هل فعلا الروايات الأدبية دليل على المؤامرات الكونية
د/ أحمد بن حامد الغامدي
من لطائف الاستنباط أن المفكر العراقي
المعروف علي الوردي ذكر في كتابه خوارق اللاشعور أنه ليس هناك حد واضح بين الوهم
والحقيقة وأن الوهم (كثيرا ما يؤدي إلى خلق الحقيقة). ولا أدل من احتمالية تسبب
الوهم والخيال في خلق الواقع ما أنتشر مؤخرا لدى شرائح واسعة من المجتمعات من
التصديق بنظرية المؤامرة وأن أعمال روائية متخيلة يمكن أن تفرض نفسها على الواقع لتصبح
حقيقة ملموسة. الأعمال القصصية والروايات الأدبية مبنية على التخيلات ومرتكزة على
التوهمات فهل بالفعل يمكن أن يتحول الخيال إلى واقع أم أن الأمر لا يعدو أن يكون (خداع ذهني) وانحراف في البصر والبصيرة.
في الواقع مع تفشي وباء الأمراض
المعدية تفشى أيضا بلاء اختلالات التفكير الذهنية لدرجة أننا أصبحنا أكثر تقبل
لتصديق نظرية المؤامرة بسبب فقرة في كتاب أو عبارة في خطاب. ومن ذلك مثلا اقتناع
الفئام من الناس أن الوباء الفيروسي الأخير مؤامرة محبوكة من الغرب ضد الشرق وكل
سندهم في ذلك فقرة واحدة واشارة عابرة وردت في رواية (عيون الظلام) للروائي
الأمريكي دين كونتيز تشير بأن مدينة ووهان الصينية سوف تكون هي بؤرة انطلاق وباء
قاتل يتسبب به فيروس خبيث يحمل أسم Wyhan 400 (ووهان - 400). وبحكم أن
هذه الرواية منشورة منذ أربعين سنة لذا فكيف تحول (الوهم والخيال) الادبي في
الرواية إلى (حقيقة) واقعية في الزمن الحالي الذي يشهد زخم هائل للاقتصاد الصيني إلا
إذا كان وراء الأمر مؤامرة أمريكية تريد عرقلة انطلاق التنين الصيني المندفع. يقال
إن العين لا ترى إلا ما يراه العقل وإذا كان الذهن تسيطر عليه فكرة مضللة فإنه سوف
يخدع البصر بمشاهدة أشياء ليست موجودة في الواقع.
صحيح أنه في تلك الرواية المذكورة تم النص
على أسم الفيروس المرتبط باسم المدينة الصينية ولكن لا يوجد على الأطلاق في تلك
الرواية ان هذا الفيروس سوف ينتشر في العالم في سنة 2020م وهنا تلاعب الذهن بالنظر
وأصبح البعض يؤكد أن الرواية مكتوب فيها كذلك سنة انتشار الوباء وهو أمر غير صحيح.
الخداع البصري بسبب التضليل الذهني يجعل البعض لا يرى الحقيقة الصارخة أن الطبعة
الأولى لرواية عيون الظلام لم يرد فيها أسم مدينة ووهان الصينية ولا فيروس ووهان
400 ولكن بدلا من ذلك ورد أسم المدينة الروسية غوركي في حين أن أسم الفيروس كان
غوركي 400 (Gorki
400). ما حدث كالتالي: عندما نشرت الرواية أول مرة عام 1981م كان
الاتحاد السوفيتي هو العدو الأخطر على الأمريكيين ولهذا كانت المدينة واسم الفيروس
من أرض العدو الروسي. أما عندما سقط الاتحاد السوفيتي عام 1989م ولم يعد هو الخطر
الأول ظهرت النسخة الثانية من الرواية في تلك السنة وتم تغيير اسم المدينة
والفيروس إلى عالم العدو الجديد: الصين.
غالبا من يكون الوهم أشد رسوخا من الحقيقة
ولهذا تكون نظرية المؤامرة جذابة ومغرية للتصديق لأنها تريح العقل من كد التفكير
في تفسير الأمور الغريبة والوقائع المعقدة. والملاحظ أن مسار التفكير التأمري
دائما يكون مبني على الرجوع للماضي وإعادة اعتساف تفسير الأشياء بحيث تتماهى مع
الحكم المسبق الذي يريد أن يصل له أصحاب نظرية المؤامرة. وكدلالة على هذا الأمر خذ
أيها القارئ العزيز المثال التالي: في العام 1923م نشر عالم الكيمياء الأمريكي
البارز هربرت لويس (صاحب قانون تركيبات لويس الذي يعرفه جميع طلاب المرحلة
الثانوية) رواية أدبية حملت عنوان (البرق الأبيض) تنبأ فيها بظهور سلاح القنبلة
الذرية. الاشكال أن نظرية الانشطار الذري واحتمالية إطلاق كمية هائلة من
الطاقة
من تفكك أنوية الذرات لم تظهر في المجتمع العلمي إلا عام 1939م فكيف تنبأ العالم
لويس باستخدام السلاح النووي. وليس هذا فحسب بل إن العالم لويس حدد بالضبط من هم
الأعداء الذين سوف يوجه لهم هذا السلاح حيث كتب في تلك الرواية الأدبية (البرق دون
الذري وحده هو الذي سيعلم الألمان) كما تنبأ بحصول صراع مع اليابان وتفجير قنبلة
في هذه الحرب.
كما يعلم الجميع أسباب ومسار أحداث الحرب العالمية
الثانية معقدة وتحكمت بها عوامل متداخله ولهذا من السذاجة أن يجنح أصحاب نظرية
المؤامرة إلى أن الحرب كان مخطط لها سلفا وتم افتعالها للقضاء على القوة النامية
للأمتين الألمانية واليابانية. وطبعا لا يكفي لهذا الاستنتاج الساذج أن نقول إن
عالم كيميائي أمريكي (تنبأ) بتدمير الالمان واليابانيين بالقنابل النووية قبل
تصنيعها بعشرين سنة كما يقال حاليا بأن الامريكان خططوا لتدمير الاقتصاد الصيني
بنشر الفيروس وأن المؤامرة هي تنفيذ لرواية نشرت قبل ذلك بعدة عقود من الزمن.
يا سادة يا كرام إن شرح وتعليل حالة التوافق
بين الخيال والوهم وبين الحقيقة والواقع أمر صعب ولا يتفق الجميع في قبول التعليل
العلمي حول هذه الظاهرة وإن كان يمكن اختصار الأمر بإن الاحتمالات الإحصائية تشير
إلى أن الأمر هو مجرد مصادفة وليست مؤامرة. النظرة الإحصائية لبعض الظواهر تقول إنها
بالرغم من غرابتها وكون احتمالية probability حدوثها منخفضة إلا إن
هذا لا يعني بالضرورة استحالة إمكانية possibility حصولها. من أطرف الأفكار التي
تطرح في مجال الاحتمالات الإحصائية نظرية (لامتناهية القرد infinite
monkey) والتي تفترض أنه لو
أتيح
لقرد أن يطبع على آلة كاتبة بشكل عشوائي لفترة زمنية غير منتهية فسوف توجد
احتمالية احصائية أن ينتج بالصدفة المحضة إحدى فصول مسرحيات شكسبير.
وبعيدا عن هذه المبالغة الفجة لنفترض أن شخصا
عالي الثقافة والمهارة الأدبية ولدية خبرية متعمقة في علم البحار والسفن البحرية
مثل الكاتب الأمريكي مورغان روبرتسون فهل سوف يكون مستغربا من الناحية الإحصائية
أن يكتب رواية أدبية تتنبأ بحصول كارثة غرق السفينة الشهيرة التيتانك. في عام
1898م نشر مورغان روبرتسون روايته العجيبة المسماة (العبث Futility)
والتي
تنطبق أحداثها بشكل غريب جدا مع مجريات أحداث غرق سفينة التيتانك والتي تمت في عام
1912م. بكل الصدق أمر محير جدا تفسير التطابق العجيب بين أحداث الرواية (الوهم)
وبين الأحداث الفعلية لغرق سفينة التيتانك (الحقيقة). فمثلا اسم السفينة في
الرواية تيتان وفي الواقع تيتانك وكلا منهما زعم أنها سفينة غير قابلة للغرق ومع
ذلك كلا منهما (في الرواية وفي الواقع) تغرق حول منتصف الليل من شهر أبريل على
مسافة 400 ميل من الساحل الشرقي لكندا نتيجة لتضرر ميمنة السفينة بسبب الاصطدام
بجبل جليدي عندما كانت السفينة تندفع عبر مياه المحيط الاطلسي بسرعة حوالي 22 عقدة
بحرية. من ناحية علم الإحصائية احتمالية التطابق المذهل بين الخيال الروائي
والمأساة الحقيقة لسفينة التيتانيك ضئيل جدا لكنه غبير مستحيل إحصائيا ومع ذلك الموقف
صعب جدا لأصحاب نظرية المؤامرة أن نقبل منهم اقتناعهم وقبولهم أن غرق تلك السفينة الشهيرة
كان مدبر ومتعمد لا لشيء إلا لأن تفاصيل الحادثة كانت منشورة قبل ذلك بأربع عشرة
سنة.
من الإحصاء إلى علم النفس لتفسير نظرية
المؤامرة
علم الاحتمالات الإحصائية يخبرنا أنه لو وجد
أديب أو كاتب مهتم بمجال ما ومطلع عليه بشكل جيد (مثل علم الاقتصاد أو علم الأمراض
المعدية) فإنه يمكن أن ينتج رواية أدبية توجد بها بعض الفقرات أو بعض التوقعات
(الوهم أو الخيال) التي يمكن أن تتنبأ بشكل ملحوظ بحصول أحداث فعلية. مثل توقع
إفلاس شركة كبرى أو انهيار سوق الاسهم والبورصة أو حتى حدوث وباء فيروسي مريع. الاحتمالية
الإحصائية لهذه السيناريوهات والحبكات الأدبية في الغالب ضعيفة جدا (ولهذا قيل
قديما كذب المنجمون ولو صدقوا) ولكن ما يفسر سبب تضخيمها وارتفاع ضجيجها هو
سيكولوجية التفكير لدي العقل البشري وهنا يأتي دور علم النفس في تفسير ظاهرة
(نظرية المؤامرة). ما ينبغي التنويه عليه أننا كبشر في العادة في حكمنا على أشياء
والظواهر نتأثر بدرجة أو أخرى بالأحكام المسبقة والانحيازيات المعرفية. قد تكون
عبارة (دماغك يخدعك) التي يستخدمها البعض هي عبارة فجة وصادمة لكن هذا الواقع وقد
توصل علماء النفس والتعليم لعدد كبير من أنواع الانحيازيات المعرفية ما يهمنا منها
هنا هو ما يسمى الانحياز التأكيدي (confirmation bias).
في هذا الانحياز الادراكي يميل الذهن البشري
إلى تفضيل المعلومات التي (تؤكد أفكاره المسبقة) وهذا من شأنه أن يجعل الشخص منا
يقبل صحة ادعاء ما ليس بسبب صحة البراهين في ذاتها ولكن لأن هذا الادعاء يلائم
أفكارنا وافتراضاتنا المسبقة. وبالرجوع لرواية (عيون الظلام) واستخدامها لتعزيز
نظرية المؤامرة يمكن أن نقول إن موضوع الوباء والامراض المعدية منتشر في عدد كبير
جدا من الروايات الأدبية والتي بها توقعات وأحداث كثيرة لم تقع لكن بسبب (الانحياز
التأكيدي) تم اصطفاء وانتقاء تلك العبارة الواحدة فقط من رواية (عيون الظلام) وتضخيمها
لتصبح دليل حاسم عند البعض على وجود مؤامرة في حين تم اهمال ذكر كل الروايات
الأخرى التي تحدثت عن الوباء والامراض وفشلت في التنبؤ بأحداث حقيقة.
قريب من طريقة التفكير الانحيازية هذه نجد
كذلك مفهوم (الالتقاطية Cherry picking) وهي كمن يلتقط ويتناول حبات الكرز
البراقة الشهية من الطبق ويترك الحبات الداكنة بمعنى أن الشخص أو الذهن البشري
يقوم بالتقاط واختيار picking البيانات والمعلومات التي تعزز رؤيته
وأفكاره المسبقة مع تجاهل جزء كبير من البيانات والمعلومات التي لا تؤيد أو تعارض
تلك التصورات المسبقة.
في هذا السياق قد يكون من الملائم ربط نظرية
المؤامرة بظاهرة هوس البعض على إثبات أن كوكب المريخ قد سبق وأن عاشت عليه كائنات
ذكية ودليلهم الوحيد في ذلك هو استخدام صور أشكال الصخور كما تستخدم حبات الكرز في
ظاهرة الالتقاطية السابقة الذكر. في الواقع تقوم وكالة الفضاء الامريكية ناسا
بتحميل الاف الصور لسطح المريخ التي التقطتها الأقمار الصناعية ونشرها على شبكة
الانترنت. وهنا يقوم أدعياء نظرية غزو الكائنات الفضائية (بفرز) هذه الصور
وانتقاء (والتقاط) الصور التي بسبب الخداع البصري تبدو وكأنها تشبه شكل بناء هرمي
أو وجه أنسان أو شكل جسم أبو الهول ويستخدمون هذا (الوهم) لمحاولة اثبات أن كوكب
المريخ مسكون بكائنات حية ذكية. نفس هذه الظاهرة تتكرر كثيرا في حياتنا اليومية من
خلال (التوهم) أن بعض السحب تحمل اشكال حيوانات أو أن شكل ظلال القمر تحمل صورة
انسان أو أن البقع السوداء المنتشرة على البلاط قد تحمل صورة المغنية أم كلثوم كما
هي الطرفة التي انتشرت مؤخرا مع هواجس الحجز المنزلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق