د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/5/14
في عام 2016م مرت مئوية ما يسمى (الثورة العربية الكبرى 1916م) باهتة وغير محتفى بها في أغلب الدول العربية (باستثناء الأردن لأن المملكة الهاشمية كانت من نتائجها) وربما يعود سبب التجاهل لها لأن من إفرازات ثورة الشريف حسين وتحالفه من الإنجليز في إسقاط نفوذ الدولة العثمانية في المشرق العربي التسبب في فراغ سياسي هائل نتج عنه سيطرة الاستعمار الإنجليزي والفرنسي على العراق والشام وترسيخ وجوده في مصر والسودان وبلاد المغرب. لقد كان من العبث أن يحتفل العرب بمرور 100 عام على الاحتلال العسكري والقهر الأجنبي الذي تسببت فيه (الثورة العربية الكبرى) ومع ذلك أتمنى ألا تمر ذكرى (الثورة العربية الصغرى) بعد أسابيع قليلة إلا وهي قد أخذت نصيبها الكامل من التبجيل والاحتفاء والأهم من ذلك (الاقتداء).
قديما قال الشاعر ربيعة الرقي (شتّان ما بين اليزيدين في الندى) واليوم نقول شتان ما بين الثورتين في العُلى فالثورة العربية الأولى (الكبرى) جلبت المستعمر وتحالفت معه ونامت معه في سريره بينما الثورة العربية التالية (الصغرى) قاومت المحتل ونغصت عليه مضجعه وحاربت وجوده. في الواقع العديد من العواصم العربية تعرضت لذل الاحتلال الذي تزامن مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن للأسف لم تحصل مقاومة حقيقة لذلك الاحتلال الغاشم (باستثناء ثورة العشرين في العراق) إلا بعد ذلك بسنوات. ومع ذلك تغير الأمر بشكل جذري منذ عام 1925م ولهذا مع مطلع العام الميلادي الجديد قريبا تحل الذكرى المئوية للثورة العربية الصغرى والتي اشتهرت أكثر باسم (الثورة السورية الكبرى). صحيح أن هذه الثورة ضد المحتل الأجنبي كانت قصيرة المدى وضعيفة الإنجازات العسكرية حيث لم يخرج الاحتلال الفرنسي من سوريا إلا في منتصف الحرب العالمية الثانية إلا أن هذه الثورة المباركة شجعت العرب على مقامة الاحتلال. فمثلا المجاهد الكبير عمر المختار رحمة الله لمع اسمه بعد عام 1925م عندما شرع في مقاومة الاحتلال الإيطالي في الجبل الأخضر في شرق ليبيا بينما الشيخ عز الدين القسام في نفس ذلك العام بدأ في إنشاء نواة الجهاد في فلسطين المحتلة حيث أخذ في تجميع أفراد ما سمى في وقتها (العُصبة القسامية). علما بأن أول عملية بارزة شنها مجاهدي العصبة القسامية ضد الاحتلال الإنجليزي في فلسطين هي ثورة البراق عام 1929م ثم مع استشهاد عزالدين القسام رحمة الله في عام 1936م انطلقت شرارة الثورة الفلسطينية الكبرى.
كما يعلم القارئ الكريم أن مقاومة المحتل والجهاد الذي صاحب الثورات العربية الأولى ضد العدو الأجنبي لم يتكلل بالنجاح لحكمة أرادها الله حيث تم وأد الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي وإفشال الثورة الليبية ضد الوجود الإيطالي في حين تلاشت الثورة الفلسطينية ضد الحكم البريطاني ومع ذلك حتى اليوم تذكر الأجيال المتعاقبة جهاد ونضال عمر المختار وعزالدين القسام وسلطان باشا الأطرش. من الناحية العسكرية لا تكافؤ ولا تقارب بين القوة المفرطة للجيوش النظامية للدول الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وبين المقاومة بما تيسر لها من الصمود والتصدي بالحد الأدنى من الأسلحة والتي في الغالب هي مجرد بعض المسدسات والبنادق العتيقة وهي كل ما كانت تملكه حركات الاستقلال العربية القديمة في عام 1925م وما بعدها. المشكلة تمكن أن الاحتلال الغاشم في القديم والحديث هدفه الأول كسر إرادة المقاومة والتنكيل الشديد بالحاضنة الشعبية التي قد تدعم الفدائيين والمجاهدين. وهذا يفسر الآن لماذا يقوم العدو الصهيوني بتعمد التدمير الهائل للمدن والبلدات وتقصد التمادي في سفك الدماء وبث الرعب في مناطق وجيوب المقاومة في فلسطين ولبنان وهذه الأيام وصلت جرائمه حتى أحياء دمشق وكأن التاريخ يعيد نفسه كما حصل قبل قرن من الزمان مع بدايات المقاومة السورية للنضال ضد الفرنسيين.
ودمعٌ لا يُكفكف يا دمشقُ
فبالرجوع للثورة السورية الكبرى التي اندلعت في عام 1925م نجدها في بدايتها انطلقت من مدن الأطراف السورية مثل دير الزور والسويداء بينما كانت المرحلة المفصلية عندما وصل الثوار إلى غوطة دمشق قبل أن يحاولوا السيطرة بعض الأحياء المهمة في وسط العاصمة مثل حي الميدان وحي الشاغور. وهنا جن جنون المحتل الفرنسي مما أسفر لارتكابه لجريمة قصف مدينة دمشق بالمدفعية من فوق قلعة المزة بالإضافة لاستخدام الطائرات مما نتج عنه هدم 600 منزل ومصرع الآلاف من المدنيين العزل واشتعال العديد من أحياء دمشق وذلك في يوم 19 أكتوبر من عام 1925هـ وهي الحادثة التي خلدها شاعر النيل أحمد شوقي بقصيدته المشهورة بعنوان (نكبة دمشق). من غرائب الصدف أن أول زيارة لأحمد شوقي لمدينة دمشق كانت في مطلع شهر أغسطس من عام 1925 هـ وعندما أقام المجمع العلمي العربي حفل تكريم لأمير الشعراء أجتمع كبار شعراء وأدباء ووجهاء دمشق للاحتفاء بأحمد شوقي وفي هذا الحفل ألقيت قصيدة شوقي في مدح دمشق (قُم ناجِ جِلّقَ). ولهذا بعد ذلك بشهرين ونصف عندما بلغت أحمد شوقي أخبار حريق دمشق نتيجة للقصف الفرنسي الأثيم تذكر أحمد شوقي الشعراء والخطباء الذين التفوا حوله في ذاك الأصيل الطلق المحيا ولهذا قارن شوقي ذكرياته عن بهاء دمشق في اليوم الذي زارها بحال دمشق بعد نكبتها وحريقها وفق الأخبار التي بلغته عنها عبر البريد والرسائل البرقية:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ
دَخَلتُكِ وَالأَصيلُ لَهُ اِئتِلاقٌ وَوَجهُكِ ضاحِكُ القَسَماتِ طَلقُ
وَحَولي فِتيَةٌ غُرٌّ صِباحٌ لَهُم في الفَضلِ غاياتٌ وَسَبقُ
عَلى لَهَواتِهِم شُعَراءُ لُسنٌ وَفي أَعطافِهِم خُطَباءُ شُدقُ
لَحاها اللهُ أَنباءً تَوالَتْ عَلى سَمعِ الوَلِيِّ بِما يَشُقُّ
يُفَصِّلُها إِلى الدُنيا بَريدٌ وَيُجمِلُها إِلى الآفاقِ بَرقُ
ثم بدأ شاعر النيل يرثي دمشق المنكوبة وينوح عليها ويشير في الحديث إلى هتك أستار نسائها فقد ذكرت بعض المصادر التاريخية إلى أن جيش الاحتلال الفرنسي أطلق على أخل دمشق مليشيات من الشركس والأرمن فنهبوا البيوت واغتصبوا النساء وأشعلوا النيران ولهذا ربما استخدم أحمد شوقي الاعتداء على الفتيات كنوع من المجاز والتمثيل الرمزي للاعتداء على دمشق نفسها وربما قصد به وصف عين الحقيقة:
رُباعُ الخلدِ وَيحَكِ ما دَهاها أَحَقٌّ أَنَّها دَرَسَت أَحَقُّ
وَأَينَ دُمى المَقاصِرِ مِن حِجالٍ مُهَتَّكَةٍ وَأَستارٍ تُشَقُّ
إِذا رُمنَ السَلامَةَ مِن طَريقٍ أَتَت مِن دونِهِ لِلمَوتِ طُرقُ
بِلَيلٍ لِلقَذائِفِ وَالمَنايا وَراءَ سَمائِهِ خَطفٌ وَصَعقُ
إِذا عَصَفَ الحَديدُ احمَرَّ أُفقٌ عَلى جَنَباتِهِ وَاسوَدَّ أُفقُ
سَلي مَن راعَ غيدَكِ بَعدَ وَهنٍ أَبَينَ فُؤادِهِ وَالصَخرِ فَرقُ
وهنا أنتقل شوقي إلى لوم وتقريع المستعمر وأنه يتحمل كامل وزر الجريمة ففرنسا تتشدق بالحرية لشعبها بينما هي شديدة البطش والظلم للشعوب التي لا تطلب إلا نفس درجة الحرية والاستقلال الذي تتشدق به فرنسا:
وَلِلمُستَعمِرينَ وَإِن أَلانوا قُلوبٌ كَالحِجارَةِ لا تَرِقُّ
رَماكِ بِطَيشِهِ وَرَمى فَرَنسا أَخو حَربٍ بِهِ صَلَفٌ وَحُمقُ
إِذا ما جاءَهُ طُلّابُ حَقٍّ يَقولُ عِصابَةٌ خَرَجوا وَشَقّوا
دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ
ثم يختم أحمد شوقي قصيدته الحماسية البديعة ليس فقط بأن يثني على الثوار ورجال المقاومة ويمجد جهادهم النضالي، بل إنه بحكمته وإدراكه لمسارات التاريخ الماضي يعلم بأن (الحرية الحمراء) لها ثمن غال يجب أن يدفع من دماء الثوار وأن سقوط المئات أو الآلاف من الأهالي الأبرياء. بل إن أحمد شوقي يقرر أن القتل والفتك هو في خاتمة المطاف سبب في بناء الدول (ولا يبني الممالك كالضحايا) وأن القتل في الواقع حياة للأمم وأن الوقوع في الأسر في الحقيقة طريق للحرية:
بَني سورِيَّةَ اطَّرِحوا الأَماني وَأَلقوا عَنكُمُ الأَحلامَ أَلقوا
وَقَفتُمْ بَينَ مَوتٍ أَو حَياةٍ فَإِن رُمتُمْ نَعيمَ الدَهرِ فَاشْقَوا
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا
وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ
فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
جَزاكُمْ ذو الجَلالِ بَني دِمَشقٍ وَعِزُّ الشَرقِ أَوَّلُهُ دِمَشقُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق