د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/5/28
في يوم 29 نوفمبر من عام 1947م حصلت الجريمة الأثيمة بصدور (قرار التقسيم) وهو القرار المشؤوم 181 رقم الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي أعطى شرعية دولية للكيان الصهيوني بعد تقسم فلسطين شطرين نصف للعرب ونصف لشذاذ الآفاق من اليهود المغتصبين. وبعد ذلك بعقود من الزمن وكنوع من التكفير عن الذنب في ترسيخ مأساة الشعب الفلسطيني وكنوع مواساة للملايين من اللاجئين الفلسطينية في أرض الشتات قامت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في عام 1977م بإعادة أحياء ذلك اليوم الحزين (29 نوفمبر) لكي يكون يوما سنويا ثابتا يحمل عنوانا طويل العبارة قليل التأثير (اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني). وفي حين (تضامن) الهيئة الأممية وأغلب حكومات دول العالم مع الشعب الفلسطيني ونصرتهم لقضيته العادة كانت مجرد تضامن لفظي باهت، نجد في المقابل (التعاطف) مع النضال الفلسطيني من قبل شرائح من شعوب العالم تعاطف صادق ومتصاعد. لا شيء جديد في دنيا السياسة: الشعوب أقرب للشعوب في حين أن الحكومات أقرب للحكومات ولذا عندما نجد أن حكومة أو سلطة تضطر أن تجامل السلطة الحاكمة في دول أخرى بالحق أو بالباطل نجد أن الشعوب يكون تعملها مع الشعوب الأخرى دافعه الأخوة الإنسانية المشتركة والتعاطف والتكاتف بين الإنسان وأخوة الإنسان.
وبالعودة لعام 1947م وذلك عندما تم تأسيس الكيان الصهيوني في أرض فلسطين ونجح هو وحلفائه في استصدار القرار سيئ الذكر (قرار تقسيم فلسطين) نجد العديد من قادة السود في المجتمع الأمريكي رحبوا في البداية بإقامة دولة إسرائيل بسبب أن السود لهم تاريخ طويل مع الاضطهاد داخل المجتمع الأمريكي. ولهذا تعاطفوا كثيرا مع الحركة الصهيونية وتقبلوا بسهولة فكرة أن يقوم اليهود المضطهدين والناجين من المحرقة النازية بتشكيل كيان سياسي مستقل لهم. (تعاطف) السود مع اليهود في بداية الأمر لم يكن مستغربا لأن الضعيف والمضطهد يتعاطف مع الضعيف والمضطهد مثله، ولكن هذا الأمر تغير بشدة بعد حرب 1967م ومع احتلال الكياني الصهيوني الغاشم لأراضي أربع دول عربية انكشفت الحقيقة الصارخة أن إسرائيل كيان إمبريالي استعماري مدعوم من الغرب. ومن هنا بدء قادة السود في الولايات المتحدة بتحويل تعاطفهم إلى أصحاب القضية الفلسطينية بعد أن تبين لهم أن أهل فلسطين وهم تحت الاحتلال والاضطهاد الإسرائيلي هم مثل السود في أمريكا يناضلون من أجل انتزاع الحرية والعدالة لأنفسهم. ولهذا نجد المؤرخ الأمريكي مايكل فيشباخ في كتابه (القوة السوداء وفلسطين) يستعرض بشكل مطول وموثق دعم الشخصيات البارزة في مجتمع السود الأمريكان للقضية الأمريكية مثل مارتن لوثر كينغ ومالكوم أكس ومحمد علي كلاي وغيرهم من القادة والمنظمات السياسية للسود في أمريكا.
وكما أن الشعوب تتعاطف مع الشعوب الأخرى نجد أن أصحاب النضال السياسي في دولة أو اقليم ما يتضامنون مع أصحاب النضال السياسي في دولة أخرى، وهذا في جانب منه يفسر لنا الحالة البارزة من تضامن شعوب وقادة حركات الاستقلال في بعض الدول وكذلك تفسير تعاطف بعض حكومات الدول الاشتراكية مع القضية الفلسطينية. خذ على ذلك مثلا علاقة إيرلندا ببريطانيا فلعدة قرون كانت كامل الجزيرة الإيرلندية تقع تحت حكم التاج البريطاني حتى حرب الاستقلال الإيرلندية عام 1919م ومع ذلك بقي إقليم شمال إيرلندا تحت السيطرة الإنجليزية. ومن هنا ما زال جزء من الشعب الإيرلندي يخوض نضال ضد المحتل ولذا في ضوء هذه (الأرضية المشتركة) بين الشعب الأيرلندي والشعب الفلسطيني في النضال ضد المستعمر والاحتلال الغاشم لذا نجد أن الشعب الإيرلندي من أكثر الشعوب الأوروبية تعاطفا وتضامنا مع القضية الفلسطينية العادلة. الجدير بالذكر أنه وفي وقت مبكر دعت الحكومة الإيرلندية إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وذلك عام 1980 (علما بأن إعلان الدولة الفلسطينية حصل عام 1988م) وفي نفس السياق لم تسمح الحكومة الإيرلندية بافتتاح سفارة إسرائيلية في العاصمة دبلن إلا عام 1993م أي بعد محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
بعد ذلك بسنة واحدة أي في عام 1994م تغير نظام الحكم في دولة جنوب أفريقيا وذلك بعد سقوط حكم نظام الفصل العنصري ضد السود (الأبارتايد) وتولى زمام السلطة المناضل البارز نيلسون مانديلا والذي أشتهر بمقولته الرائعة ذات الدلالة البالغة (نحن نعلم أن حريتنا غير مكتملة بدون حرية الفلسطينيين). في الواقع علاقة التعاطف والتضامن بين قادة النضال السود في جنوب أفريقيا وبين قادة النضال الفلسطيني تعود لعقود طويلة قد تصل لفترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين عندما زار نيلسون مانديلا بعض الدول العربية مثل الجزائر ومصر. ومع ذلك أوضح صور للتضامن المشترك بين النضال الفلسطيني والنضال الجنوب أفريقي حصل في شهر فبراير من عام 1990م فبعد أيام فقط من إطلاق سراح نيلسون مانديلا تم اللقاء الشهير بينه وبين ياسر عرفات وذلك في دلالة واضحة أن مسيرة نضال الشعوب واحدة ومتطابقة.
اللقاء الأول بين عرفات ونيلسون مانديلا كان يجب أن يحصل خارج دولة جنوب أفريقيا التي لم يكن نظامها العنصري في عام 1990م ليسمح بدخول ياسر عرفات ومع ذلك وفي عام 1994م حضر ياسر عرفات للمشاركة في حفل تنصيب نيلسون مانديلا رئيسا لدولة جنوب أفريقيا. بعد مسيرة النضال الطويلة للسود في جنوب أفريقيا حرص القائد الفلسطيني على مشاركتهم فرحة الفوز بالنصر وكذلك كمحاولة للاستفادة من تجربتهم النضالية ولذلك وقبل اجتماع ياسر عرفات بنيلسون مانديلا وبالتحديد في عام 1968م زار ياسر عرفات جبال فيتنام الشمالية. كان الهدف من هذه الزيارة هو اللقاء بشكل مباشر لياسر عرفات مع قائد النضال الفيتنامي ضد الاحتلال الأمريكي الرئيس الفيتنامي المشهور هوشي منه وقائده العسكري البارز الجنرال جياب وذلك لتوثيق علاقة النضال بين الشعب الفلسطيني والشعب الفيتنامي وكذلك للاستفادة من التجربة الفيتنامية ونقل تجربة حرب العصابات للأراضي المحتلة وفتح جبهة حرب العصابات (هانوي العربية) لدعم المناضلين الفلسطينيين. ومع تكرر زيارة ياسر عرفات لفيتنام حوالي عشر مرات ولهذا لا غرابة أن نجد أنه كما كانت إيرلندا سباقة في تأييد إقامة دولة فلسطينية مستقلة كانت دولة فيتنام من أوائل الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية بعد الإعلان عن أقامتها عام 1988م كما سبق وأن ذكرنا. ومن الشخصيات السياسية البارزة كذلك التي ناضلت ضد الهيمنة الأمريكية الرئيس الكوبي فيدل كاسترو والذي نجده هو الآخر ومنذ مرحلة مبكرة يتجاوب مع نضال الشعب الفلسطينية ويتضامن مع حركة المقاومة الفلسطينية لدرجة أن كاسترو أعلن في عام 1973م قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وبعد ذلك بفترة قصيرة حصل أول لقاء بين ياسر عرفات والثائر الأحمر فيدل كاسترو.
يا ثوار العالم الشيوعي اتحدوا لأجل فلسطين
ولفهم ارتباط منظمة التحرير الفلسطينية بحركات التحرر الشيوعية الحمراء في فيتنام وكوبا أعتذر من القارئ الكريم إذا طال السياق لحاجتنا للرجوع في التاريخ السياسي إلى حقبة الحرب الباردة وبالذات إلى مرحلة التنافس بين القطبين الأمريكي والاتحاد السوفيتي على النفوذ في دول العالم الثالث. وهنا نجد أن التيار اليساري في بعض الدول الشيوعية التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي أو الصين الشعبية وكوسيلة في حربها ضد الرأسمالية والاستعمار والهيمنة الأمريكية بدأت في دعم جماعات النضال الثورية المناهضة للإمبريالية الغربية. وفي هذا المنظور نفهم لماذا بعض الدول الشيوعية مثل فيتنام وكوبا وبعض الأحزاب الشيوعية وعدد من المنظمات العمالية العالمية ساندت وتضامنت مع القضية الفلسطينية. والجدير بالذكر أنه في فترة الستينيات وما بعدها من القرن العشرين تداخلات بشكل ما مجموعة من الحركات والتيارات السياسية الدولية مثل حركات ومنظمات التحرر الوطني وكذلك نشطاء التضامن الدولية مع تيارات الثورة العالمية. ونخص بالذكر هنا أنه في تلك الفترة نشأت فكرة مشتركة بين الحركات الثورية الشيوعية في مختلف البلدان أنها لو اشتركت في مسعى التضامن الثوري اليساري الدولي فهذا من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى اندلاع ثورة اشتراكية عالمية.
وهنا قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهي حركة يسارية يقودها وديع حداد وغسان كنفاني بفتح قنوات اتصال مع الجماعات والمنظمات الثورية الشيوعية الدولية مثل الجيش الاحمر الياباني الذي شارك حوالي 40 مقاتلا من عناصره في النضال المسلح في داخل الأراضي المحتلة. وكان من أشهر العمليات القتالية للجيش الأحمر الياباني لأجل فلسطين اقتحام مطار اللد الإسرائيلي في عام 1972م مما تسبب في مصرع 26 شخصا وإصابة حوالي 80 آخرين ومقتل اثنين من المهاجمين اليابانيين. وفي نفس السياق تحول العديد من الشيوعيين واليساريين من مختلف الدول من حالة التعاطف مع الشعب الفلسطيني إلى حالة النضال لأجل القضية الفلسطينية كما حصل مع بعض أفراد منظمة (بادر ماينهوف) اليسارية الألمانية الذين قاموا باختطاف طائرة ألمانية تابعة لشركة لوفتهانزا وطالبوا بتحرير أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية.
وبمناسبة ذكر خبر اختطاف الطائرات لأجل التضامن مع الشعب الفلسطيني من العجيب أنه في فترة الستينيات والسبعينيات عندما كان يتم تنفيذ العمليات الإرهابية في مختلف دول العالم باسم النضال لأجل القضية الفلسطينية (مثل اختطاف الطائرات وتفجير السيارات المفخخة واحتجاز الرهائن) كان العرب كل العرب يعتبرون القضية الفلسطينية قضيتهم الأولى بالرغم من أن كتائب المناضلين كانت في الغالب شيوعية حمراء. ثم لما أصبح الجهاد لأجل القدس ومسرى الرسول هو نضال إسلامي أخضر وتم حصر العمل الفدائي داخل الأراضي المحتلة فقط بدأ بعضنا يسخر من النضال من أجل (الكضية) ويلمز من أهل فلسطين بزعم أنهم باعوا أرضهم والبعض أعلن القطيعة بشكل فج وذلك برفع شعار (فلسطين ليست قضيتي).
ومع ذلك فإن الشرفاء من مشارق الأرض ومغاربها استشعروا عدالة القضية الفلسطينية وشعبها المضطهد ولهذا تدرج البعض في الدول الأوروبية بالذات من التعاطف مع القضية الفلسطينية إلى مرحلة التضامن مع الشعب الفلسطيني وبعضهم وصل به الحال إلى النضال من أجل فلسطين على أرض فلسطين. قبل عدة سنوات نشرت مقالا حمل عنوان (النضال الفلسطيني وتعاطف الغرباء) حشدت فيه أمثلة متعددة لرجال ونساء ليسوا من بني جلدتنا ولكنهم تبنوا القضية الفلسطينية ودافعوا عنها وناضلوا في سبيلها بدمائهم وأموالهم. فهذه الشابة الامريكية راشيل كوري عضو حركة التضامن العالمية من أجل الشعوب التي ضحت بنفسها على تراب فلسطين عام 2003م عند وقوفها أمام جرافة عسكرية اسرائيلية كمحاوله منها لمنع تخريب مزارع وهدم منازل الأسر الفلسطينية في مدينة رفح بقطاع غزة. وهذا المراسل الصحفي الايطالي فيتوريو أوريغوني يلقى هو الآخر مصرعه في سبيل القضية الفلسطينية التي تبناها وناضل عنها لدرجة أنه انتقل للعيش لمدينة غزة منذ عام 2008م تاركا عائلته ووالده المصاب بالسرطان. بينما المناضل الإيطالي فرانكو فونتانا يتبنى وهو شاب القضية الفلسطينية ويشارك منذ عام 1969م في العمليات الفدائية الفلسطينية ثم يقوم ببيع كل أملاك والده ويتبرع بها للمخيمات الفلسطينية التي عاش بها حوالي 22 سنة وأخير بعد أن أعتنق الإسلام وتوفي في عام 2015م أوصى أن يدفن في فلسطين.
وفي الختام أود أن أعرج مرة أخرى على (اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني) والذي حلت مناسبته يوم أمس الجمعة 29 نوفمبر فبعد ما كانت القضية الفلسطينية في العقود الماضية شبه منسية ويتم تذكرها بشكل خجول في هذا اليوم أكاد أجزم أنه خلال هذا العام 2024 حصلت وبشكل متكرر يوميا صورة من صور التضامن والتعاطف مع القضية العادلة: قضية شرفاء العالم قاطبة. الجميع يرصد وبشكل متكرر خلال أيام هذه السنة أخبار الوقفات والمسيرات والاعتصامات والفعاليات والندوات في مختلف دول العالم المتضامنة مع معاناة الشعب الفلسطيني وذلك في تناقض صارخ مع التزايد الحاد لموجة معاداة السامية الجديدة وفق ما فصلته في مقال نشر قبل أسابيع بعنوان (موجة إعادة إحياء كراهية اليهود ومعادة السامية).
كما لا يخفى لا تكفي المساحة المتبقية لهذا المقال لذكر نماذج وأمثلة لتضامن شعوب العالم طوال هذه السنة مع القضية الفلسطينية ولكنني سوف أختم بربط أول المقال بآخره ووصل التاريخ القديم بالتاريخ المعاصر من خلال التذكير بموقف الشعب والحكومة الإيرلندية قبل أربعة عقود بموقفها الآن من خلال مقاطع فيديو اليوتيوب المتعددة لكلمات النواب في البرلمان الإيرلندي المتعاطفة والمتضامنة مع المأساة الفلسطينية في قطاع غزة. كما لا ينبغي أن نغفل الدور الكبير لحكومة جنوب أفريقيا في جرجت وإهانة الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن المحامية السيدة بلين غرايلي التي مثلت جنوب أفريقيا في رفع هذه الدعوى كانت ذات جنسية إيرلندية وهذا يعزز فكرة أن الشرفاء من الشعب الإيرلندي والشعب الجنوب أفريقي كانوا وما زالوا يؤيدون القضية الفلسطينية. في سياق الحديث ذكرنا في مقدمة المقال أخبار بعض مشاهير ثوار العالم الذين تعاطفوا مع حقوق الشعب الفلسطيني مثل المناضل الكبير نيلسون مانديلا والمناضل الأمريكي الأسود مارتن لوثر كينغ ومع ذلك نود الإشارة إلى أنه خلال السنة الماضية تكررت التصريحات من حفيد نيلسون مانديلا السيد زويليفيل مانديلا في دعم النضال الفلسطيني لدرجة أنه قال (سنعمل وسنسعى إلى تحرير فلسطين). وكذلك تناقلت وسائل الإعلام تصريحات لابنة المناضل الأمريكي مارتن لوثر كنغ قبل عدة أشهر عندما قالت لو إن والدها كان على قيد الحياة لتدخل لإيقاف الحرب على غزة. وقبل أيام قليلة فقط صرحت ابنة المناضل الشيوعي البارز تشي غيفار السيدة أليدا بمقولة غير متوقعة خصوصا لدى من يسخرون من (الكضية) الفلسطينية حيث قالت (يجب أن يتحد العرب لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي مرة واحدة وإلى الأبد .. ويجب أن نقولها: فلسطين من النهر إلى البحر).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق