز والمرشح الديمقراطي صاموئيل تيلدن. بالرغم من أن مرشح الحزب الديمقراطي تيلدن فاز بالفعل بأغلبية الأصوات للشعب الأمريكي وبفارق هائل يزيد عن ربع مليون صوت عن منافسه الجمهوري إلا أن العقدة الدائمة في طبيعة الانتخابات الأمريكية أنها تعتمد الفوز فيما يسمى المجمع الانتخابي (electoral college). تلك الفكرة الانتخابية السخيفة تعطي لكل ولاية عدد من الأصوات المختلفة والذي يفوز بأعلى أصوات لممثلي الولايات يفوز حتى ولو كان حصل على أقل عدد من أصوات الشعب الأمريكي نفسه وهذا ما حصل في نهاية المطاف عندما أعلن أن المرشح الجمهوري رذرفورد هايز هو الرئيس القادم للولايات المتحدة بدلا من المرشح الديمقراطي صاموئيل تيلدن. ينبغي ألا ننسى أن الولايات المتحدة في ذلك التاريخ بالكاد كانت تلملم شعثها تداوي جراحها بسبب الحرب الأهلية الأمريكية ولهذا كادت تلك الأزمة أن تعيد انقسام المجتمع الأمريكي إلى (شقين): شق جمهوري وشق وديمقراطي بعد أن كان المجتمع قبل سنوات قليلة منقسم قسمين: قسم للولايات شمالية وقسم للولايات جنوبية.

وهذا يقودنا إلى (تكرار) الإشارة إلى أن بعض ملامح الانتخابات الرئاسية الأمريكية تتكرر عبر الزمن فمثلا حالة الاحتقان في المجتمع الأمريكي نتيجة إفرازات ملابسات الاتهامات المتبادلة بين الرئيس الأمريكي رذرفورد هايز وبين المرشح المحتمل صاموئيل تيلدن ليس فقط (تكررت) قبل أربع سنوات عندما رفض ترامب الاعتراف بهزيمته أمام الرئيس بايدن ولكن من المحتمل أن تكرر بعد أيام لو هزم ترامب العنصري الأبيض أمام امرأة سوداء. قبل أربع سنوات تسبب المرشح الخاسر ترامب في فضيحة وكارثة اقتحام أنصاره لمبنى الكونجرس الأمريكي بينما عندما تأكد قبل عدة أشهر من حصوله على ترشيح الحزب الجمهوري له لخوض سباق الانتخابات الرئيس خرج ترامب بتصريح غريب وبارز حيث (هدد) بأنه في حال خسر الانتخابات القادمة (إذا لم يتم انتخابي، سيكون ذلك بمثابة حمام دم للجميع). ولهذا تشير وسائل الإعلام أن الناخبين الديمقراطيين في الولايات الأمريكية المتأرجحة مثل ولاية بنسلفانيا وجورجيا وميتشيغن وكارولينا الشمالية يشعرون بقلق بالغ من أنه في حال هزم ترامب فسوف تندلع أعمال عنف وتخريب من قبل أنصار ترامب.

 وفي الختام بعد أن أجارينا مقارنة بين القديم والحديث ومن وحي المحطات البارزة في مسيرة الترشح للانتخابات الرئاسية لدونالد ترامب لعل من المناسب ذكر حادثة مميزة في الانتخابات الأمريكية يستبعد أن (تتكرر) في واقعنا الحالي. عدد من استطلاعات الرأي الأولية لسباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1948م كانت تشير إلى أن المرشح الجمهوري توماس ديوي في طريقه للفوز أمام منافسه المرشح الديمقراطي هاري ترومان ولهذا في ليلة الإعلان عن نتائج تلك الانتخابات كان الفارق بين هذين المرشحين ضئيل جدا وما زال ديوي يتقدم. ونظرا لأن وسيلة الإعلام الرئيسية في تلك الفترة هي الصحف والتي تطبع في العادة قبل فجر اليوم التالي لهذا أتخذ رئيس تحرير جريدة شيكاغو تربيون (منبر شيكاغو) قرارا مستعجلا عندما سمح بأن يطبع عدد الرابع من شهر نوفمبر 1948م من جريدته وهو يحمل عنوان رئيس كبير ينص على أن (ديوي يهزم ترومان). في الواقع من أنتصر في ذلك السباق الرئاسي كان الرئيس هاري ترومان الذي قاد الأمريكان في الحرب العالمية الثانية والذي له صورة مشهورة صباح اليوم التالي للانتخابات وهو يحمل جريدة شيكاغو تريبيون وعلى وجهه ابتسامة واسعة بالنصر في الانتخابات وبالنصر على منبر الصحافة المتحيزة ضده. طبعا في وقتنا المعاصر الأخبار والأحداث (الساخنة) مثل نتائج الانتخابات تعلن لحظة بلحظة وثانية بثانية ومن المستحيل أن يعيد التاريخ نفسه وتقع جريدة محترمة في كارثة الإعلان الخاطئ لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية خصوصا إذا كانت التنافس محموم والتقارب كبير بين المرشحين كما هو حال بين ترامب وكاميلا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق